في تاريخ 26 حزيران 2023، انعقدتْ لجنة البيئة النيابية بصورة طارئة “للبحث في ملابسات ما يجري على شاطئ صور والناقورة من تعدّيات وعمليّات ردم للشاطئ”. وكانت وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي ضجّت مؤخرا بالموافقات اللتي منحَها وزير الأشغال العامة علي حميّة لمالكي عقارات محاذية للشاطئ في مناطق متفرقة من الجنوب خوّلهم بموجبها ردم مساحات واسعة من البحر. وقد استندت هذه الموافقات على أن المساحات المسموح بردمها تشكل ملكا خاصا لهؤلاء غمرها البحر بفعل تقدّمه على اليابسة بفعل عوامل طبيعية. وقد انعقدت الجلسة برئاسة النائب غياث يزبك وحضور نواب يمثّلون أبرز الكتل النيابية وهم على التوالي أمين شري وإيهاب حمادة (الوفاء للمقاومة)، وعناية عزّالدين وقاسم هاشم (التنمية والتحرير)، غسان عطالله (لبنان القوى)، ونزيه متى (الجمهورية القوية وهي الكتلة التي ينتمي إليها رئيس اللجنة أيضا) وملحم الحجيري. ومن الجانب الحكومي، حضر وزيرا الأشغال العامّة فضلا عن وزير البيئة ناصر ياسين. كما حضر ممثّلان عن قوى الأمن الداخلي. وفي ختام الاجتماع، عقدت اللجنة مؤتمرا صحافيا تحدث فيه رئيس اللجنة وهو يتوسّط الوزيرين المذكورين في صورة أريد منها التأكيد على عمق التفاهم والتوافق بهذا الشأن. وقد تمحورت كلمة يزبك حول أمرين إثنين:
الأول، تبرئة حاسمة لوزارة الأشغال العامّة من تهمة التواطؤ مع المستفيدين من ردم البحر أو ارتكاب أي مخالفة. وقد أفاد حرفيا أنه “تبيّن بما لا يقبل الشكّ والجدل، ولسنا في معرض الدفاع عن أحد، أنه ليس هناك من تواطؤ من قبل الوزارات المعنية وليس هناك من مخالفات بالمفهوم القاطع لكلمة مخالفة” وأنّه ليس هنالك خلل في تطبيق القوانين أو اعتداءات على الأملاك البحريّة. بل ذهب إلى حدّ إعلان التعاطف مع الوزارات المعنية طالما أن “البحث أثبت” أنها تجد نفسها بنتيجة تقدم المياه على الشاطئ، وتحت ضغط أصحاب الأملاك الخاصة في “أزمة إعطاء الرخص لإعادة الاستصلاح أو البناء”.
الثاني، أن الحاضرين في الجلسة قد توافقوا على ضرورة إعادة النظر في كيفية التعاطي مع القوانين التي ترعى الاختلافات التي طرأت على الشاطىء من الناحية الجيولوجية وتقدّم البحر وقضم الشاطئ وهذه مشكلة لا يعاني منها لبنان فقط بل كل دول العالم. ليختم بأنه “ستكون هناك توصيات ولجان عمل للتنسيق بين الوزارات المعنية لتحديث القوانين حيث يجب مراعاة قراءة القوانين بشكل أفضل والضغط على البلديات المعنيّة كل واحدة ضمن نطاقها، للتشدد في تطبيق القوانين لمنع المزيد من الأذى على شواطئنا وعلى الأملاك العامة والخاصة”.
هذا الاجتماع، بما انتهى إليه من مواقف مخيّبة، يستدعي الملاحظات وعلامات الاستفهام الآتية:
أولا، انحراف لجنة البيئة عن دورها في ممارسة العمل الرقابي
أول ما نلحظه هو انحراف لجنة البيئة عن دورها الرقابي في اتجاه إعمال المجاملة ومنح براءات ذمة للوزارات بنتيجة اجتماع بالكاد استغرق ساعة ونصف. وليس أدلّ على ذلك أنها استخدمت عبارات الحسم في توصيف الأفعال المنسوبة لوزارتيْ الأشغال العامة والبيئة، مثل: “تبين بما لا يقبل الشك والجدل” و”أنه ليس هنالك مخالفات.. بالمعنى القاطع للمخالفة” وأن “البحث أثبت” وما إلى ذلك من عبارات تهدف إلى تنزيه الوزارتين من أيّ ارتكاب أو تقصير، في مسعى لإظهار إجماع القوى السياسية رغم خصوماتها العميقة على صحة ما قام به الوزير في هذا الخصوص. وقد كلّل يزبك كل ذلك بإعلان تعاطفه وتفهّمه لوزارة الأشغال العامة نتيجة تعرّضها لضغوط أصحاب الأملاك الخاصة التي غمرها البحر.
وما يزيد من قابليّة موقف اللجنة للانتقاد هو أنّ هذه المواقف الجازمة في تبرئة الأداء الوزاري إنما تتعارض بالواقع مع قواعد قانونية لا تقبل هي حقيقة أيّ جدل، وفق ما بيناه في مقال سابق. ومن أهمّ هذه القواعد التي تجاهلتْها اللجنة في خضمّ حماستها في مجاملة الوزير المخالف، القرار 144/1925 الذي عرّف الأملاك العمومية وقانون حماية البيئة (ومرسومه التنظيمي الصادر في 2012) الذي يحظر القيام بأيّ عمل على الشواطئ من دون إتمام دراسة للأثر البيئي ومناقشتها مسبقا، وأخيرا مرسوم تنظيم وزارة الأشغال العامة والذي يجعلها مسؤولة عن حماية الأملاك البحرية من دون أن يوليها بالمقابل أيّ اختصاص في تثبيت الملكية الخاصة أو حمايتها، أو منح أذونات بردم البحر.
من هذه الزاوية، تصبح المجاملة التي اعتمدتْها اللجنة في مقاربة هذه المسألة موضع شبهة. فكأنما هي سارعتْ لعقد الجلسة ليس للتدقيق في القرارات التي اتخذها الوزير حميّة بل قبل كلّ شيء لمدّ يد العون له في مواجهة الانتقادات الواسعة التي تعرّض لها من جرّائها وعمليا للتأكيد على سدادة قراراته بردم البحر والتوجّهات التي انبنتْ عليها. وبالواقع، لا يُمكن تفسير ذهاب اللجنة في هذا المنحى في ظلّ الخصومات بين القوى السياسية داخلها وبداهة المخالفة إلا كانعكاس لوجود لوبي ناشط لأصحاب العقارات المحاذية للشاطئ و/أو كتعبير عن تقاطع مصالح سياسيّة على مخالفة القانون في هذا المجال في اتجاه تغليب حماية أصحاب الملكية الخاصة على حماية الأملاك العامة. وهذا ما يسمح لنا الانتقال إلى الملاحظة الثانيّة.
ثانيا، انتصار اللجنة لأصحاب الأملاك الخاصة أو تغليب المصلحة الفئوية على المصلحة العامة
الأمر الثاني الذي نستشفّه بوضوح من موقف اللجنة هو أنّها انحازتْ بشكل واضح إلى موقف وزارة الأشغال العامة لجهة القول بأن الأملاك الخاصة الواقعة في محاذاة الشاطئ تبقى كذلك حتى ولو غمرها البحر. وكنا شرحنا في مقالنا السابق أن هذا الموقف يتعارض تماما مع الفقه اللبناني ومع إجماع الفقه والاجتهاد الفرنسيين في تفسير نصوص مشابهة تماما للقرار 144 الصادر في ظلّ الانتداب الفرنسي في 1925. إذ يصعب فهمُ إسراف اللجنة في المجاملة وفي تبرئة وزارة الأشغال العامة بغياب هذا الانحياز، وهو الانحياز الذي يؤكد ما ذكرناه أعلاه لجهة وجود لوبيات ناشطة و/أو تقاطع مصالح سياسية على مخالفة القانون. وما يجعل هذا الانحياز فاقعا هو أن اللجنة التي انعقدتْ بصورة طارئة لتغطية هذه “المخالفات” لم تنعقد ولا مرة منذ بدء ولاية المجلس الحالي للنظر في تخلّف السلطة التنفيذية وبخاصة وزارة الأشغال العامة في تطبيق قانون 64/2017 بخصوص الأملاك البحرية المعتدى عليها. وعليه، تكون اللجنة قد حذتْ حذْو وزارة الأشغال العامّة في المبادرة إلى حماية الأملاك الخاصة (ولو خارج صلاحياتها) مقابل السهو تماما عن الاعتداءات الحاصلة على طول الشاطئ على الأملاك العامة البحرية، والتي تقدر أنها تشمل مساحة تصل إلى 5 ملايين مترا مربعا.
ولم تكتفِ اللجنة باعتماد هذا التفسير الواهي للقرار 144 بل ذهبتْ في اتّجاه الإعلان عن مباشرة العمل على تحديث القوانين لإيجاد حلّ مناسب لظاهرة تقدّم البحر على اليابسة والأخطر للضغط على البلديات لاتخاذ الإجراءات اللازمة في هذا الخصوص. وأكثر ما نخشاه على ضوء التماهي مع أعمال الردم في الدامور والناقورة أن يتّجه تحديث القوانين والضغط على البلديات في اتجاه السماح بعمليات ردم إضافية تحت حجة حماية الأملاك الخاصة في مواجهة البحر والطبيعة.
وبذلك، شكّل موقف اللجنة التي ضمّت مختلف الكتل النيابية دليلا آخر على اتفاق غالبية الكتل السياسية على تغليب المصالح الفئوية والخاصة على المصالح العامة. فمالكو العقارات المحاذية للشاطئ ينتمون إلى كلّ الطوائف ولهم مونة ضاغطة على غالبية الكتل الممثّلة بما يشكل “أزمة” حقيقية لهم (عبارة أزمة وردت في كلام يزبك في وصف ما تعرض له وزير الأشغال العامة)، وذلك بخلاف “الأملاك العامة” التي يبقى الضغط لحمايتها محدودا ولا يشكل استمرار الاعتداء عليها طوال عقود أزمة لأحد. فلا بأس إذا من التوافق على حماية حقوق هؤلاء ضد الطبيعة كما ضد الدولة والمجتمع، شرط أن يتمّ ذلك ضمن آليات “المحاصصة” المعتمدة في اقتسام الغنائم، حفظا للوحدة الوطنية وتجنّبا للفيتوات المتبادلة.
ثالثا، تسفيه ارتكاب جرائم بيئية
من اللافت أخيرًا أنّ اللجنة لم تشِرْ من قريب أو بعيد إلى حصول أعمال ردم البحر من دون إنجاز أي دراسة لأثرِها البيئي، رغم أن المرسوم النّاظم للأثر البيئي يفرض إعداد هكذا دراسة عنه قبل مباشرة أي عمل في المناطق المحاذية للشاطئ بالنظر إلى حساسيتها البيئية وأن مباشرة هذه الأعمال بغياب هذه الدراسة يشكّل جرما جزائيا يعاقب عليه حتى سنة حبس وفق قانون حماية البيئة 444/2002. فكأنّما اللجنة تسفّه بذلك ارتكاب الجرائم أو تعتبر النصوص الهادفة إلى حماية البيئة وكأنها مثاليّات لا يجدر أخذها بعين الاعتبار عند تقييم الأفعال في الواقع المعيوش. فهي لا تشكل مخالفة بالمعنى القاطع (أو الدنيوي) لكلمة مخالفة. وما يزيد من خطورة هذا الموقف هو أنه يأتي من اللجنة النيابية التي يفترض أن يكون دورها الأول ممارسة الرقابة على حسن تنفيذ قوانين حماية البيئة بالإضافة إلى تحديث هذه القوانين.
نشر هذا المقال في العدد 70 من مجلة المفكرة القانونية- لبنان