خلال أقل من أسبوع، ناقشت الجلسة العامة لمجلس نواب الشعب لائحتين أثارتا جدلا كبيرا: الأولى مقدمة من كتلة الحزب الدستوري الحر عنوانها “إعلان البرلمان التونسي رفضه للتدخل الخارجي في ليبيا”، والثانية من كتلة إئتلاف الكرامة حول “مطالبة الدولة الفرنسيّة بالإعتذار للشعب التونسي عن جرائمها في حقبة الاستعمار المباشر وبعدها”. لم تحظَ أي من اللائحتين بمصادقة المجلس لعدم حيازتهما على الأغلبية المطلقة من الأصوات (109). لكنهما تسببتا بانقسامات حادّة واتهامات بالعمالة ومشاهد لا يمكن إلا أن تفاقم الصورة السلبية للبرلمان لدى الرأي العام.
مشاهد من المرجّح أن تتكرر مع نظر البرلمان، في الأسابيع القليلة القادمة، في لائحة ثالثة لا تقل عن سابقتيها إثارة للجدل، تقدمت بها مرة أخرى كتلة الدستوري الحر من أجل “تصنيف جماعة الإخوان المسلمين كتنظيم إرهابي”.
“مهرجان اللوائح” هذا لا يفسر فقط بسعي الكتلتين لتسجيل نقاط سياسية، وإنما كذلك بما توفره آلية اللائحة، رغم افتقادها للآثار القانونية، من مرونة وقدرة على التحكم لصالح من يبادر بها. حتى شرط الإعلام الفوري لرئيس الجمهورية ورئيس الحكومة تحول هو الآخر إلى مادة للجدل السياسي في جلستي التصويت، وسط مناخ سياسي قائم على محاولة إحراج الخصوم، سواء كانوا من الكتل النيابية، أو في السلطة التنفيذية.
اللوائح البرلمانية: أداة طيّعة بيد الكتل النيابية
عادة ما تعرّف اللوائح البرلمانية على أنها “كل ما يصادق عليه البرلمان وليس قانونا”[1]. وهي آلية معتمدة في معظم البرلمانات للتعبير على مواقف في مواضيع مختلفة، أو لمحاولة التأثير على السلطة التنفيذية دون أن يكون لذلك صبغة إلزامية.
وعلى خلاف بعض الديمقراطيات كالبرتغال والدانمرك وبلجيكا وفرنسا، ليس للوائح البرلمانية أساس دستوري في تونس. لكن ذلك لم يمنع مجلس نواب الشعب من التنصيص عليها في الفصل 141 من النظام الداخلي، دون أن يتسنى التثبت من مدى دستورية ذلك[2]، طالما أن النظام الداخلي لم يعرض إلى الآن على رقابة القاضي الدستوري.
يعطي هذا الفصل كل رئيس كتلة إمكانية تقديم مشروع لائحة “بهدف إعلان موقف حول موضوع وحيد” على الجلسة العامة للمناقشة والتصويت. أي أنه لم يستثنِ مجالات معينة، ولم يفرضْ شروطاً غير أحادية الموضوع وعدم تعلقه “بإحدى اللوائح المنظمة بالنظام الداخلي”، والمقصود لائحة اللوم ولائحة إعفاء رئيس الجمهورية من أجل الخرق الجسيم للدستور.
إلى جانب هامش الحرية الكبير في صياغتها، تمكّن اللائحة أي كتلة برلمانية، مهما كان حجمها، من فرض مسألة معينة في جدول أعمال المجلس. فالفصل 141 من النظام الداخلي ينص على عرض مشروع اللائحة على التصويت في أجل أقصاه شهر من إيداعها، خلافا لمقترحات القوانين المقدمة من النواب، والتي يبقى معظمها في الرفوف نظرا للأولوية التي تتمتع بها مشاريع القوانين الواردة من السلطة التنفيذية، وضعف نسق العمل التشريعي.
كما تظل الكتلة المبادِرة بمشروع لائحة متحكمة في موضوع النقاش إلى حين التصويت، فلا تقبل مقترحات التعديل إلا بموافقتها، ليس فقط خلال اجتماع رؤساء الكتل الذي يعقد أسبوعا بعد تقديم اللائحة، وإنما كذلك في الجلسة العامة. فبمجرد إنتهاء النقاش العام حولها، تعود الكتلة المبادرة بنصّ معدّل تصوغه بنفسها ليعرض على التصويت، حتى أن كتلة الدستوري الحر لم تتردد في إضافة نقطة لم ترد في أي مقترح تعديل، تتضمن إشارة مبطنة للتدخل التركي في ليبيا، بالتزامن مع حذف الإشارة المباشرة إلى قطر وتركيا دون غيرها من الدول استجابة لطلب جلّ الكتل.
لوائح للفرز السياسي بين “وطنيين” و”خونة”
إذا كان هدف اللوائح البرلمانية هو تعبير السلطة التشريعية على موقف معين، فإن لائحتي الدستوري الحر وائتلاف الكرامة فشلتا في تحقيق ذلك بسقوطهما في التصويت. لكن الأرجح أن الكتلتين سعيتا خاصة لإحداث فرز سياسي حسب معاييرهما، بغض النظر عن حظوظ تمرير اللائحتين.
لا يظهر هذا فقط من خلال اختيار القضايا، وإنما كذلك من طريقة صياغة مشروع اللائحة وتقديمها. في الحالتين، لم يتم التنسيق مع الكتل الأخرى قبل تقديم اللائحة، فكانت الصياغة غير قادرة على التجميع. كما اختارت الكتلتان غلق الباب أمام مقترحات التعديل في اجتماع رؤساء الكتل الذي يسبق الجلسة العامة بأسابيع، والذي كان بإمكانه أن يتيح الوصول إلى صيغة توافقية، أو على الأقل صيغة تكون حظوظ تمريرها أوفر. على العكس، أصرّت الكتلتان على عرض لائحتيهما في الصيغة الأصلية، حتى إن لم تكن متوازنة، فكان النقاش العام متشنجا، بل أنه حاد عن موضوعه. فتحولت مناقشة لائحة طلب الإعتذار الفرنسي إلى محاكمة للتاريخ التونسي وبعض رموزه، ورمي بعضها بالعمالة للمستعمر.
في الحالتين، لم يبق من الجلستين سوى تشنج كبير، وتخوين من هذا الجانب أو ذاك، واتهام بالتبعية للمحور التركي-القطري أو للإمارات العربية المتحدة، ثم بالخوف من فرنسا والعمالة لها. وفي الحالتين، اعتبر عدم التصويت لصالح اللائحة مساندة للتدخل الأجنبي، أو دفاعا عن جرائم الاستعمار، ولا فرق في ذلك بين التصويت بضد والاحتفاظ وعدم المشاركة أصلا. فمن لا يصوت مع اللائحة، هو ضد الوطن.
المشهد ذاته سيتكرر على الأغلب عند نقاش مشروع لائحة تصنيف تنظيم الإخوان كتنظيم ارهابي. فالهدف الأهم من ورائها هو الفرز حسب معيار العداء لحركة النهضة، واتهام كل من لا يصوت مع اللائحة، أيا كانت أسبابه، بأنه من أذيال حركة النهضة. هدف سيتحقق لا محالة، سواء مرت اللائحة أو سقطت كسابقتيها.
حرص على صلاحيات السلطة التنفيذية أم محاولة لإحراجها؟
مشهد آخر تكرر في جلستي التصويت على اللائحتين، وهو التساؤل حول دور رأسيْ السلطة التنفيذية وما إذا كان يتوجب انتظار رأيهما، خصوصا أنهما تعلقتا بالسياسة الخارجية. فالفصل 141 من النظام الداخلي يفرض على رئيس مجلس نواب الشعب أن يعلم فورا رئيسي الجمهورية والحكومة بمضمون مشروع اللائحة. لكنه لا يرتب أثرا على الإعلام. من جانبه، لم يعلق رئيس الجمهورية على هذا الجدل، في حين لم يتردد رئيس الحكومة في انتقاد طريقة مناقشة اللائحتين، معتبراً أن البرلمان يختلق المشاكل لنفسه.
ولعل ما يلفت الإنتباه، هو أن التدخلات التي أصرت على انتظار موقف رئيس الجمهورية، خصوصا عند مناقشة لائحة مطالبة فرنسا بالإعتذار عن جرائمها، أتت من كتلتي النهضة وقلب تونس. فلا يخفى أن علاقة هاتين الكتلتين مع رئيس الجمهورية متوترة، خصوصا منذ اختيار الياس الفخفاخ من قبل رئيس الجمهورية لتشكيل الحكومة، وإصرار هذا الأخير على استبعاد حزب قلب تونس من المشاورات، رغم تشبث حركة النهضة بتشريكه في الائتلاف الحاكم. كما أن ذود كتلة النهضة عن صلاحيات رئيس الجمهورية في السياسة الدبلوماسية لا يتناسق كثيرا مع دفاعها عن الإتصالات الخارجية لرئيس المجلس راشد الغنوشي، باسم “الدبلوماسية البرلمانية”.
أي أن النقاش القانوني حول تأويل الفصل 141 من النظام الداخلي يخفي في الواقع حسابات سياسية وسعيا لتسجيل نقاط على حساب رأسي السلطة التنفيذية. فمن جهة، إثارة هذا الإشكال يساهم في تبرير موقف الكتلتين بعدم التصويت لصالح لائحة مطالبة فرنسا بالإعتذار، ويظهر رئيس الجمهورية بالأخص، ورئيس الحكومة بدرجة أقل، في موقف المتخلي عن صلاحياته أو العاجز عن أخذ موقف في مثل هذه القضايا. لكن هذه الحسابات السياسية لا تنفي وجود إشكالات في تأويل الفصل 141، مما قد يعجل بتعديله.
نحو تنقيح النظام الداخلي لترشيد استعمال آلية اللوائح البرلمانية
خلال المدة البرلمانية الفارطة، لم يتم تقديم سوى مشروع لائحة وحيد للمطالبة بإعادة العلاقات الدبلوماسية مع سوريا، وقد سقطت هي الأخرى في التصويت. لم تستغلّ المعارضة آنذاك ما يوفره لها هذا السلاح من قدرة على فرض مواضيع النقاش، وظلّت في معظم الأحيان في موقع رد الفعل على مبادرات الحكومة. كما لم تتفطن الأغلبية إلى غياب ضوابط في الفصل 141 من النظام الداخلي وإمكانية التعسف فيه.
أما الآن، وبعد تقدم كتلتي الدستوري الحر وائتلاف الكرامة بثلاثة مشاريع لوائح مثيرة للجدل في أقل من شهر، فقد بدأ التفكير في تعديل هذا الفصل لترشيد استعمال آلية اللوائح. أثيرت هذه المسألة في اجتماع لجنة النظام الداخلي، وكذلك في اجتماع رؤساء الكتل الأخير، وأجل الأمر إلى حين إتيان الكتل بمقترحات عملية.
طبعا، لا شيء يمنع المجلس من حذف هذه الآلية من النظام الداخلي، بما أنها تفتقر لأساس دستوري، ولا إلزامية لها. قد يذهب النواب أيضا في خيار تنقيح إجراءات مناقشة اللوائح، كالتخلي عن أجل الشهر لعرضها على تصويت الجلسة العامة، أو مناقشتها داخل اللجان أسوة بالمبادرات التشريعية، والترشيد من تحكم الكتلة المبادرة في مسار مناقشة لائحتها.
لكن النظام الحالي للوائح لا ينتج بالضرورة عن سهو أو عن سوء تقدير ممن صاغ النظام الداخلي في سنة 2015، وإنما يعكس مقاربة تحمي خاصة دور الأقلية البرلمانية، فتجعل اللوائح آلية لديها لفرض نقاش مواضيع معينة في الجلسة العامة، بينما يصعب عليها التدخل في الأجندة التشريعية. كما أن اشتراط موافقتها على مقترحات التعديل يهدف لحماية مبادراتها من إمكانية ركوب الأغلبية عليها وتطويعها لصالحها.
وبالتالي، ليس غريبا أن تأتي غالبية مشاريع اللوائح من كتل معارضة، وهو ما نلاحظه في معظم البرلمانات. لكن الإشكال يكمن في توظيف قضايا سيادية في حسابات سياسوية، ونقاشها بطريقة متشنجة تخوّن الرأي المخالف، وفي خطر تعطيل العمل التشريعي والإنتخابي للمجلس، مع كل الأولويات المتراكمة، إذا ما تواصل تقديم مشاريع اللوائح بهذا النسق.
وإذا كان تشنج النقاشات أحد الأمراض التي يصعب علاجها بمثل هذه التركيبة البرلمانية، فإنه بالإمكان إيجاد حلول ترشّد استعمال اللوائح البرلمانية من دون أن تجرّد المعارضة من هذه الآلية. مثلا، قد يكون الحل في تخصيص “أيام المعارضة”، في كل دورة برلمانية، يكون للمعارضة فيها حق طرح المواضيع التي تشاء على النقاش والتصويت، كما هو الشأن في مجلس العموم البريطاني. كما قد يكون أحد الحلول في ضبط عدد أقصى للوائح التي يمكن لكتلة إيداعها في كل دورة برلمانية، لتفادي تعسف البعض في استعمالها.
ما من شك أن اللوائح المقدمة في الفترة الأخيرة ساهمت وستساهم في إثارة الإنقسام داخل البرلمان. ومن الأرجح أن تواصل كتلتا الدستوري الحر وائتلاف الكرامة تقديم لوائح مشابهة، خصوصا وأنهما تتغذيان من الإنقسام والتشنج. قد يسمح تنقيح النظام الداخلي بترشيد ذلك، لكن الأجدى، إذا كانت بقية الكتل تسعى جديا للإرتقاء بالعمل البرلماني، هو الإهتمام بالأولويات الأخرى، سواء كانت تشريعية أم إنتخابية، والتسريع في إنجازها، بما أن حصيلة عمل البرلمان في هذه الدورة البرلمانية الأولى لازالت إلى حد الآن ضعيفة جدّا.
[1] Sylvain Niquège, Les résolutions parlementaires de l’article 34-1 de la Constitution, Revue française de droit constitutionnel 2010/4 n°84, pp. 865-890.
[2] في فرنسا، اصطدمت محاولة كل من الجمعية الوطنية ومجلس الشيوخ سنة 1957 تنظيم مسألة اللوائح البرلمانية في نظاميهما الداخليين بقرارين للمجلس الدستوري أقر فيهما عدم دستورية فتح المجال لتقديم وإقرار مشاريع لوائح في ما يخرج على القرارات المتعلقة بسير عمل المجلس. لكن هذين القرارين يفسران من جهة بضعف استقلالية المجلس آنذاك أمام السلطة التنفيذية، وبما عرفته الجمهورية الثالثة والجمهورية الرابعة من تعسف البرلمان في استعمال هذه الآلية.