“الفاتورة أصبحت أكبر من طاقتنا على التحمّل، لا يكاد يمرّ يوم إلّا ونتبلّغ فيه بوفاة أو إصابة أحد من عائلاتنا أو جيراننا بالسرطان جرّاء معامل الإسمنت والترابة في شكا”. بهذه العبارة تختصر الدكتورة ديانا عبد الله معاناة سكّان الكورة والقرى المجاورة من الضرر المستمرّ الناجم عن عمل معامل الترابة في المنطقة. وتتطرّق د.ة ديانا (طبيبة أسنان) ابنة بلدة فيع عبر “المفكرة القانونية” إلى أثر تلك المعامل على البلدة، فالقرية تقع على “كتف وادي” ومطلّة على المعامل، ينتقل إليها الغبار المتصاعد من المعامل، ويلحق ضررًا كبيرًا بطبيعة البلدة وكافة القاطنين. “لا يوجد بيت إلّا وفيه عدة إصابات بمرض السرطان ومشاكل في التنفّس والربو والقلب. صرنا أرقامًا ننتظر دورنا وهذا أمر محبط للغاية في انتظار ورقة النعوة”، تقول دكتورة ديانا. وترى أنّ “المنطقة تواجه تهجيرًا ممنهجًا، فقد بدأ أبناء المنطقة بترك بيوتهم، وانتقلوا إلى مناطق جبلية بعيدة هربًا من الغبار والانبعاثات، وروائح الدواخين”، مضيفةً “عندما يدركون أنهم يقتلوننا بسموم معاملهم، ويستمرون في ذلك، فإنّهم يقودون مخططًا لتفريغ البلدة خدمة لجيوبهم”.
يتلاقى كلام ديانا مع رواية كاهن البلدة الأب سمعان حيدر الذي يتحدث عن “إبادة” تتعرّض لها فيع، ويقول: “توفي أشقائي الثلاثة بالسرطان، مع أنّه لا توجد عوامل وراثية داخل العائلة، وتكرّر الأمر مع أبناء جيراننا الذين توفّي المقيمون منهم في فيع بالسرطان، فيما نجا شقيقهم المقيم في بيروت”. ويجزم حيدر أنّه “لا يوجد بيت إلّا وفقد فردًا من أسرته، تخيّلوا أنّ في أحد البيوت توفي 9 أفراد من أصل 11 بالسرطان”، ليخلص إلى أنّ “هذه الشركات باتت معامل للموت لأبناء الكورة”، وكذلك لطبيعتها: “في الليل تملأ روائح الدخان الشبيه بالغاز الأرجاء، لا يمكننا التنفّس، مضطرّون لإغلاق النوافذ باستمرار، بالرغم من ذلك نستيقظ وأنفاسنا مثقلة بالغبار”.
وكان مجلس شورى الدولة أصدر في 20 نيسان الماضي قرارًا بإبطال قرار مجلس الوزراء الصادر في 15 شباط 2023 رقم 5/2022 والمتضمن السماح لشركات الترابة باستخراج المواد الأولية اللازمة لصناعة الترابة لمدة أقصاها 12 شهرًا بإشراف وزارتي البيئة والصناعة، وذلك تبعًا لقرارين سابقين مماثلين. ولكن القرار لا يشمل العمل بـ “الستوك” المستخرج أساسًا من قبل الشركات التي تواصل عمليات نقله من مقالعها والعمل فيه.
وبالتالي، ونتيجة هذا النشاط المستمر والمرئي في مواقع الكسارات، تسود حالة من الخوف بين أهالي الكورة من عودة المعامل إلى العمل كسابق عهدها بعد أن قضت على ملايين الأمتار من الجبال، وتسببت بوفاة الآلاف بمرض السرطان على مدى سنوات. لذلك تداعى الأهالي والناشطون البيئيون لتوحيد الجهود من أجل منع تمديد فتح الكسارات بحجّة العمل بـ “الستوك” المتبقي للشركات.
“إبادة جماعيّة”
نهار الأربعاء في 16 آب، عقدت الجمعيات البيئية في الكورة مؤتمرًا صحافيًا في دير القديس يعقوب في بلدة كفرحزير المشرفة على مقالع شركات الترابة، بمشاركة النائبين نجاة عون صليبا وأديب عبد المسيح وناشطين بيئيين وحقوقيين. وتضمّن المؤتمر تشخيصًا لوضع الكورة والآثار السلبية للكسارات والمعامل في الكورة. كما طالب بعض الأهالي بإحالة الملف إلى المجلس العدلي. فبحسب أحد المواطنين “جريمة 4 آب وتفجير المرفأ نجم عنها 250 قتيلًا، أما معامل الترابة فنتج عنها خلال العقود الأربعة الأخيرة آلاف القتلى، ومعاناة مرضى السرطان والكلفة المادية والنفسية عليهم وعلى أهاليهم”.
ودعا الناشط البيئي جورج العيناتي، من تجمّع البيئيين في الكورة، إلى “محاكمة أصحاب شركات الترابة والمرتشين منهم كمجرمي حرب وإبادة جماعية ودمار شامل”، متّهمًا شركات الترابة بـ “ارتكاب أكبر مجزرة إبادة جماعية ضد أهل الكورة والشمال، حيث قُتل وأصيب فيها الآلاف بالسرطان وأمراض القلب، والأمراض الوراثية والربو بسبب طحنها مليارات أطنان الصخور الكلسية المحتوية على أخطر المعادن الثقيلة بين بيوتهم وفوق مياههم الجوفية وإحراقها بالفحم الحجري والبترولي المرتفع الكبريت وبزيت السيارات المحروق وببقايا مصانع الدهان ما تسبّب بانبعاث ملايين الأطنان من رماد الفحم الحجري وبخار الزئبق والديوكسين والغبار المجهري المشبع بالمعادن الثقيلة”. كما أدّى ذلك إلى “القضاء على أكثر من عشرة ملايين شجرة تين ولوز وعنب واقتلاع أشجار الزيتون التاريخية وتدمير قلب سهل زيتون الكورة والتسبّب بانتشار مرض عين الطاووس الفطري في المزروعات وإزالة جبال ووديان واجهة الكورة البحرية وينابيعها”.
وأضاف أنّه “رغم كل ذلك لا يتورّع أصحاب شركات الترابة والمستفيدين منها عن المضي في مخططهم التدميري الإجرامي، محاولين الحصول على مهل خارجة على القانون لإعادة عمل مقالعها وأفرانها المخالفة لمعظم القوانين اللبنانية ولمرسوم تنظيم المقالع والكسارات والموجودة بين البيوت والأماكن الدينية والأنهار ومدارس الأطفال وفي أراضي البناء 20/40، وفوق أهم مياه جوفية تشرب منها قرى الكورة، والمسمّمة بالمعادن الثقيلة المتسربة من مطامر النفايات السامة التي طمرتها شركات ترابة الموت داخل هذه المقالع”.
وحذّر “حكومة تصريف الأعمال وجميع وزرائها المعنيين من إعطاء أي مهل لإعادة عمل مقالع شركات الترابة الخارجة على القانون”، داعيًا إلى “استيراد الاسمنت الخالي من الغش والتلوث والاحتكار والذي يصل لبنان بأقل من نصف السعر الاحتيالي الذي تبيعه شركات ترابة الموت للشعب اللبناني ممزوجًا بأرواح ضحايا مجزرة السرطان في الكورة والشمال”.
وحمّل العيناتي مسؤولية “الإبادة الجماعية” لـ “المستفيدين من شركات الترابة وعلى رأسهم البطريركية المارونية الشريك الأكبر في الشركات”.
من جهته أكد الناشط البيئي فارس ناصيف، مؤسّس جمعية “وصية الأرض”، أنّ “30 نبعًا غارت في بدلهون وكفرحزير”، ويأسف لاستمرار المعامل بالعمل رغم عدم وجود غطاء قانوني حالي لها بفعل التغطية والتغاضي من قبل الدرك والقوى الأمنية، بالإضافة إلى السماح لها باستثمار كسّارة بحجّة إنتاج بلاط الموزاييك، مطالبًا الدولة بالتحرّك لسحب ماكينات المعامل من جهة، ومن جهة أخرى تنفيذ قرارات مجلس شورى الدولة التي أكدت “ارتكاب الدولة لمخالفات وأخطاء بحق شعب الكورة”. ويتساءل: “هل يعقل اتّباع طرق ملتوية للتمديد بعد صدور سلسلة قرارات قضائية عن مجلس شورى الدولة”، متعهدًا بتقديم ملف كامل إلى النوّاب من أجل الضغط على الحكومة لعدم السير بالمخالفات، والتحرّك على الأرض للوصول إلى نتيجة.
ماذا عن مستحقّات الدولة لدى المعامل؟
تنطلق النائب نجاة صليبا من عملها البحثي، لتؤكد عبر “المفكرة القانونية” أنّ “آلاف المواد السامّة تتطاير في الأجواء، يتراوح عددها بين 4 آلاف إلى 7 آلاف مادة كيميائية مسمّمة تصدر من المعامل”، مشيرةً إلى “عدم الشفافية حيث لا يمكن معرفة إذا ما كانوا يحرِقون في أفران المعامل الأدوية منتهية الصلاحية، أو حتى الحيوانات النافقة”، “ناهيك عن أثر حركة الشاحنات والغبار المتطاير، بالإضافة إلى رفع الفيلترات من دواخين المصانع و”هذا يوضح لماذا لا يمكن للأهالي التنفّس بعد الساعة الواحدة فجرًا، حيث يجعلون الناس عرضة بصورة مباشرة للسموم الصادرة عن المعامل”. وتضيف أنّ “الوفيات المتزايدة لأبناء البلدة المقيمين، في مقابل نجاة القاطنين في غير مناطق خير دليل على الأثر المباشر لتلك المصانع في التسبب بالأمراض والوفيات”.
وخلال الكلمة التي ألقتها في المؤتمر، وصفت صليبا معامل الترابة بـ “معامل الموت” لأبناء الكورة، من هنا، تكمن أهمية التحرّك للمواجهة، و”تحرّك الأهالي على الأرض هو الحلقة الأساسية في وقف أعمال الاستباحة والحفاظ على الحق في الأرض والهواء والماء”، مؤكدةً “الالتزام بالسعي لوقف معامل الموت”.
وتكشف النائبة نجاة صليبا عن “وجود ضغوط على الحكومة من أجل مخالفة القانون، ومنح إذن للمعامل بإكمال عملها المعتاد رغم خطورته ونتائجه المميتة”، مطالبة بتحرّك سريع لمنع ذلك، لأن “المنطقة تواجه خطر الانقراض المجتمعي بفعل جرف الجبال والوديان، وتحويلها إلى غبار، والقضاء على خزانات المياه الجوفية للمنطقة، مما يؤدي إلى تحوّل المنطقة الخضراء إلى صحراء”، ناهيك عن رمي السموم في البحر.
تستند صليبا إلى تقرير لوزارة البيئية يشير إلى أنّ “المستحقات المتأخرة على عاتق الشركتين أكثر من 300 مليون دولار أميركي، هذا من دون ذكر الفاتورة الصحية، ووفيات السرطان لأشخاص لا يتجاوز عمرها الستين سنة”.
أما النائب أديب عبد المسيح، فتحدث عن الخسائر الكبيرة لسكان الكورة بسبب معامل الترابة، آخرها اختفاء “نهر العصفور” المواجه لها والشاهد على الإجرام، مشددًا على أهمية وحدة صف أبناء الكورة في مواجهة المعامل. ويذكّر عبد المسيح بالتقرير الذي نشرته وزارة البيئة حيث جاء أن “عائدات المقالع والكسارات في لبنان ملياران و400 مليون دولار، فيما الدولة تقاتل لتشحذ من صندوق النقد الدولي ثلاثة مليارات دولار بينما المقالع عليها هذه المستحقات. وهذا يوضح حجم المخالفات الموجودة عبر السنين. وقد تواصلت مع رئيس هيئة الاستشارات في وزارة العدل لرفع دعوى لصالح الدولة اللبنانية لتحصيل هذه الحقوق”. كما يلفت إلى أنه “في محافظة الشمال وحدها يوجد مليونان و700 ألف متر مربع مساحة محفورة وتعمل كمقالع شرعية وغير شرعية. كما استخرج 33 مليون متر مكعب من الأتربة عبر السنوات الماضية أي حوالي 66 مليون طن اختفت من الجبال”، وهذا تهديد أساسي للبيئة واستمرار مظاهر الحياة. وطالب وزير الداخلية ابن طرابلس “عدم التوقيع على قرار التمديد” للمقالع والكسارات.
هل تبدأ معركة التعويضات؟
في موازاة مسار الضغط في القضاء الإداري، تبرز أهمية التقاضي أمام القضاء المدني للمطالبة بالتعويضات الشخصية عن الأضرار الناجمة عن عمل المعامل والكسارات. وهو أمر أشار إليه العيناتي في كلمته حين شدد على “ضرورة التعويض على عمال شركات الترابة بمبالغ كبيرة وخاصة الذين صرفتهم بتعويضات هزيلة بالليرة اللبنانية نظرا لخطورة المهنة التي عملوا بها دون علمهم”.
وكذلك المحامي شكري حداد نبّه المواطنين إلى حقوقهم القانونية من أجل التحرّك للمطالبة بالتعويضات، وإزالة الضرر القائم، لافتًا إلى “ضرورة القيام بتحرّك قانوني قضائي ليس لوقف المعامل حصرًا، وإنما لتعويض المتضررين من المخالفات والفاتورة الصحية، والضرر المعنوي والبيئي”. كما أكد حداد على ضرورة تحرّك النيابات العامة لأنّ ما يحدث يشكل جرمًا والقانون واضح لناحية منع تشغيل المعامل مجددًا. ولا يعارض حداد إحالة الملف إلى المجلس العدلي لأنه يتهدد أمن الدولة، ولكن الإحالة تحتاج إلى قرار من الحكومة، “وهذا أمر مستبعد حاليًا بسبب المحاولات داخل الحكومة لإيجاد مخرج للتمديد”، لذلك لا بد من التحرك قضائيًا لملاحقة شركات الترابة ومطالبتها بالتعويضات عن الأضرار التي لحقت الأهالي وصحتهم وبيئتهم.
وأشار إلى أنه “بموجب المعاهدات الدولية التي صادق عليها لبنان، وقانون البيئة الذي أقر مبدأ الملوّث هو المعوّض وموجب إعادة التأهيل، وفي غياب دراسة أثر بيئي، وبوجود مواد جزائية، لا يمكن لهذه المعامل العودة إلى عملها المعتاد لأنه يشكل جرمًا جزائيًا وارتكابا لجرائم بيئية فادحة، لا يجوز استمرارها”.
في أعقاب المؤتمر الصحافي، جال الحاضرون على المناطق المتضرّرة من المقالع والكسارات التي أنهكت البيئة في الكورة التي عرفت تاريخيًا بالخضراء بسبب الغنى بأشجار الزيتون والتين واللوزيات. ففي قرية بدبهون، يمكن للزائر معاينة كيف اجتُثت الجبال من قعرها، إلى درجة تظهر في بعض المواقع برك مائية، وهو ما يشير حسب الخبراء إلى “إزالة جبال بالكامل”.
هذا المشهد يتكرر في كفرحزير، والمناطق المحاذية للمعامل الواقعة على شاطئ شكا. حيث تظهر فداحة هذه المخالفات من خلال المشهد الذي يراه العائد إلى محافظة الشمال بالعين المجرّدة على بعد آلاف الأمتار من المعامل، حيث يظهر كيف تحولت المنطقة من واحة حرجية خضراء، إلى مقالع على مد النظر.
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.