كانت المفكرة من أول الذين طعنوا بإلغاء القرعة التي كان يتوجب أن تنتهي بموجبها ولاية خمسة أعضاء من المجلس الدستوري، وعدت الغاءها بمثابة تمديد لولايات هؤلاء جميعا، وبالتالي بمثابة رشوة وتعرضا لاستقلالية المجلس. وقد شاركها بهذا الرأي ولو بعبارات مختلفة عدد من الباحثين منهم الكاتب وسام لحام. لكن اللافت أن الطبقة السياسية لزمت آنذاك الصمت ولم تول هذه الحجج أي اعتبار الا حين خشيت أن يستخدم المجلس الدستوري كأداة لتعطيل مآربها المحتملة في التشريع، غداة الطعن بقانون تعليق مهل الترشيح. وهي بذلك بدت وكأنها تغض الطرف عن استقلالية القضاء وتشارك في اضعافها ولا تتذكر بأهميتها الا حين تخشى أن يقرر القضاء في وجهة مخالفة لمصالحها. ما حصل مؤخرا انما يشكل نموذجا لافتا على هذا التوجه الذي من شأنه أن يجرد القضاء ومعه القانون من وظيفته الأساسية في حل الأزمات والنزاعات، فكأنما الطبقة السياسية تجهد لتجريد القضاء من ضماناته حفظا لحقها بالطعن بأي قرار لا يرضيها، بحجة أن القضاء عار من أي ضمانات. والمضحك والمبكي في هذه المسألة هو موقف رئيس المجلس الدستوري نفسه الذي يلزم صمتا مطبقا إزاء اغراء أعضائه في وضح النهار وتثور ثائرته كلما انتقد أحدهم ذلك: فأي مشروعية لمجلس اختار طوعا وتكرارا ألا يدافععن استقلاليته؟ (المحرر).
هناك بيت شعري من التراث العربي يكثر استعماله في الكتابات الفلسفية. وربما نستطيع اليوم أن نطبقه على الحالة اللبنانية بشكل يثير الدهشة كونه يعكس الحقيقة بكل تفاصيلها المؤلمة. يقول الشاعر عمران بن حطان:
يوما يمان إذا لاقيت ذا يمن وإن لقيت معدّيا فعدناني
والبيت قديم يصعب فهمه اليوم لكنه يتكلم عن تقلب أهواء البشر وكيف يهاجم المرء فكرة ما ثم يعود ليدافع عنها لاحقا وهذا طبعا حسب مصالحه المتبدلة التي لا تريد الحق إلا عندما يناسبها. فكم من السهل أن يدافع الانسان عن الحق والفضيلة عندما يستفيد منهما وكم من الصعب أن يقر بخطئه ويعترف أن المبادئ التي لطالما دافع عنها تلزمه أن يضحي بمنفتعه الشخصية كي يحافظ على انسجامه مع المثل العليا التي يعتنقها؟
وبيت الشعر هذا يصف لنا مواقف الأحزاب السياسية اللبنانية من المجلس الدستوري. فبغض النظر عن الموقف من أعضاء المجلس الذين رفضوا اجراء القرعة لأسباب واهية، ألا يصاب المراقب الموضوعي للساحة السياسية اللبنانية بالذهول عندما يرى أن الأطراف عينها التي صوتت على قانون الغاء القرعة تنتصب اليوم لتشكك بشرعية المجلس الدستوري وهذا تحسبا فقط لإمكانية ابطال قانون تعليق المهل الانتخابية أو ابطال قانون اللقاء الأرثوذكسي في حال أقر وتم الطعن به.
والأمر نفسه ينسحب على موضوع التجديد لعضو سابق في المجلس المذكور. صحيح أن عملية التجديد هذه تحتمل التأويل وتتعدد فيها الاجتهادات لكن كيف نحمل المجس الدستوري وزر هذه القضية عندما يكون الشخص المعني تقدم بترشيحه حسب ما تنص عليه الفقرة “ج” من المادة الثالثة الجديدة من قانون انشاء المجلس الدستوري، وتم ليس فقط قبول هذا الترشيح بل تم تعيينه أيضا من قبل الجهات عينها التي تشكك بشرعية المجلس؟
ولا شك أن مرد هذا الواقع المرير هو تدني الثقافة القانونية في بلادنا وغياب الحس بالمسؤولية المدنية. فكلمة “دستور” مثلا تعود أصولها الى اللغة الفارسية وهي تعني “صاحب القاعدة” (من “دست” أي قاعدة، و “ور” أي صاحب). القاعدة هي إذا جوهر القوانين، أي القدرة على توقع عواقب تصرف ما نتيجة وجود نص يمنع الاعتباطية والسلطة التعسفية التي لا تعرف ضابطا لها سوى الظروف ومزاج الحاكم. فالمواطن في دولة تحترم القانون يستطيع أن يتوقع تصرف الإدارة في كثير من المواضيع كونه يعلم أن هذه الأخيرة ستطبق القانون بكل حذافيره ولن تحيد عنه قيد أنملة. أما في لبنان وغالبية الدول العربية يقف المواطن أمام الادارة وكأنه يواجه المجهول وهذا لا يعود إلى عيب في القانون بل إلى خلل جسيم في تطبيقه. والجملة الشهيرة التي تنسب إلى “لاكوردير” تظهر لنا مدى خطورة هذا الأمر: « entre le fort et le faible, c’est la liberté qui opprime, la loi qui libère ».
فإذا كان القانون هو الذي يحمي الضعيف فلنتخيل الوضع عندما تعم الفوض كيف يصبح حال المواطن العادي الذي لا يفقد حماية القاعدة العامة وغير الشخصية ويصبح ملزما بطلب حماية هذا الزعيم الطائفي أو رجل الدين ذاك.
من الطبيعي أن تحاول الأحزاب السياسية استخدام الوسائل القانونية للدفاع عن مصالحها وهذا أمر نجده في غالبية دول العالم، لكن المستهجن هو هذه الخفة بالتعامل مع مؤسسة بالغة الأهمية كالمجلس الدستوري واستسهال الطعن بشرعيته عندما تكون رياحه غير مؤاتية لشراع جهة سياسية ما. فالذي يذهب إلى تسويغ كل تفسير قانوني خدمة لمصلحة آنية لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يعتد بكلامه لاحقا. فما قيمة الانسان الذي يقول شيئا ويفعل نقيضه؟
القانون في لبنان وجهة نظر وهو بأحسن الأحوال رأي يقابله رأي آخر مع العلم أن غاية القانون الأساسية هي حسم النزاع في موضوع خلافي وفق قواعد موضوعة مسبقا. فإما يحصل حسم النزاع بالقانون أو بالعودة إلى شريعة الغاب حيث يحق للأقوى أن يفرض ما يشاء على الضعيف. فعندما يتم الاستخفاف بالقوانين لهذه الدرجة يصبح من الأفضل تجاهلها والبحث عن وسائل أخرى لفض الاشتباك السياسي. فعندما يسقط القانون يصبح العنف هو البديل. وقد قال “كلاوسفيتز” جملته الشهيرة بأن الحرب بين الدول هي استمرار السياسية بوسائل أخرى. وفي لبنان الحرب الأهلية هي أيضا استمرار للسياسية لكن بدل أن يشكل القانون ضمانة لحسم النزاع وتأمين عمل المؤسسات المنتظم والطبيعي يصبح العنف هو الخيار الوحيد. فإلى كل الذين يتلهون بستفيه القانون وتحويل الأحكام القضائية إلى وجهة نظر لا بد أن نقول أنتم تلغون طرق حسم النزاعات وتضاعفون احتمالات الحرب الأهلية: أنتم تشاركون بقتل اللبنانيين لأنكم جعلتم مصالحكم السياسية أسمى من القانون.
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.