“الغاية من أيّ سؤال عن المؤسسات العموميّة هي إيجاد مبرّرات لدعوة جاهزة مسبقا لخصخصتها”، هذه هي الإجابة المفترضة عن السؤال موضوع الملفّ، وهي إجابة تذكّر بحدّة الانقسام الأيديولوجي حول المؤسسات بين من يعتبرونها إرثا ثقيلا يجب التخلص منه لإفساح المجال الاقتصادي للمبادرة الخاصة وبين من يجاهرون بحنين لستّينات القرن العشرين وسيّاساته الاشتراكية فيعبّرون عن رفض مبدئيّ لأيّ نقاش في الموضوع حماية لما يقولون أنها دعائم للاقتصاد الوطني وخيارات الدولة الوطنية. والجدل الذي يثيره العنوان إنّما ينبّهنا إلى أنّ ما نعرفه عن موضوع السؤال أقلّ مما يجب. إذ إنّ الاعتقاد أن المؤسسات جميعها ثمرة خيارات اشتراكية تعود لفترة محددة من تاريخ تونس يفنّده التدقيق في مبررات إحداثها وحقيقة أن جانبًا كبيرًا منها إنما انوجد لخدمة المبادرة الخاصّة ودعمها.
جهلنا بالفاعل الاقتصاديّ الذي يوفّر 7،7% من الناتج الداخلي الخام ويُشغّل 4% من اليد العاملة النّشيطة ويوزّع 12% من الأجور يتأكّد بالسؤال عن قائمة مؤسّساته. وهو سؤال لا نجد له على بساطته جوابًا تجمع عليه الوزارات ذات الصلة، ومردّ ذلك إحداث عددٍ من المؤسّسات لمؤسّسات متفرّعة عنها ومساهمتها في أخرى يمكن أن توصف بالعمومية، بما غيّب عن الإدارة المركزية المعطيات التي تحتاج إليها في عملها الإحصائي.
وذات التدقيق الصعب نحتاج إليه كذلك في محاولة رسم ملامح النظام القانوني لتلك المؤسسات والتي نظنّها واحدة. إلا أنّ توجّه المشرّع هو غير ذلك، بحيث أنّه ميّز فيما بينها في علاقتها بقواعد التصرّف الماليّ وفي تحديد فرع القانون المنطبق على عملها وتصرّفاتها وفي ضبط القاضي المختص للنظر في النزاعات المتصلة بها (قاضيها الطبيعي)، فضلا عن اعتماد أنظمة مختلفة لموظفيها لجهة أنظمة تأجيرهم وحقوقهم التقاعدية. ويتأكد تنوّع المؤسسات بملاحظة مجال نشاطها الذي يشمل إدارة مرافق عمومية زيادةً على أعمال صناعة وتجارة وفلاحة وخدمات، وهي خاصيّة تزيد في صعوبة السؤال حولها.
وفي محاولة لتجاوز الصعوبات التي فرضها التشعّب والتعدد للمؤسسات العمومية وتجنّبا لما قد يكون اختلافا في المنطلقات، نُحاول اعتماد معايير دقيقة في الجواب المنشود فيكون الخيار المنطقي هو الاستناد للغة الأرقام والتي تقول في منطلق حديثها إن المؤسسات العمومية الناشطة في القطاع الاقتصادي تحصّلت سنة 2023 وحدها على دعم من ميزانية الدولة في حدود 10329،5 مليـون دينـار أي مـا يعـادل 21% من أعباء المالية العمومية، وأن أغلبها توقف عن الاستثمار لكون نتائج استغلاله وما يتلقّى من دعم من الدولة يُوجّه بالكامل أو يكاد لتغطية أجور أعوانه ولا يكفي لخلاص ديونها لدى مزوّديها ومنها مؤسسات عمومية يفترض باعتبار معيار نشاطها أنها رابحة لكنها فعليا وبسبب تردّد الدولة ومؤسساتها في خلاص مستحقاتها، سقطت في أزمة سيولة تنذر بتحولها في مستقبل منظور إلى مؤسسات فاشلة. وتفرض علينا هذه المعطيات الاعتراف بأن المؤسسات التي تنشط في المجال الاقتصادي تتحصّل على قسطٍ كبير من تحويلات الدولة وأنّ ما يُرصد لها في هذا الغرض يتطوّر بنسق كبير من سنة إلى أخرى وأن تلك الأموال تُقتطع ممّا كان يفترض أن يوجّه للتنمية.
ولكن ذات المعطيات لا يجب أن تحجب عنّا أرقامًا غيرها تبيّن أنّ ما يقدّم كعجز للمؤسّسات تغطيه الدولة هو في جانب منه ديونٌ تخلّدت في ذمة الدولة لدى المؤسسات ويتمّ خلاصها فيها بشكل متأخّر من دون أيّ اعتبار للخسائر التي سبّبها ما سبق ذلك من تأخير في الدفع. أما الجانب الآخر للعجز فيخصّ دعم المحروقات والمواد الغذائية والنقل العموميّ وقد قدّر في موازنة 2024 ب 2786 مليون دينار و يتم توجيهه للمؤسسات التي تدير تلك المرافق تعويضا عما سبق وتحمّلت من عبء في هذا الخصوص. كما لا يغيب عنّا أن كثيرًا من المنشآت التي تُعرف بكونها تنشط في المجال الاقتصادي تُسيّر مرافق عامة ذات طابع اجتماعيّ ويصعب تاليًا أن تحقّق ما يطلب من ربحية في ظل تدنّي مداخيل المستفيدين من خدماتها وعدم قدرتهم على مجابهة تكاليفها الحقيقية.
وفي ذات السياق، يرصد القارئ للأرقام أنه رغم ما يحمل على المنشآت من التزامات لا تلائم صبغتها التجارية والصناعية، إلّا أنّ كثيرًا منها يحقق نجاحات مالية وأن سبعًا من أهمّ عشر مؤسسات اقتصادية باعتبار معيار رقم معاملاتها بتونس هي مؤسسات عمومية وأنّ مساهمة المؤسسات العمومية في موارد الدولة تقدّر في 2025 ب 1497 مليون دينار أي ما يمثل 33،8% من المداخيل غير الجبائية للدولة. وهي أي تلك المؤسسات الناجحة ممّا يحتاجه الاقتصاد ليخفّف هيمنة المؤسّسات الصغرى والمتوسطة على نسيجه.
عند هذا الحد يصعب على القراءات المالية الإحصائية أن تقدم جوابا محايدا سياسيا عن السؤال الذي يطرح حول استمرار حاجة الدولة لمؤسّساتها العمومية ومدى ضرورة المحافظة عليه كما هو راهنًا، وهو سؤال يتطلّب منها حسم خياراتها السياسيّة. ولئن يزداد هذا السؤال إلحاحًا مع تفاقم الصّعوبات المالية والاقتصادية التي تعاني منها الدولة، فإن التوجّه الغالب للدولة يقوم على تجاهله أو على الأقل العمل قدر الممكن على إرجاء النظر فيه، هذا إذا لم يتمّ نسفه على أساس منطلقات إيديولوجية من دون أي تنسيب.
نقلب في دفاتر التاريخ فنجد أنه كلما تأخّر الجواب عن السؤال حول وصفة علاج المؤسّسات تعمقت أزمتها وزاد أثر تعثّرها على مردودية الاقتصاد. وأكثر ما نخشاه هو أن تجد الدولة نفسها بفعل رفضها التخلّي عن مؤسسات لا قيمة استراتيجية لها، في وضعية تفقدها إمكانية المحافظة على مؤسسات ذات قيمة استراتيجية عالية. ومن هنا، ارتأينا أن نخصص هذا الملف لا لحسم السؤال الذي يتطلب معطيات ونقاشًا مجتمعيًا واسعا، بل لتعزيز المعرفة بشأن ماهية هذه المؤسسات العمومية وعددها ونوعها والهدف منها. وهي خطوة أولى يفترض أن نعمل على استكمالها لاحقا من خلال درس أكثر تعمقا لهذه المؤسسات على اختلافها.
نشرت هذا التمهيد في الملف الخاص لمجلة المفكرة القانونية-تونس العدد 32
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.