"Au meilleur régime s’oppose le pire…"
( Saint Thomas d’Aquin, De Regno, Chapitre III)
من العبر التي يستطيع الإنسان أن يستخلصها من الفلسفة المشائية فكرة مهمة يتكلم عنها أرسطو تتعلق بالفساد الذي يلحق المؤسسات. ولا بد في المقام الأول من تحديد مدلولات كلمة "فساد". فنحن لا نريد المعنى الشائع اليوم الذي يطلق على ترهل إدارات الدولة وسوء أمانة هذا الموظف أو ذاك بل المقصود هو المعنى الفلسفي الذي يرى أن الفساد هو التغيير الذي يلحق بالمبدأ الموجه للشيء.
وبما أن الانحراف الذي يصيب مبدأ مؤسسة ما هو الفساد الذي نقصده فإن بشاعة هذا الانحراف تصبح أكبر بقدر ما كانت المؤسسة نبيلة وشريفة في غايتها. ففساد الكامل أشنع بما لا يقاس من فساد الناقص إذ إن الكمال هو الخير والخير لا يمكن أن يكون في كل نوع من أنواعه إلا واحدا بينما النقصان متعدد وهو قد يعرض على الشيء بأوجه مختلفة.
لكن الدستور هو أشرف القوانين في دولة ما لأنه ليس فقط ينظم حياة الدولة ويحدد هويتها وعمل السلطات فيها بل هو أيضا أرفع القوانين كونه يحتل المكانة الأولى في هرمية القوانين الوضعية. وأرسطو نفسه يقول لنا أن احترام "الدستور في الحياة، ينبغي أن لا يعتبر عبودية، بل نجاة وخلاصا". فإذا كان الدستور هو أشرف القوانين فإن المؤسسة التي تتولى الدفاع عنه –وهي المجلس الدستوري وفق المادة 19 منه- ينبغي أن تكون أشرف المؤسسات.
والمجلس الدستوري اللبناني هو من الانجازات القليلة التي خرج بها اتفاق الطائف، إذ ان القضاء الدستوري اليوم هو من مسلمات النظم الحقوقية والمدماك الرئيسي لدولة القانون. لكن تاريخ هذا المجلس كان حافلا بمجموعة من العثرات التي وقع فيها لدرجة بتنا نظن أن قدره هو الفشل الدائم. ولا بد من كلمة إنصاف بحق المجلس المذكور كون اللائمة لا تقع عليه فقط بل هي بالدرجة الأولى تقع على السلطة السياسية التي وجدت أن مؤسسة كهذه أخطر من أن تؤدي دورها المنشود لذا كان من الضروري منع تطورها الطبيعي ولجمها بوسائل شتى.
جراء ما تقدم يتبين لنا أن ماهية المجلس الدستوري تكمن في الغاية الخاصة التي من أجلها وجد، وكل انحراف عن الغاية تلك هو في حقيقة الأمر انحلال في جوهر المؤسسة أي تبديل لطبيعتها وفساد في مبدأ وجودها.
ولما تبين معنا أن الدفاع عن الدستور هو أشرف المهام فإن الجرح الذي يطال الجهة التي تتولى هذه المهمة هو أشد قبحا لا بل الأقبح على الاطلاق. وقد قال لنا أرسطو في كتاب "الخطابة" أن الظلم يكون أشد إذا ما أرتكب في المكان واستطرادا من الجهة التي يتوجب عليها إحقاق الحق ومعاقبة الظالمين:
“l’injustice est plus grave, commise dans le lieu même où les auteurs d’actions injustes sont punis”.[1]
وحال مجلسنا الدستوري اليوم غير مشجعة لا بل هي تدفع بنا، وللأسف، إلى شيء من الريبة والحذر. فبعد أن استبشرنا خيرا بتعيين الأعضاء الجدد وعودة المجلس إلى ممارسة دوره لم تكتمل فرحتنا كون تصرفات المجلس الدستوري الحالي لم تأت على قدر الآمال المعلقة عليه، بل هي في الحقيقة أصابتنا بالخيبة.
فقد صدر القانون رقم 242 ونشر في الجريدة الرسمية (عدد 45 تاريخ 25/10/2012) ويتضمن مادة تنص بكل بساطة على إلغاء المادة الرابعة من القانون رقم 43 (3/11/2008). وهكذا يظن المتصفح للجريدة الرسمية بأن هذا القانون هو مجرد تعديل ثانوي من ضمن التعديلات الكثيرة والروتينية التي تلحق غالبية القوانين. لكن التدقيق في تفاصيل هذا التعديل تظهر لنا بأن هذا القانون يضرب الأسس التي يقوم عليها المجلس الدستوري ويفقده حصانته المعنوية التي تشكل أثمن رصيد لأي هيئة تتولى الرقابة على دستورية القوانين.
فالمادة الرابعة الملغاة كانت تنص على التالي: "خلافا للمادة 4 من القانون رقم 250 تاريخ 14/7/1993، تنتهي ولاية نصف أعضاء هيئة المجلس الدستوري المعينة بعد صدور هذا القانون، بعد ثلاث سنوات من تاريخ قسم اليمين لجميع أعضاء المجلس الدستوري، ويجري اختيار هؤلاء بالقرعة ويعين خمسة أعضاء بدلا عنهم لمدة ست سنوات من قبل المرجع الذي اختار الأعضاء الذين سقطت عضويتهم بالقرعة وفقا لأصول التعيين المنصوص عليها في القانون".
فبعد حالة الفراغ التي عرفها المجلس عقب صدور القانون رقم 679 في 19 تموز 2005 الذي نص على تأجيل النظر بالمراجعات أمام المجلس الدستوري وانتهاء ولاية جميع الأعضاء كان لا بد من إعادة تكوين المجلس وذلك بتعيين عشرة أعضاء جدد لمدة ست سنوات دفعة واحدة تنتهي ولاية خمسة منهم بشكل استثنائي بعد ثلاث سنوات بالقرعة. والهدف من هذا الإجراء هو منع السلطة السياسية التي تتولى مقاليد الحكم من السيطرة المطلقة على المجلس الدستوري بحيث تعمد إلى تعيين كل الأعضاء مما قد يؤدي إلى حدوث تحولات جذرية في اجتهاد المجلس وتبدل هذه الاجتهادات مع كل غالبية سياسية تسنح لها الظروف باحتكار تعيين الأعضاء.
وبالفعل تم انتقاء الأعضاء الجدد (بالانتخاب أو بالتعيين) على أساس المادة الرابعة من القانون رقم 43. لذلك، كان من المفترض إجراء القرعة لتحديد الأعضاء الخمسة الذين ستنتهي ولايتهم في أيار 2012 لكن المجلس الدستوري لم يحترم هذا الموجب القانوني بذريعة القانون الذي أقره مجلس النواب في 2 تموز 2012 والمتضمن إلغاء القرعة. ونتيجة للخلاف السياسي الذي منع التصديق على محضر جلسة مجلس النواب، لم يصدر هذا القانون إلا في نهاية شهر تشرين الأول 2012 ونشر في العدد45 من الجريدة الرسمية.
جراء ما تقدم لا بد من إبداء الملاحظات التالية:
-كيف سمح المجلس الدستوري لنفسه تعليق العمل بقانون نافذ على أمل إصدار القانون الجديد؟ وكيف يرهن المجلس الدستوري نفسه لأزمة سياسية ما كان أحد يعلم متى ستنتهي؟
-من قال للمجلس الدستوري أن القانون، على فرض تصديق محضر جلسة مجلس النواب التشريعية، سيتم إصداره؟ فقد يقوم رئيس الجمهورية برده عملا بأحكام المادة 57 من الدستور، وقد يعمد حينها مجلس النواب إلى تعديل القانون من جديد.
-كيف علم المجلس الدستوري أن رئيس الجمهورية لن يرد القانون؟ وكيف تأكد أن الغالبية المطلقة في مجلس النواب لن تتراجع عن رأيها؟
-هل تحول المجلس الدستوري إلى محلل سياسي يتوقع تصرفات الأحزاب السياسية بدل أن يلتزم بالنصوص القانونية المرعية الإجراء؟
كل هذه الأسئلة تحتاج إلى إجابات مقنعة. وعبثا يحاول المجلس تبرير تمنعه عن إجراء القرعة بذريعة تفادي الفراغ وفقدان النصاب القانوني كون الشغور في حال حصوله تتحمل مسؤوليته السلطة السياسية ممثلة بمجلسي النواب والوزراء، ولا يعود للمجلس الدستوري الحلول محلهما ومنح نفسه سلطة تقديرية هي في الدرجة الأولى سياسية الطابع. اليوم يقرر المجلس تأجيل تطبيق مادة قانونية فما الذي يمنعه غدا من الاستنساب أكثر وتأجيل تطبيق القوانين بانتظار مزاجية المشرع والظروف السياسية التي تمر بها البلاد.
وسرعان ما تتهافت ذريعة الفراغ المزعوم بالضربة القاضية مع المادة الرابعة من القانون رقم 243 الصادر في 7 آب سنة 2000 (النظام الداخلي للمجلس) والتي تنص بشكل جلي لا يحتاج إلى شرح على التالي: "عند انتهاء الولاية، يستمر الأعضاء الذين انتهت ولايتهم في ممارسة أعمالهم إلى حين تعيين بدلاء عنهم وحلفهم اليمين". فإجراء القرعة ما كان ليحدث حالة شغور كون الأعضاء الذين سقطت عضويتهم بالقرعة سيستمرون بممارسة عملهم ريثما يتم تعيين البدلاء. وكم كان سينم تصرف المجلس عن كبر لو تمت القرعة تأكيدا لمبدأ سمو القانون على المماحكات السياسية واحتراما لهيبة القضاء الدستوري في لبنان.
لقد ارتضى المجلس الدستوري أن يضع نفسه في قفص الاتهام. فإلغاء القرعة هو في الحقيقة تمديد مبطن لولاية نصف الأعضاء، وقد نصت المادة الرابعة المعدلة من القانون رقم 250 (إنشاء المجلس الدستوري) على التالي: "مدة ولاية أعضاء المجلس الدستوري ست سنوات غير قابلة للتجديد ولا يجوز اختصار مدة ولاية أي منهم".
والهدف الواضح من هذه المادة هو صون استقلالية المجلس الدستوري كون اختصار الولاية هو نوع من أنواع العقاب التي تنزلها السلطة السياسية بحق عضو ما في حال لم تعجبها مواقفه. كذلك الأمر بالنسبة لتمديد الولاية كون هذا الأمر قد يعد مكافأة على تصرف ما وعربون رضى السلطة السياسية عن القرارات التي يتخذها المجلس. وإذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن المجلس الدستوري ينظر أيضا بالطعون الانتخابية فإن محاذير هذا الأمر تصبح عظيمة وتهدد نزاهة المؤسسة برمتها.
هذا كان من جهة تصرف المجلس الدستوري، لكن الخسارة لا تقف عند هذا الحد بل هي تتفاقم مع إلغاء مبدأ التجديد الجزئي للأعضاء المعمول به في أعرق الديمقراطيات في العالم. فتعيين أعضاء المجالس والمحاكم الدستورية يخضع لقاعدة التجديد الجزئي بغية منع الجهة السياسية التي تتمتع بالأغلبية النيابية من الهيمنة على القضاء الدستوري وذلك من خلال تعيين كامل أعضاء المؤسسة التي من المفترض أن تراقب أعمالها. فالحكمة تفرض تأمين وحدة واستمرارية الاجتهاد بحيث يتفاعل الأعضاء الجدد مع من سبقهم بشكل لا تتبدل قرارات المجلس الدستوري حسب تقلبات التحالفات السياسية وأهواء من يقبض على زمام السلطة.
لقد افتتحنا مقالتنا هذه بفكرة لأرسطو، ويروق لنا أن نختمها بنص آخر له: " أن التهاون في الصغائر يعتبر هو أيضا سببا للانقلابات السياسية. لأنهم عندما يتهاونون في بعض الأمور، التي تمت إلى السياسة، يغيرون بعد ذلك بسهولة أوفر، أمورا أهم من الأولى بقليل؛ وهكذا دواليك إلى أن يبدلوا النظام برمته. وهذا ما حدث أيضا لسياسة ثورئي. فقد كان يقضي شرعهم بأن يتولى القائد قيادته لمدة خمس سنوات. إلا أن بعض الشبان المولعين بشؤون الحرب (…) شرعوا يبذلون المساعي لنقض هذا البند من الشرع حتى يتاح لهم أن يتولوا القيادة بلا انقطاع. وقد كان يحفزهم في مساعيهم تلك، ما يرون من حماسة الشعب وتأييده لهم. إلا أن الرؤساء المدعوين مشيرين الذين كانت تعنيهم المحافظة على الدستور، هبوا أولا إلى المعارضة. ولكنهم ما عتموا أن أذعنوا لإرادة الشعب لظنهم أن ما تبقى من الدستور يصان، حتى إذا نقض منه هذا البند. إلا أنهم في ما بعد عندما كانوا يبغون أن يحولوا دون تبديل أو تعديل نقاط أخرى من الشرع، ما كانوا يوفقون في محاولاتهم أقل توفيق. بل تبدل نظام السياسة برمته، ووقع الحكم في حوزة الذين شرعوا التجديد"[2]. حكمة لو يتدبرها مجلسنا الدستوري ويعطيها بعض التفكير.
[1]Aristote, Rhétorique, Le livre de poche, 2006,p. 169.
[2] أرسطو، في السياسة، الطبعة الثانية، مجموعة الروائع الانسانية – الأونسكو, بيروت، 1980، ص. 273-274.
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.