الله… مبدأ دستوري!


2013-04-25    |   

الله… مبدأ دستوري!

يقول لنا المفكر الألماني الكبير كارل شميت في كتابه الشهير "اللاهوت السياسي" بأن المبادئ المهمة لنظرية الدولة الحديثة هي في الأساس مبادئ لاهوتية تمت علمنتها:
“Tous les concepts prégnants de la théorie moderne de l’Etat sont des concepts théologiques sécularisés”[1].
لكن هذا الأمر لا ينطبق إلا في اتجاه واحد، أي ان المنظومات اللاهوتية في الغرب ومدارس علم الكلام في الحضارة العربية الاسلامية تحمل في طياتها جملة من المبادئ التي خضعت، نتيجة لتأثيرات الحداثة،  لتبدلات مفهومية عميقة مما أوجد حالة انزلاق ابستيمولوجي فانتقلت الأفكار من حقل اللاهوت وما بعد الطبيعة إلى حقل الحقوق ونظرية الدولة.
وإذا كان التوسع في هذا البحث من الأمور المهمة جدا والضرورية لكنه يدخل في المقام الأول ضمن اختصاص الفلسفة وتاريخ الفكر، وليس لرجل القانون بصفته تلك أن يكلف نفسه عناء النظر في هذه المواضيع كونه لا يحتاج اليها في عمله.
لكن الغريب هو سلوك الاتجاه المعاكس وتحميل النصوص الدستورية مدلولات ميتافيزيقية هي على أقل تقدير عصية على الفهم ليس لاستحالتها بذاتها بل لأنها غير متسقة داخليا ولا تنسجم مع الاطار الذي تجد نفسها فيه. ولا شك أن الجهة التي تولت صياغة الدستور اللبناني سنة 1926 لم تتنبه لهذا المأزق كون المادة التاسعة منه تعلن صراحة بأن "حرية الاعتقاد مطلقة والدولة بتأديتها فروض الإِجلال للَّه تعالى تحترم جميع الأديان والمذاهب…".
المعضلة التي تواجهنا هي بكل بساطة عدم فعالية النص الذي يأتي على ذكر الله. فالشارع الدستوري بتحويله الله إلى مادة قانونية لم يكتف بالاعتراف بوجوده بل هو قال لنا أن الدولة يجب أن تؤدي فروض الاجلال له. وهنا تكمن مجموعة من التاقضات المسكوت عنها والتي ينبغي أولا امتحانها فكريا ومن ثم فضحها وتبيان تهافتها.
فالمادة التاسعة تعلن حرية المعتقد لا بل تذهب إلى الحد الأقصى وتقول لنا أن هذه الحرية هي مطلقة لتعود مباشرة وتعترف بوجود كائن أسمى يتوجب تقديم فروض الطاعة والاجلال له. ولا يقف الأمر عند حد اقحام مبادئ ميتافيزيقية بل هو يتخذ شكلا محددا كون النص يتبنى الفكر التوحيدي القائم على الاقرار بوجود كائن أسمى واحد في الكون. وهكذا كيف يمكننا التوفيق بين حرية المعتقد والنص المذكور؟ فإن كانت الدولة ملزمة بقوة النص الدستوري تقديم الاجلال لله ما هو مصير المواطن الملحد مثلا والذي يرفض وجود الله؟ والأمر نفسه ينسحب على الانسان الذي يعتقد بتعدد الالهة كأتباع الديانات الشرقية.
لكن القارئ قد يقول أن عدد الملحدين والقائلين بتعدد الالهة هو ضئيل جدا في لبنان حيث العيش المشترك بين المسيحيين والمسلمين الذين يؤمنون باله واحد. لكن المشكلة لا تلبث أن تظهر من جديد. فالمسيحيون والمسلمون لا يعبدون الله ذاته إذ ان كل فريق لديه تصوره الخاص حول الله وصفاته: بين الاله الواحد المثلث الأقانيم واله سورة الإخلاص (قل هو الله أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ) هناك بون شاسع لا يمكن جسره بشعار "ميثاق العيش المشترك".
فأي اله هو ذاك الذي نصت عليه المادة التاسعة من الدستور اللبناني: أهو اله المسيحيين أو اله المسلمين أو ربما اله اليهود؟ لكن النص على رغم عدم تحديده الاله القصود كن شديد الحرص على إضافة صفة العلو على الله، أي التأكيد على مفارقته لهذا العالم. وهكذا مرة أخرى يتخذ النص الدستوري خيارا فلسفيا عز نظيره: فلا مجال في لبنان لأتباع مذهب وحدة الوجود والظاهر أن الفيلسوف الكبير سبينوزا كان سيواجه بعض المشاكل لو شاءت الظروف أن يعود اليوم كمواطن في بلد الرسالة لبنان.
وحفلة التاقضات هذه تبلغ أوجها مع الإصرار على أن الدولة يجب أن تؤدي الإجلال لله. فالدولة تتمثل بالسلطة السياسية وأجهزتها الإدارية، وبالتالي كيف يستطيع مجلس النواب مثلا تأدية دوره بإجلال الله؟ هل برفض كل قانون يخالف مشيئة الله. لكن ما هي مشيئة الله أولا وكيف يمكن لنا أن تعرفها؟ علاوة على ذلك، هل مشيئه الله هي تلك الموجودة في الشريعة الاسلامية أو تلك التي تؤكد عليها العقائد المسيحية؟ ولو سلمنا جدلا بأن السلطة التشريعية في لبنان تلتزم الحياد ولا تتبنى قوانين من شأنها مخالفة المسيحية والاسلام كيف يمكن للمادة التاسعة من الدستور أن تعلن بأن الدولة تجل الله مع العلم أن الدين المسيحي يخالف الدين الاسلامي في عدد كبير جدا من المسائل المهمة؟ فكل اجلال لله على الطريقة المسيحية هو إهانة كبيرة له بالنسبة للشرع الاسلامي والعكس صحيح أيضا. 
وقد يذهب البعض إلى الاعتراض والقول بأن النظام السياسي اللبناني هو نظام طائفي. فالدستور نفسه يأتي على ذكر المسيحيين والمسلمين بل هو يتكلم أيضا عن العائلات الروحية ورؤساء الطوائف. فلماذا التعجب من ذكر الله في المادة التاسعة من الدستور؟ أليست هذه المادة في نهاية المطاف شبيهة بمواد أخرى؟
في الحقيقة إن الفرق شاسع والاختلاف جوهري كونه يكمن في طبيعة مقاربة هذه المصطلحات. فعندما يتكلم الدستور عن الطوائف والأديان هو في الواقع ينظر إليها ككيانات إجتماعية وتاريخية ولا يأبه لعقائدها ولا لنظرتها إلى العالم. فالدولة في لبنان لا يهمها إذا ما كان المواطن مؤمنا وومارسا لشعائر دينه بل هي فقط تهتم بانتمائه الطائفي كي تستطيع تنظيم علاقتها القانونية به. لكن الأمر مغاير كليا في حال المادة التاسعة لأن الدستور بذكره الله بهذه الطريقة يكون قد اتخذ خيارا إيمانيا يدخل في حقل الغيبيات ولا يمكن تفسيره لا من زاوية علم الاجتماع ولا من زاوية التاريخ.
جراء ما تقدم يتبين معنا أن ذكر الله في الدستور اللبناني لا قيمة حقيقية له بل هو يثير كمية من المشاكل تؤدي إلى الحط من مقام العزة الالهية. والأسئلة نفسها تنسحب على المادة 473 من قانون العقوبات اللبناني التي تنص على أن "من جدف على اسم الله علانية يعاقب بالحبس من شهر إلى سنة". فما هو التجديف؟ وحسب تفسير من؟ تساؤلات خطيرة لا بل مصيرية كون حرية الرأي والمعتقد في لبنان رهينة الإجابة عليها. 


[1]Carl Schmitt, Théologie politique, nrf Gallimard, paris, 1988, p. 46.
انشر المقال

متوفر من خلال:

لبنان ، مقالات ، دستور وانتخابات



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني