اللجوء إلى القوة في فض التجمعات غير السلمية


2013-08-21    |   

اللجوء إلى القوة في فض التجمعات غير السلمية

شهدت مصر منذ أيام قليلة مجزرة وحشية بكل ما تحمله الكلمة من معان، ذلك أثناء فض القوات التابعة لوزارتي الداخلية والدفاع لاعتصامي "رابعة العدوية" و"ميدان النهضة" المؤيدة للرئيس السابق والمنددة بما أسموه "بالانقلاب العسكري على الشرعية"، والذي راح ضحيته ما يقرب من ألف قتيل[1] وآلاف المصابين، فهذا العدد من القتلى والجرحى -في ساعات لا تتعدى أصابع اليد الواحدة- لم تشهده أحداث ثورة يناير.
جاء قرار فض الاعتصامين بعد إلقاء وزير الدفاع بيانًا يناشد فيه جموع الشعب المصري بإعطائه تفويضًا لمكافحة ما أسماه "بالإرهاب"، والذي على أثره نزلت أعداد غفيرة لتعلن تفويضها إياه في ذلك، ولكنه لم يقم بذلك سريعًا ليزيد الاحتقان السياسي بين المواطنين وجماعة الإخوان المسلمين ومؤيدي الرئيس السابق، وقد ساعده في ذلك أعضاء الجماعة وقيامهم بأعمال عنف وقتل للمواطنين بغرض إحداث الرعب والترويع، مثلما حدث في المنيل من قتل عشوائي للمواطنين، والذي راح ضحيته خمسة قتلى وإصابة ما لا يقل عن عشرين آخرين، والتي ثبت من خلال التقارير الطبية أن جميع الوفيات جاءت نتيجة طلقات نارية في الرأس والصدر. هذا بالإضافة إلى الاشتباكات التي حدثت بين المناصرين للرئيس السابق والأهالي بمحافظة الإسكندرية، والتي لقي فيها عشرة مواطنين حتفهم وأصيب ما لا يقل عن مائة وعشرة آخرون نتيجة استخدام الرصاص الحي.
لا يخفى على أحد أن حرية التجمع السلمي مكفولة في الدساتير والمواثيق الدولية المعنية بحقوق الإنسان، لكن تلك الحرية باعتبارها احدى الحريات المنبثقة عن حرية التعبير عن الرأي وأحد الأشكال المستخدمة في عرض الآراء مشروطة بعدم الدعوة إلى الكراهية القومية أو العنصرية أو الدينية التي تشكل تحريضًا على التمييز أو العداوة أو العنف،[2] هذا بالإضافة إلى الإخلال بمقتضيات الأمن القومي أو السلامة العامة أو النظام العام أو الآداب العامة أو حماية حقوق الآخرين وحرياتهم.[3]
وقد فسرت منظمة المادة 19 التحريض على الكراهية – توافقًا مع مبادئ كامدن حول حرية التعبير والمساواة-على أن كلمة "الكراهية" و "العداء" تشير إلى مشاعر قوية وغير عقلانية من الازدراء، العداوة، أو بالبغض تجاه المجموعة المستهدفة.[4] كما عرفت "التحريض" على أنه "دعوة الجمهور بشكل مباشر أو غير مباشر للقيام بفعل ضد أفراد أو مجموعات، وذلك باستخدام إحدى طرق العلانية، على أن يكون الخطاب موجهًا ضد أفراد أو جماعات محددة ولو بشكل غير مباشر كما في حالة استخدام الاستعارات والمجازات".[5]
حتى نكون متصالحين مع أنفسنا وهديًا بالمبادئ السابق الإشارة إليها، يمكننا الجزم بأن هذه التجمعات خرجت عن إطار السلمية، والدال على ذلك تحريض جماعة من المعتصمين على العنف والحض على الكراهية ضد المسيحيين، والتلويح باستخدام القوة وتوقف الأعمال الجهادية التي في سيناء إذا ما عاد الرئيس السابق إلى منصبه[6]، هذا بالإضافة إلى حمل بعض المعتصمين للسلاح، ورصد العديد من حالات الاختطاف والاحتجاز القسري للمواطنين ووجود حالات تعذيب لمعارضين داخل اعتصام "رابعة العدوية" وفقًا لمنظمة العفو الدولية[7].
لكنه رغم خروج هذه التجمعات عن السلمية المفترضة فيها، لا يبرر مطلقًا القتل الجماعي للمعتصمين سواء السلميين منهم أو غير السلميين. ومن ثم تنعقد المسئولية القانونية –الجنائية والمدنية- ليس فقط على القوات القائمة بالفض. بل على مصدر القرار وكل من ساهم في إصداره. حيث لم تراع هذه القوات الحدود الدنيا من حقوق الإنسان كالحق في الحياة والكرامة الإنسانية.
وبذلك يكون هذا العمل الإجرامي من قبل الدولة بمثابة حرمان تعسفي من الحق في الحياة المشمول بالحماية في المادة 6 (1) من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، والتي رأت اللجنة المعنية بحقوق الإنسان أن على الدول الأطراف أن تتخذ تدابير ليس فقط لمنع حرمان أي إنسان من حياته عن طريق القيام بأعمال إجرامية، والمعاقبة على ذلك الحرمان. وإنما أيضًا لمنع أعمال القتل التعسفي التي ترتكبها قوات الأمن التابعة لتلك الدول ذاتها. ويعد حرمان أي إنسان من حياته من قبل سلطات الدولة أمرًا بالغ الخطورة. لذلك ينبغي للقانون أن يضبط ويقيد بشكل صارم الظروف التي يمكن فيها للسلطات حرمان أي شخص من حياته.[8]
وبالتالي، فعلى قوات الأمن في أدائهم لواجبهم، أن يطبقوا قدر الإمكان الوسائل التي لا تتسم بالعنف قبل اللجوء إلى القوة والأسلحة النارية، ولا يجوز لهم استعمال الأسلحة النارية إلا إذا ثبت عجز غيرها من الوسائل عن أداء المهمة أو عدم وجود أي أمل في تحقيقها للنتيجة المنشودة، ومتى كان الاستعمال المشروع للقوة والأسلحة النارية أمرًا لا مناص منه، يقلل الموظفون المكلفون بإنفاذ القانون الضرر والإصابة إلى الحد الأدنى، ويحترمون في ذلك الحياة الإنسانية ويحافظون عليها.[9]
فقد شددت المادة 3 من مدونة الأمم المتحدة لقواعد سلوك الموظفين المكلفين بإنفاذ القانون على أن استعمال القوة ينبغي أن يكون أمرًا استثنائيا، مع أنه يوحي بأنه قد يكون من المأذون به لهؤلاء الموظفون أن يستخدموا من القوة ما تجعله الظروف ضروريا من أجل تفادي وقوع الجرائم، فهو لا يجيز أن تتخذ القوة بشكل يتعدى هذا الحد.
كما أنه يجب أن يفهم أنه يتعين احترام مبدأ التناسب، مع الوضع في الاعتبار أو استخدام الأسلحة النارية يعتبر تدبيرًا أقصى، وينبغي بذل كل جهد ممكن لتلافي استخدامها. ومن ثم فإنه لا يجوز استخدام الأسلحة النارية، عند تفريق التجمعات التي تتسم بالعنف، إلا إذا تعذر عليهم استخدام وسائل أقل خطرًا.
وهذا ما يدعونا للتساؤل حول أي ضرورة وأي تناسب في استخدام القوة يمكن أن يسفر عن هذا العدد من القتلى والجرحى؟ مع الوضع في الاعتبار ما تملكه تلك المؤسسات من معدات للدفاع عن النفس مثل الدروع والخوذات والصدريات ووسائل النقل الواقية من الطلقات النارية، ليس فقط لحمايتهم من أي اعتداء. بل أيضًا للتقليل من الحاجة إلى استخدام الأسلحة أيا كان نوعها؟!.
هذا على الرغم من إدانة هذا السلوك من قبل عدد من المنظمات الحقوقية المصرية لقوات الجيش والشرطة لاستخدامهم القوة المفرطة والتي استهدفت المعتصمين من أنصار الرئيس المعزول في أحداث الحرس الجمهوري وراح ضحيتها ما يقرب من واحد وخمسين قتيلًا وإصابة أكثر من أربعمائة آخرين، مشددة على ضرورة الالتزام بالمعايير الدولية في مواجهة التظاهرات.[10]
ومن ثم، لابد من مساءلة حقيقية لكل من شارك في هذا العمل، بداية من إغلاق القنوات الفضائية الدينية دون احترام لدولة القانون حتى لو اتخذت الخطاب التحريضي سبيلًا، مرورًا بمتخذ القرار أو حتى المشارك فيه إلى منفذه. ليس فقط في جرائم القتل الجماعي، لكن أيضًا بتهمة إخفاء الأدلة من جانب القوات للقضاء لمحو آثار الجريمة بالمياه والجرافات لإزالة متعلقات المعتصمين قبل قيام النيابة العامة بمعاينة مسرح الأحداث لكي يستحيل على الأخيرة الوقوف على تلك الجرائم، خاصة أن المتابع لعمليات الفض التي تم بثها على شاشات التلفاز تناقلتها الفضائيات الخاصة عن طريق القنوات الرسمية للدولة، فتلك القنوات لم تبث ما حدث برابعة العدوية مطلقًا -خاصة إنني كنت من المتابعين لعمليات الفض على تلك الشاشات- جميعها خاصة باعتصام "ميدان النهضة". هذا بالإضافة إلى التحقيق في وقائع احتراق بعض الجثث للوقوف على أسباب ذلك، وعن كيفية دخول الأسلحة لتلك الاعتصامات، وهل كان هناك تقاعس من قبل قوات الأمن في ذلك أم لا، مع الوضع في الاعتبار أن وظيفة جهاز الشرطة في هذا الشأن حماية تلك التجمعات وعدم خروجها عن إطار السلمية.
هذا كله يضاف إليه مسئولية الدولة وأجهزتها –القوات المسلحة والشرطة- عن تقاعسها في حفظ الأمن والنظام العام وحماية الممتلكات العامة والخاصة والحفاظ على أرواح المواطنين، والذي أدى إلى قتل العديد من المواطنين داخل منازلهم وخارجها مثلما حدث في محافظات صعيد مصر على سبيل المثال من حرق الكنائس والتعدي على الأديرة والمحال المملوكة للمسيحيين والمسلمين المعارضين، حتى المدارس لم تسلم من الحرق والهدم، وسرقة المتاحف والآثار، والاعتداء على أقسام الشرطة. حيث أنه من المعلوم لدى متخذ قرار فض الاعتصامات ومنفذه ما سيصحب ذلك من أعمال عنف وقتل وترويع للمواطنين، خاصة أن صعيد مصر مليئ بالأفراد التابعين للجماعات الإسلامية التي تسببت في أحداث العنف والفتنة الطائفية في أواخر الثمانينات وأوائل التسعينات. مع الوضع في الاعتبار أن في كل محافظة مديرية أمن ومعسكرات للأمن المركزي ووحدات تابعة للقوات المسلحة.
جاء هذا الدور المتخاذل من جانب الدولة، رغم ما شددت عليه عدد المنظمات الحقوقية المصرية تعقيبًا على صدور قرار مجلس الوزراء أواخر يوليو من العام الجاري بشأن اتخاذ الإجراءات اللازمة للتعامل مع المعتصمين في ميداني "رابعة العدوية" و "نهضة مصر"، والتي أوصت بضرورة وضع تقييم شامل للتداعيات الأمنية المحتملة ولقدرة الدولة على منع تفاقم العنف أو وصوله إلى أماكن أخرى، وأن يسبق التدخل الأمني إثبات استنفاد كافة وسائل الإقناع والتفاوض والوساطة.[11]
فكان لازمًا على الدولة وأجهزتها الأخذ بالتوصيات التي أصدرتها تلك المنظمات في مناسبات عدة، إلا أنها لم تعبأ بما رددته تلك المنظمات، مترفعة بذلك على أخذ المشورة منها.
بعد تلك الأحداث المؤسفة أصدر رئيس الجمهورية قرارًا بإعلان حالة الطوارئ لمدة شهر في العديد من محافظات مصر، تلاه قرار رئيس مجلس الوزراء بحظر التجوال من الساعة السابعة مساءً وحتى السادسة صباحًا. وبمعزل عن مدى صحة أسباب اعلان حالة الطوارئ، يرجح أن يؤدي إعلانها الى مزيد من انتهاكات لحقوق الإنسان، في مقدمتها محاكمة المقبوض عليهم في أحداث فض الاعتصامين وما تلاها من أحداث عنف متكرر إلى نيابات ومحاكم أمن الدولة العليا "طوارئ"، والتي لا يختلف أحد على طبيعتها الاستثنائية، وأنه لا يتوافر فيها شروط المحاكمة العادلة. وهذا ما يقتضي متابعته.    


الصورة منقولة عن رويترز


[2] المادة 20 فقرة 2 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية.
[3] المادة 22 فقرة 2 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية.
[4] Camden Principles, op. cit., Principle 12.1
[5] ARTICLE 19/Prohibiting incitement to discrimination, hostility or violence -Policy4Brief December 2012
[8] اللجنة المعنية بحقوق الإنسان – الدورة السادسة عشر – التعليق العام رقم 6.
[9] حقوق الإنسان في مجال إقامة العدل: دليل بشأن حقوق الإنسان خاص بالقضاة والمدعيين العامين والمحامين – الفصل الرابع "نبذة عامة عن معايير القانون الدولي لحقوق الإنسان والقانون الإنساني" – فقرة 17.
[11]ecesr.com/report/608225
انشر المقال

متوفر من خلال:

مقالات ، حريات عامة والوصول الى المعلومات ، مصر



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني