“من أين نأتي بالأموال؟”، هو جواب رئيس حكومة تصريف الأعمال والمسؤولين في الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي وصولًا إلى كلّ المعنيين بقضية الأجراء والمتعاقدين مع الإدارات والمؤسسات العامة الخاضعين لصندوق الضمان الذين بلغ السن القانونية للتقاعد خلال الأزمة المالية (2020 – 2023). فهؤلاء لا تزال تحتسب رواتبهم على سعر صرف 1500 ليرة كما يرفض معظمهم سحب تعويضاتهم من الضمان الاجتماعي بانتظار ما يأملونه من تعديلٍ في قيمتها، وإيجاد حلّ يُنصفهم ويعوّض عليهم ما خسروه من قيمتها بعد أضحت قيمتها الفعلية لا تساوي 2% من قيمتها الأصلية.
وقد تُرجم هذا الجواب إلى لامبالاة من قبل الحكومة تجاه هذه الفئة، كانت واضحة في سلسلة الاجتماعات الأخيرة التي عقدتها تحت ضغط الإضراب المفتوح للعاملين في القطاع العام، وعلى وقع تظاهرات المتقاعدين العسكريين، حيث غابت قضية تعويضات المنتهية خدماتهم عن طاولة البحث.
مقابل هذه اللامبالاة، برزت بعض المساعي على خطوط أخرى لتحسين وضع هذه الفئة من المتعاقدين إلّا أنّها باءت كلّها بالفشل. وكان آخرها في مضمون المادة 93 من مشروع قانون الموازنة العامة للعام 2024 التي أسقطت لاحقًا، لاحتساب تعويضات نهاية الخدمة عن سنوات الخدمة لما قبل 13 كانون الأول 2023 على أساس 15 ألف ليرة للدولار الواحد.
وقد أسف المدير العام للصندوق الوطني للضمان الاجتماعي محمد كركي في لقاء عبر “إم تي في” لفشل هذه المساعي واصفًا هذه الشريحة بأنّها “سيئة الحظ”. وهو وصف رفضه أحد أفرادها الذي ردّ عبر “المفكرة القانونية” قائلًا: “القصة ليست قصة حظ بين من تقاعد بـ 2021 والـ 2023 ليخسر كل تعب عمره بينما من يتقاعد في 2024 و2025 يسعفه الحظ ويأخذ تعويضًا مناسبًا، ومن يحال إلى التقاعد في العام 2026 يربح الجائزة الكبرى ويتمّ ضمّه إلى قانون المعاش التقاعدي والحماية الاجتماعية لمدى الحياة، الذي أقر مؤخّرًا. القصة ليست لعبة حظ وورقة لوتو يربح فيها المحظوظ ويخسر فيها غير المحظوظ. القصة قصة عمر قضّيناه بالخدمة لنرتاح آخر العمر. القصة أنّنا ضحية تقاعس السلطة عن معالجة قضيتنا وضحية قوانين مهترئة في مؤسسة الضمان”.
خسروا أكثر من 98% من قيمة تعويضاتهم
نحن نتحدث عن فئة من الأفراد الذين أحيلوا إلى التقاعد خلال الأزمة من العام 2020 وحتى العام 2023، لقاء تعويضات نهاية خدمة مجحفة، تحتسب على سعر صرف 1500 ليرة، بناء على أساس الراتب الأخير الذي كانوا يتقاضونه قبل الأزمة والمصرّح عنه لصندوق الضمان الاجتماعي. وهو راتب يتراوح بين مليون ونصف المليون في حده الأدنى وثلاثة ملايين ليرة في حده الأقصى. ومع التدهور الاقتصادي وانهيار قيمة العملة الوطنية، فإنّ ما كان يفترض أن يكون جنى عمر هذه الفئة من الأجراء والمتعاقدين من تعويضات نهاية الخدمة، خسر من قيمته أكثر من 98%، ما جعل أفرادها متروكين معنويًا ومهملي الحق ماديًا وفي أوضاع شديدة الصعوبة. فقد نسفت سياسات المصلحة واللامبالاة ما سعى إليه هؤلاء ممن قضوا عمرهم في خدمة المواطن والدولة، من الوصول إلى تعويض أو معاش تقاعدي يضمن لهم الحد الأدنى من الكرامة.
يقرّ المدير العام لوزارة المالية جورج معراوي، في اتصال مع “المفكرة” أنّ هذه الفئة من العاملين في إدارات الدولة مظلومة، لكنّه يلفت إلى أنّ وزارة المالية ليس لها علاقة بهذه التعويضات، إنّما يجب معالجة هذا الأمر من خلال مؤسّسة الضمان. ويشير إلى أنّ على هذه المؤسسة إيجاد طريقة لاحتساب تعويض نهاية الخدمة بشكل يؤمّن الحد الأدنى لمن انتهت خدماتهم بالعيش الكريم. ويقول: “من غير المنطقي أن يخدم الموظف الدولة لمدة 30 و40 عامًا ولا يكفيه تعويضه لشهر واحد”.
وفي الضمان الاجتماعي يقول رئيس مصلحة القضايا صادق علوية إنّ مشكلة التعويضات في الضمان ليست مشكلة قانونية بل مادية، سائلًا “كيف يمكن تحويل قيمة التعويض من 60 مليون إلى 600 مليون؟ من يدفع الفرق؟ من المسؤول لإيجاد الحل في قوننة المطالب؟” (وقد تعذّر على “المفكرة” التواصل مع المدير العام للضمان محمد كركي الذي لم يردّ على اتصالاتنا ولا رسائلنا. وقد قيل لنا إنّه خارج البلاد).
من جهته، يلفت رئيس لجنة المودعين في نقابة المحامين المحامي كريم ضاهر إلى أنّه على عكس لبنان فإنّ صناديق الضمان في العالم هي من أكبر صناديق الاستثمار، وتكمن أهميتها في تحريك السوق المالية. ويضيف: “أما في لبنان فهناك سوء استثمار من قبل الذين اهتمّوا بالشق الاستثماري للذمّة في الضمان وهذا يرجع إلى كونهم لم يكونوا مؤهّلين وغير كفوئين لتوظيف هذه الأموال. وضعوا أموال الصندوق بمكان واحد وهو سندات الخزينة”.
محاولة حلّ أخيرة عبر المادة 93
شكّل مشروع قانون الموازنة العامة للعام 2024 في مادته 93 أملًا لهذه الفئة من الأجراء إذ تعلّق بمعالجة استثنائية لتعويضات نهاية الخدمة وفقًا لأحكام المادة 51 من قانون الضمان الاجتماعي، والتي يتم على أساسها احتساب تعويضات نهاية الخدمة عن سنوات الخدمة لما قبل 31/12/2023 على أساس 15 ألف ليرة للدولار الواحد. إلّا أنّ قانون الموازنة أقرّ فيما تمّ سحب هذه المادة تحت حجّة “المزيد من الدرس وتأمين الأموال اللازمة لها” وفق ما يقول النائب بلال عبد الله لـ “المفكرة”.
ويشير عبد الله إلى أنّ إعطاء كلّ الخاضعين لصندوق الضمان الاجتماعي حقهم بما يوازي الحد الأدنى للعيش أمر غير متيسّر، لأنّ أموال الضمان عالقة في المصارف، حيث كانت قبل الأزمة توازي 8 مليارات دولار، في حين أنّها حاليًا لا تعادل 300 مليون.
ويدعو عبد الله المنتهية خدماتهم خلال هذه الأزمة إلى التريث في تقاضي تعويضاتهم، معوّلًا على الوصول إلى صيغة تتمّ تحت إشراف وزارة العمل والضمان وأصحاب العمل لتعويض جزء من خسارتهم.
بدوره النائب فراس حمدان، يشير إلى أنّ محاولة لحلّ أزمة هذه الفئة جرت عبر مضمون المادة 93، إلّا أنّ المدير العام للضمان رفضها لعدم وجود الأموال. ويرى حمدان أنّ هناك إنكارًا من قبل الحكومة ورئيسها لهذه الفئة التي خدمت الدولة على مدى عقود، مشدّدًا على ضرورة وجود ضغط شعبي إلى جانب ضغط نيابي عبر اقتراح مشروع قانون معجّل مكرّر يتقدّم به عدد من النوّاب لتسوية أوضاع هؤلاء.
تجمّعات مطلبيّة بهدف رفع الظلم
محاولات عدّة جرت مع الحاكم السابق لمصرف لبنان رياض سلامة لتعديل قيمة سحوبات التعويضات، حيث تمّ بحث إمكانية احتساب التعويضات على 3000 و3900 ليرة ومن ثم 8000 ليرة، و15 ألف ليرة اليوم. إلّا أنّ كلّ هذه المحاولات فشلت، بحجّة الحدّ من التضخّم وانهيار سعر الصرف. ويقول كركي في حديث صحافي “لا يوجد لغاية اللحظة أيّ إمكانية بتعديل سعر قيمة السحوبات وزيادة التعويضات من الضمان. اللهمّ إلّا إذا ارتأت الدولة المساعدة على حلّ الموضوع تحت ضغط التحرّكات المطلبية”.
وفي ظل عدم إيجاد أي مخرج أو حلّ مناسب لهذه الفئة التي يتفق جميع المعنيين على وصفها بـ “الضحية والسيئة الحظ”، بدأ عدد كبير من المتعاقدين والأجراء والمستخدمين في الإدارات والمؤسسات العامة المتقاعدين، الرافضين لهذا التوصيف، رفع الصوت، وتنادوا لإنشاء تجمّعات مطلبية. فتم تأسيس “تجمّع الأجراء المتقاعدين في القطاع العام ومؤسّساته“، و”تجمّع المتقاعدين في وزارة الإعلام”، وبدأوا بسلسلة تحرّكات واتصالات مع المعنيين ومع الكتل النيابية بهدف الضغط على السلطة السياسية، لإنصافهم عبر إقرار حقّهم في الحصول على معاش تقاعدي، أو أقلّه منحهم تعويضات نهاية الخدمة المستحقّة لهم بما كانت تساويه كقيمة شرائية قبل الأزمة إضافة إلى تعويض مَن اضطرّ لسحب تعويضاته وسط الأزمة الاقتصادية الممتدة منذ العام 2019، وفق ما أفاد به عدد ممن انتهت خدماتهم في اتصالات مع “المفكرة”.
لخّص “تجمّع الأجراء والمتعاقدين” مطالبهم بثلاث نقاط أوّلها: الاستفادة من تقاعد مريح وذلك بتقاضي معاش تقاعد محترم وليس فتاتًا. والمطلب الثاني هو العمل الجاد على إعادة احتساب تعويض نهاية الخدمة لدى الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي بما يتناسب وسعر صرف الدولار في السوق. أمّا المطلب الثالث فهو إعفاء هذه الفئة من اشتراكات الضمان الصحي والتي أصبحت عبئا كبيرًا فـ “الأجراء المتقاعدين لا دخل لهم ولم يتقاضوا تعويضاتهم”. على أن يستفيد من التعديلات تلك كلّ من تقاعد أو قبض تعويضًا له منذ تاريخ 17 تشرين الأول 2019 حتى الآن حيث أنّ التعويضات التي صرفت وسوف تصرف لاحقًا فقدت كامل قيمتها.
أما تجمّع متقاعدي وزارة الإعلام، فأشاروا في بيان إلى أنّ “عقودنا كانت تتم من خلال مجلس الخدمة المدنية ومن منتسبي تعاونيّة موظفي الدولة، ومشروع قانون تثبيتنا درسته اللجان المشتركة وكل لجنة معنية على حدة وتم وضعه على جدول أعمال أكثر من جلسة تشريعية نيابية من دون أن يحظى بالتصويت عليه. ومن دون حصولنا على تفسير منطقي لذلك”.
وطالب البيان “أوّلاً بالمسارعة في إقرار حقنا بالحصول على معاش تقاعدي، وهذا ملحوظ في مذكرات سابقة ومطروح ضمن اقتراحات أو مشاريع قوانين موجودة في أدراج المجلس النيابي وأمام مسؤوليات السادة النواب.
ثانيًا: بافتراض عدم التوصّل إلى القانون المنشود لأي سبب أو علّة، منحُنا تعويضات نهاية الخدمة المستحقة لنا بما كانت تساويه كقيمة شرائية قبل الأزمة. وذلك بغية تمكيننا من سداد وتغطية متوجّباتنا الأساسية بكرامة، فلا نُضطر بعد هذا العمر المهني الذي أفنيناه بكل التزام، إلى مدّ يد العوز لا سمح الله، أو إلى الموت عند أبواب المستشفيات. وقد حزّت في قلوبنا أمثلة كثيرة لزملاء سبقونا إلى دنيا الحق بألم مضاعف: واحد من المرض وآخر من الخيبة”.
يقول المتقاعد عبد الله مشيمش أحد مؤسّسي تجمّع الأجراء المتعاقدين في الإدارات العامة: “نحن منذ بداية الطريق نعرف أنّنا نواجه سلطة فاسدة بكل المعايير، وهم اتخذوا قرارهم بأنّ التعويضات ستكون على سعر دولار 1500. ومن هنا كان خيارنا بأن نواجه هذا الظلم الذي لحق بنا وبأمثالنا. فحتى الزملاء الذين سينهون خدمتهم حتى تنفيذ المشروع التقاعدي هم أيضًا سيقبضون تعويضهم على السعر نفسه”. ويتابع في حديث إلى “المفكرة”: “نحن خيارنا واحد وهو التدرّج التصعيدي بتحرّكنا حتى الوصول إلى الاعتصام أمام مجلس النوّاب، للحصول على حقنا المشروع وكي لا نتحوّل إلى متسوّلين”.
هل نتسوّل أم نسرق أم ننتحر؟
تتّسم حياة هذه الفئة من العاملين المنتهية خدماتهم خلال الأزمة، بالحرمان الشديد من الاحتياجات الأساسية، بما في ذلك الغذاء والصحة والكثير من الخدمات، عدا عن الشعور بالإهانة والذلّ من مدّ يد العوز لتأمين أدنى مقوّمات العيش، أضف إلى ذلك الخوف من مستقبل مجهول، من دون أي أمان اقتصادي وصحي ونفسي.
ابتسام (اسم مستعار) المتقاعدة العام الماضي من وزارة الزراعة مثال حي على هذه المعاناة تقول لـ “المفكرة”: “قبل إحالتي إلى التقاعد، شعرت بضيق وعجز جعلاني أدخل في صمت ثقيل، كمن ينتظر إطلاق الرصاص عليه، أفكار تأكلني لكثرة القلق والتفكير. والسؤال الدائم والوحيد الذي يطنّ في أذني ‘ماذا ستفعلين في الباقي من عمرك؟ هل كتب عليك أن تموتي قهرًا أو جوعًا؟'”.
وتتابع “قبل نهاية 2023 بأيام، احتفل بعض الأصدقاء والصديقات بعيد ميلادي الـ 64 إلّا أنّ هذا اليوم لم يكن بالنسبة لي احتفالًا بعام جديد، بل كان أقرب إلى نهاية العمر”. وتوضح ابتسام أنّها لم تستطع أن توفّر أية أموال من راتبها خلال الأربعين سنة التي قضتها في عملها لأنّ قيمته الضئيلة لم تكد تكفي لسد حاجاتها الضرورية من إيجار المنزل إلى فواتير الكهرباء والمياه والدواء والاستشفاء وغيرها، ومن ثم جاء التدهور السريع في سعر الصرف والانهيار المالي والاقتصادي وصولًا إلى دولرة أسعار السلع وكلّ مستلزمات الحياة، ليجعل قيمة راتبها في الحضيض ومعه قيمة تعويض نهاية الخدمة.
انتصار ماضي المنتهية خدماتها من وزارة الشؤون الاجتماعية في العام 2022، تقول: “خدمت في الوزارة لمدة 25 عامًا، كان لديّ أمل كبير بضمان الشيخوخة أو معاش تقاعد أو على الأقل تعويض يمكّنني من العيش بكرامة. ولكن الواقع أنّ هذا التعويض الذي كانت قيمته قبل الأزمة حوالي 35 ألف دولار أصبح لا يتخطى 400 دولار”. وأسوأ ما في الأمر، تضيف انتصار أنّ “اشتراكي بالصندوق الوطني للضمان أصبح إلزاميًا، والمطلوب أن أسدّد 800 ألف شهريًا، من دون أن أتلقّى أي تقديمات صحية، مع العلم أنّنا نحتاج أنا وزوجي إلى أدوية بقيمة 20 مليون ليرة شهريًا”.
واليوم تحتاج انتصار إلى إجراء عملية في عينها، ولكنها تؤجّلها لأنّها لا تملك قيمة تكاليفها، “ناطرة رحمة ربي. اللي انتخبناهن ضحكوا علينا وشرشحونا”.
يقول إبراهيم حمزة المتقاعد من الوكالة الوطنية للإعلام (التي تضمّ متعاقدين فقط وكانوا يسمّون في السابق متعاملين)، لـ “المفكرة” “أنا بصراحة كنت أحلم عند انتهاء خدمتي أن أقبض التعويض وأشتري سيارة وأعيش يومين أنا وزوجتي بشكل مريح. وجدت أنّ القصة بالعكس، التعويض الذي يريدون أن يقدموه لنا لا يكفي حتى لتسديد اشتراكات الضمان لعام أو عامين”. ويضيف “كفى مهزلة، هل ضاقت الدولة باشتراك ضمان – مقطوع عن الذين توقّفوا عن العمل. فلتدفع كل وزارة الاشتراك عن متعاقدينها”.
ويضيف حمزة أنّ هذه الفئة من الموظفين عانت أثناء خدمتها الفعلية وبعد تقاعدها، منطلقًا من تجربة زميليه السابقين في مكتب تبنين محمد برّي والراحل موسى حرب. الأوّل كان يغطّي أخبار المنطقة لوحده في قضاء بنت جبيل ومحيطه ويتحمّل تكاليف النقل بنفسه والتي كانت تفوق قدرته، وقد أصيب في عدوان 2006 بشظية في رأسه أثناء تواجده في مكتبه في سراي تبنين، وقد طلب حمزة بعد انتهاء العدوان أن يُنقل إلى مكتب تبنين لمعاونة برّي. ويقول حمزة إنّ “سنوات خدمة برّي الطويلة انتهت في العام 2021 ليقبض تعويضًا لا يوازي مصروف شهرين ويقع في أزمات مالية لم يستطع خلالها أن يدفع أجرة منزله لأكثر من ستة أشهر”.
يروي حمزة أنّ برّي زاره مؤخرًا وذكّره بما حصل مع زميلهما الراحل موسى حرب الذي انتحر بسبب ضآلة راتبه وقلّة حيله رغم أنّه تولّى إدارة مكتب تبنين، وقال إنّه كان يستغرب في السابق كيف أقدم حرب على الانتحار إلّا أنّه اليوم من شدة ما تأثّر بعد أن وجد نفسه في آخر العمر بلا راتب ولا أية تقديمات ومعونة لا يستطيع معها القيام بأعباء أسرته، أصبح يفهم ما الذي كان يشعر به حرب لأنّ هذا النوع من المعاناة قد يدفع بالمرء فعلًا إلى الانتحار.
ويتابع حمزة أنّ حرب كان في سلك الدرك إلّا أنّه فضّل أن يعمل في مجال اختصاصه في الصحافة إذ كان يحمل إجازة في الإعلام من الجامعة اللبنانية وهو من الرعيل الأوّل الذين حازوا على إجازة في الإعلام ولكن هذه الشهادة لم تنفعه في تسلم إدارة مكتب تبنين في البداية رغم أنّه كان الوحيد من أصحاب الشهادات الجامعية في المكتب، بل عمل كمندوب براتب متدنٍّ. ولاحقًا حين عاد وتولّى إدارة المكتب بعد توزيع الفوائض بقي راتبه على حاله، وهذا ما أوقعه في مشاكل مادية ونفسية جعلت وضعه في البيت مأزومًا ووصل به الأمر إلى الانتحار بطلق ناري من بندقية صيد في كرم الزيتون خلف بيته.
ويتساءل حمزة “هل الانتحار سيكون الحلّ لنا جميعًا بعد أن فقدنا كل أمل؟”
لمحة عن نشوء هذه الفئة
بحسب المرسوم الاشتراعي رقم 112/1959 من قانون الموظفين، ينقسم الموظفون إلى موظفين دائمين وموظفين مؤقتين. يخضع الموظفون الدائمون لشروط خاصة للتوظيف وأهمها إجراء مباريات في مجلس الخدمة المدنية، ووفقًا لهذا القانون يحق للموظف الدائم أن يختار عند نهاية خدمته تعويض صرف أو معاشًا تقاعديًا. أما باقي الفئات كالأجراء والمتعاقدين فلا تشملهم شرعة التقاعد.
ويتولّى الموظف الدائم المهام الملحوظة في ملاكات كل إدارة. أما الأجراء فهم الذين تنطبق عليهم صفة عمّال وكانت تلجأ إليهم الإدارة للعمل فيها بعد موافقة مجلس الخدمة المدنية ويسرّح الأجراء وفقًا لنظام خاص بهم ولا يخضعون لشرعة التقاعد، ومن هؤلاء عمال دائمون، أجراء موسميون كعمال الزراعة أو الطرقات أو في الإدارات والمؤسسات العامة.
تنص المادة 87 من قانون الموظفين على أنّ الوزير يتعاقد مع لبنانيين أو أجانب لمدة محددة والقيام بعمل معيّن يتطلّب معارف أو مؤهلّات خاصّة. ويتم التعاقد وفقًا لحاجات الإدارة لهم ولا يخضعون لشرعة التقاعد. واستنادًا للنصوص الواردة في نظام الموظفين، فإنّ ملاكات الإدارة يتولّاها الموظفون الدائمون، أما التعاقد فيكون لحاجات الإدارة لأعمال معيّنة.
وبحسب مسح وظيفي عام لمجلس الخدمة المدنية أجري عام 2019 حصلت عليه “مبادرة غربال“، يبلغ أعداد أفراد القطاع العام في لبنان 91,961 شخص، بينهم 37916 متعاقدون و3452 أجراء، و13396 عاملون بأيّ صفة كانت، والـ 37197 الباقون هم موظفون ومستخدمون.
وتعاني الإدارة العامة من شغور عام في الملاك يصل إلى حدود 71% في الإدارات العامة، و56% في المؤسسات العامة، أما في البلديات فوصلت إلى 82%، مما يعني أنّ الادارة العامة تقوم على عاتق المتعاقدين والأجراء والمستخدمين.
وكان التعاقد الوظيفي بمختلف أشكاله في الوزارات والإدارات العامّة والتعليم الرسمي ازداد خلال الحرب اللبنانية وبعدها نتيجة النقص في الإدارات العامة وطغى على جزء من التعيينات الوساطة والمحسوبيات، من دون الأخذ بعين الاعتبار مستوى الكفاءة والجدارة في التوظيف والمساواة ومن دون إجراء مباريات “مجلس الخدمة المدنية”.
وبحسب رئيس “الاتحاد الوطني لنقابات العمال والمستخدمين في لبنان” كاسترو عبدالله، فإنّ هذا النوع من التوظيفات كان ولا يزال مستمرًا من دون أي أطر قانونية تحمي هؤلاء العاملين في القطاع العام، بهدف ضمان بقائهم تحت سلطة المحاصصة والمحسوبيات السياسية والطائفية والمذهبية. ويضيف عبد الله في اتصال مع “المفكرة” إلى أنّه “تمّ استغلال هؤلاء طيلة سنوات خدمتهم، من دون أي حقوق، وفي ظل عدم استقرار وظيفي وحرمانهم من راتب تقاعدي ومن التقديمات الاجتماعية، لأنّهم التزموا بتوصيات صندوق النقد الخصخصة وعدم التوظيف”.
ورأى أنّ على السلطة أن تتحمّل مسؤولياتها تجاه هذه الشريحة “الضحية” وأن تجترح الحلول لها سواء بالعمل على دفع تعويضاتها بما كانت توازي بالدولار قبل الأزمة، أو حفظ هذه المبالغ بقانون بما يعتبرها دينًا ممتازًا على الدولة مستحق الدفع بعد سنة أو أكثر أو أقل. ويأسف عبد الله لعدم وجود قوانين وتشريعات تحفظ حقوق هؤلاء الذين خدموا الدولة 30 و40 عامًا، مؤكدًا أنّه لا يوجد سابقة كهذه لا في لبنان ولا في العالم كله. وقال: “عندما دفع المتعاقدون اشتراكاتهم استفادت الدولة من تلك الاشتراكات، واليوم تتعامل مع هؤلاء كضحايا أو أصحاب حظ سيّئ ولا تريد إيجاد الحل لهم”.
وذكر عبد الله بأنّ لبنان في العام 2023 وُضع على لائحة المساءلة في لجنة معايير العمل الدولية في منظمة العمل الدولية، لأنه لا يجيب على الأسئلة التي تلفت إليها اللجنة منذ العام 2017، ويعتبر ذلك مخالفًا للاتفاق 29 الذي صدّق عليها لبنان في العام 1977 حول العمل الجبري، وتحديدًا على عاملات المنازل والمتعاقدين والمياومين والعاملين بالفاتورة في القطاع العام.