المجلس الأعلى للسلطة القضائية


2021-01-07    |   

المجلس الأعلى للسلطة القضائية

في السادس من أبريل من سنة 2017، تمّ تنصيب المجلس الأعلى للسلطة القضائية بالمغرب، الذي أتى بعد انتظار طويل، وعقب حراك قضائي لافت وغير معهود عرفته الساحة الوطنية بمناسبة محطة مناقشة قوانين السلطة القضائية الجديدة، بين الجمعيات المهنية للقضاة وباقي مكونات المجتمع المدني من جهة ووزارة العدل من جهة ثانية باعتبارها صاحبة المبادرة التشريعية.

 

تشخيص أعطاب المجالس السابقة وسيلة أولى للإصلاح

انطلق حراك نادي قضاة المغرب من تشخيص أعطاب المنظومة القضائية والمتمثلة بالأساس في وجود مجلس أعلى للقضاء يشتغل من دون معايير واضحة، ويصدر قرارات لا تقبل أي مراجعة قضائية. وبالرغم من أن جلّ أعضائه كانوا قضاة، فإن ترأسه من طرف وزير العدل بصفته نائبا عن الملك كان يشكل نوعا من المسّ باستقلال القضاء. كما أنه لم يكن منفتحا على شخصيات غير قضائية بشكل ساهم في إضفاء نظرة فئوية على طريقة عمله، ناهيك عن عدم مراعاة مقاربة النوع الاجتماعي، طالما أن انتخابات ممثلي القضاة لم تسمح بانتخاب أي قاضية من بين أعضاء المجلس، وهو ما انعكس أيضا على طريقة توزيع المسؤوليات القضائية التي طغتْ عليها نزعة ذكورية خاصة وأنها كانت تتم من دون تبارٍ.

 

المجلس الأعلى للسلطة القضائية: تجربة جديدة برهانات واسعة

من حيث المبدأ، تغيّر الوضع جذريا بتنصيب المجلس الأعلى للسلطة القضائية الذي أصبح وفق دستور 2011 يشتغل بمنطق جديد، وبمعايير واضحة، نص عليها القانون التنظيمي للمجلس ونظامه الداخلي. وهكذا تم توسيع تشكيلته ليتكون من 20 عضوا، 10 منهم منتخبون، 6 يمثلون المحاكم الابتدائية، و4 يمثلون محاكم الاستئناف، مع مراعاة مقاربة النوع الاجتماعي التي أتاحت وفي سابقة انتخاب 3 قاضيات لعضوية المجلس. كما أضحى منفتحا على شخصيات غير قضائية، وهم رئيسة المجلس الوطني لحقوق الانسان، والوسيط، و5 شخصيات مستقلة يعينها الملك، إلى جانب الأعضاء الدائمين من القضاة وهو الرئيس الأول لمحكمة النقض بصفته رئيسا منتدبا للمجلس، والوكيل العام للملك لدى محكمة النقض، ورئيس غرفتها الأولى.

كما تم توسيع اختصاصات المجلس لتشمل إلى جانب تدبير الوضعية الفردية للقضاة وفق معايير قانونية، اختصاصات غير تقليدية تتمثل في حماية استقلال القضاة وإبداء الرأي في القوانين التي تهم العدالة وإصدار تقارير سنوية حول وضعية العدالة.

وقد أصبح للمجلس ميزانية مستقلة، كما أضحت قراراته قابلة للطعن أمام الغرفة الادارية بمحكمة النقض.

 

صعوبات رافقت تجربة الولاية الأولى

شكل الجانب المالي واللوجستي أول عائق واجه تجربة المجلس الأعلى للسلطة القضائية، الذي خرج إلى الوجود ببناية “غير لائقة” ومن دون ميزانية واضحة ومن دون موارد بشرية ومادية كافية، وهي الظروف التي واكبت مرحلة تأسيس هياكل المجلس وتعيين رؤساء الأقطاب ومختلف المصالح الأخرى.

كما شكّل وضع النظام الداخلي رهانا آخر واجه المجلس الذي كان ملزما بإعداده داخل أجل قصير لا يتعدّى 3 أشهر، حيث تم إعداده بشكل أحادي دون استشارة الجمعيات المهنية. وقد قضت المحكمة الدستورية بتعذّر البت فيه شكلا، نظرا لإغفاله التنصيص على المقتضيات المتعلقة بتحديد الجهة المبادرة لاقتراحه، وضوابط جلسة التصويت عليه، والأغلبية المتطلبة لإقراره وتعديله. وبتاريخ 13/09/2017، قضت المحكمة الدستورية بدستوريته باستثناء 9 مواد منه، أبرزها ما يتعلق بوضع شروط استقبال الشكايات، والجدل الذي احتدم بشأن الشكايات مجهولة المصدر، حيث خلص قرار الدستورية إلى أن القانون التنظيمي للمجلس حصر مجال تدخل النظام الداخلي في “تدبير ومعالجة التظلمات والشكايات”، دون أن يمتدّ هذا التدخل إلى وضع شروط خاصة لقبول تلك التظلمات والشكايات.

من جهة أخرى، تأثّر عمل المجلس بعدم تحيين المنظومة القانونية ذات الصلة، ذلك أن مراجعة شروط الولوج إلى القضاء وبالأخص تحديد نوعية الشواهد المطلوبة ومدة التكوين، وطريقة تعيين القضاة الجدد بالمحاكم وتحديد الجهة المكلفة بالإشراف على التكوين العادي والمستمر للقضاة، فضلا عن مراجعة المعايير المتعلقة بالترقية التي ما تزال مرتبطة بنظام التنقيط المنتقد، إلى جانب المقتضيات المتعلقة بتفتيش المحاكم، كلها أمور ظلت معلقة على مراجعة قوانين أخرى من قبيل القانون المنظم للمعهد العالي للقضاء، ومرسوم ترقية القضاة، وقانون المفتشية العامة للشؤون القضائية، الشيء الذي أسهم في التقليص من نطاق الضمانات المخولة للقضاة وبالأخص فيما يتعلق بالمسطرة التأديبية ونظام الترقية. كما أنه أبقى مجالا لتدخل وزارة العدل على مستوى الإشراف على تنظيم مباراة الولوج إلى القضاء وتكوين القضاة.

 

حصيلة التجربة الأولى

من بين أهمّ المكتسبات التي تحققت في حصيلة المجلس خلال ولايته الأولى تنزيله لمقتضى إخضاع التعيين في مناصب المسؤولية القضائية لمنطق التباري، وهي وسيلة لتحقيق الشفافية بعيدا عن أي محاباة، وإتاحة الفرصة لتجديد النخب القضائية، وربط المسؤولية بالمحاسبة في شقها المتعلق بإعمال تقارير تقييم أداء المحاكم والقضاة. لكن واجهت إعمال هذا المقتضى الجديد إشكالية عملية مفادها أن النص القانوني يلزم المجلس بكافة أعضائه بإجراء مقابلات مع كافة المرشحين، وهو ما يستغرق جهدا ووقتا، يؤثر على بقية أشغال المجلس. لذا لجأ في بعض الحالات إلى تحديد شروط إضافية في المرشحين.

من جهة ثانية، دأب المجلس على نشر نتائجه المتعلقة بالتعيينات والانتقالات غالبا داخل فضاء رقمي خاص بالقضاة، وهو ما يطرح أكثر من سؤال حول جدوى ذلك طالما أن النتائج لا تتضمن معطيات شخصية، وبخاصة أن المجلس السابق في عهد وزارة العدل، سنّ تجربة النشر العمومي لهذه النتائج في إطار تحقيق الشفافية، وتوفير المعلومة للمتابعين للشأن القضائي.

من جهة أخرى، يشكل صدور التقرير السنوي للمجلس ونشره بالجريدة الرسمية فرصة لتتبع أداء المؤسسة والاطلاع على حصيلة عملها والإكراهات التي تواجهها والإسهام في احترام قواعد التسيير الشفاف من طرف العموم كإحدى أهم آليات الرقابة المجتمعية والمحاسبة على عمل المؤسسة، كما أنه يسهم في الحفاظ على رصيد توثيقي منشور لعمل المجلس.

وكان لافتا في التقرير الأول إشارته إلى إصدار المجلس لعدة آراء استشارية تخصّ عددا من القوانين. لكن الملاحظ أن هذه التقارير لم توضع رهن إشارة العموم رغم الالتزام العام الملقى على عاتق كافة المؤسسات بالنشر الاستباقي للمعلومات الموجودة بحوزتها.

وتبقى مسألة عدم مراعاة مقاربة النوع الاجتماعي في أشغال المجلس نقطة تستحق دراسة معمقة، إذ يلاحظ تراجع نسبة تعيين القاضيات في مراكز صنع القرار. وهي نسبة لم تتعدَّ 5.4% سنة 2017، بانخفاض بلغ 0.8 نقطة مقارنة مع سنة 2016[1]. وفيما يعلّل البعض ذلك بأن الالتزامات العائلية تجعل النساء القاضيات يزهدن في طلب مناصب المسؤولية القضائية، ترجع آراء أخرى السبب في وضع شروط لا تراعي مقاربة النوع الاجتماعي من قبيل اشتراط أقدمية معينة في ممارسة مهام المسؤولية، وعدم نشر نتائج المقابلات التي يقوم بها المجلس، وعدم اشتراطه على المسؤولين القضائيين في المحاكم مراعاة مقاربة النوع في ترشيحاتهم للقضاة المكلفين ببعض المهام كنائب رئيس أو قاض للتحقيق أو قاض للتوثيق، علما بأن المجلس أضاف عدة شروط غير منصوص عليها في القانون لا يوجد من بينها أي شرط يتعلق بالنوع الاجتماعي.

 

التفتيش القضائي نشاط مكثف وغياب إطار قانوني

بحسب تقرير مشروع موازنة السلطة القضائية برسم سنة 2021، يلاحظ أن المفتشية العامة للشؤون القضائية التابعة للمجلس عملت خلال سنة 2020 على تشخيص الوضعية القضائية ل 11 محكمة ابتدائية و5 محاكم استئناف، كما درست 11 تقريرا للتفتيش اللامركزي وفتحت 44 ملفا للبحث والتحري، وعالجت ما يزيد عن 1687 شكاية.

ورغم هذا النشاط المكثف، يلاحظ أن المفتشية العامة تشتغل دون قانون، ما عدا ما نصت عليه المادة 53 من القانون التنظيمي للمجلس من كونه يتوفر على “مفتشية عامة للشؤون القضائية يحدد القانون تأليفها واختصاصاتها وقواعد تنظيمها وحقوق وواجبات أعضائها”. وهو ما يعني أن المفتشية العامة تشتغل اليوم خارج إطار الشرعية دون قانون يحدد حقوق وواجبات أعضائها المفتشين. وقد سبق لنادي قضاة المغرب أن رصد بعض الاختلالات في أداء جهاز المفتشية من بينها حرمان القضاة من حقوق الدفاع وبالأخص حق المؤازرة بعلة عدم وجود نص قانوني، مع أن الحق في الدفاع حق دستوري.

 

إحالة قضاة على التأديب بسبب الخروج على التحفظ

سنة 2018 تم استدعاء عدد من أعضاء نادي قضاة المغرب إلى المفتشية العامة بسبب تدويناتهم عبر مواقع التواصل الاجتماعي تتعلق بقضايا مطروحة للنقاش العام كمحاربة الفساد، أو تعليقات منتقدة لأداء المجلس. وبعد حملة تضامن واسعة مع القضاة أعقبتها لقاءات ثنائية بين المكتب التنفيذي والمجلس الأعلى للسلطة القضائية، تم “تجميد” الملف لمدة ناهزت سنتين، قبل أن يتم مؤخرا تعيين مقرر في حق هؤلاء القضاة، وتتقرر إحالتهم على المجلس الأعلى خلال نوفمبر 2020.

وتطرح هذه الإحالة عدة إشكاليات تتعلق بتدبير زمن الملاحقة التأديبية، وأسباب التأخر في البت في الملف، وتوقيت الإحالة التي تزامنت مع استمرار حالة الطوارئ الصحية، وانعدام عنصر الاستعجال، بشكل يوحي وكأن الأمر يتعلق بتضييق جديد يطال أعضاء نادي قضاة المغرب بسبب استمرار الجمعية في تقييم أداء المجلس عبر بياناتها.

 

تأخر اصدار مدونة السلوك

تنص المادة 106 من القانون التنظيمي للمجلس على أنه يضع بعد استشارة الجمعيات المهنية للقضاة، مدونة للأخلاقيات القضائية تتضمن القيم والمبادئ والقواعد التي يتعين على القضاة الالتزام بها أثناء ممارستهم لمهامهم ومسؤولياتهم القضائية، كما تنص هذه المادة على نشر مدونة السلوك في الجريدة الرسمية.

ويلاحظ في هذا السياق أن المجلس اكتفى بفتح أجل قصير للجمعيات المهنية القضائية قصد تقديم ملاحظاتها وتصوراتها حول مشروع مدونة السلوك، من دون أن يقوم باستشارة موسعة معها طيلة مراحل اعداد المدونة. وقد أشار تقرير مناقشة مشروع موازنة السلطة القضائية لسنة 2021، أن هذه المدونة في مراحل إعدادها الأخيرة رغم غياب أعمال المقاربة التشاركية.

 

عدم نشر القرارات التأديبية

يكتفي المجلس بتقديم حصيلة نشاطه في الملفات التأديبية بشكل مجمل ضمن تقريره السنوي، دون أن يفعل مقتضى نشر القرارات التأديبية والمبادئ المستمدة منها والتي يمكن أن تشكل مادة خصبة يستفيد منها القضاة في مجال أخلاقيات المهنة. ويلاحظ أيضا عدم تفعيل مقتضى نشر أسماء القضاة المتخذة في حقهم عقوبة العزل أو الإحالة على التقاعد[2] وهو المقتضى الذي كان من بين مخرجات الحوار الوطني حول إصلاح منظومة العدالة.

وعموما ورغم الإكراهات اللوجيستية والمادية والتنظيمية التي واجهت انطلاقة تجربة المجلس الأعلى للسلطة القضائية بالمغرب، فإنه يبقى من السابق لأوانه تقييمها بالنظر إلى حداثة التجربة وعدم استكمال ورش الاصلاح التشريعي. لكن الأمل يبقى معقودا على انفتاح المؤسسة ونجاحها في كسب رهان التواصل مع محيطها، خاصة مع الجمعيات المهنية القضائية ومع مكونات المجتمع المدني بوصفهما شريكين أساسيين في معركة إصلاح القضاء.

 

 

نشر هذا المقال  بالعدد 20 من مجلة المفكرة القانونية | تونس | لقراءة العدد اضغطوا على الرابط أدناه:

قضاء تونس في زمن الياسمين

مواضيع ذات صلة

حدث مؤسساتي هامّ في المغرب: المحكمة الدستورية والمجلس الأعلى للسلطة القضائية بألوان 2011

رهان التواصل لدى المجلس الأعلى للسلطة القضائية بالمغرب

الطريق الطويلة… إلى المجلس الأعلى للسلطة القضائية

قراءة في نتائج المجلس الأعلى للسلطة القضائية بالمغرب (1): التأديبات لا تحتمل مؤازرة أكثر من شخص واحد

تغييب النساء القاضيات عن مناصب المسؤولية بالمغرب: إشكالية السقف الزجاجي

حوار المفكرة القانونية مع رئيس نادي قضاة المغرب : الاستقلال المؤسساتي للسلطة القضائية

فتح باب الترشيح للمناصب القضائية في المغرب

نادي قضاة المغرب ينتقد البطء في تفعيل المجلس الاعلى للسلطة القضائية

الحكومة تراسل المجلس الأعلى للسلطة القضائية حول مقترح الميزانية في المغرب

في انتظار تنصيب المجلس الأعلى للسلطة القضائية بالمغرب: الجمعيات المهنية القضائية تأخذ زمام المبادرة

جمعيات القضاة بالمغرب تبدي استياءها من مقر المجلس الأعلى للسلطة القضائية

بانتظار تونس، المغرب تفتح طريق انتخاب أعضاء المجلس الأعلى للسلطة القضائية

ملاحظات نادي قضاة المغرب بشأن المجلس الأعلى للسلطة القضائية بالمغرب

 

[1]احصائيات وزارة العدل لسنة 2017.

[2]– تنص المادة 60 من القانون التنظيمي للمجلس على ما يلي:  “ينشر المجلس النتائج النهائية لأشغال كل دورة وفق الكيفية المحددة في نظامه الداخلي.

لا تنشر أسماء القضاة المعنيين بالعقوبات من الدرجتين الأولى والثانية المنصوص عليها في القانون التنظيمي المتعلق بالنظام الأساسي للقضاة”.

انشر المقال

متوفر من خلال:

قضاء ، مجلة ، استقلال القضاء ، مقالات ، تونس ، مجلة تونس



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني