الكلمة الافتتاحية للمفكرة القانونية لمؤتمر:”القضاء العربي في ظلال الثورة” (1)


2011-10-18    |   

الكلمة الافتتاحية للمفكرة القانونية لمؤتمر:”القضاء العربي في ظلال الثورة” (1)

ألقيت هذه الكلمة في الجلسة الإفتتاحية للمؤتمر الإقليمي "القضاء العربي في ظلال الثورة (1): قضاة يتمسكون باستقلاليتهم: اي تدخلات؟ اي مقاومات؟ اي مساحة للتضامن" والذي عقدته المفكرة القانونية بالتعاون مع مؤسسة هاينرش بل – مكتب الشرق الاوسط في بيروت يومي 14 و15 تشرين الأول/اكتوبر 2011.

منذ ثلاث سنوات بالضبط، في عام 2008، اجتمعنا في هذا المكان في مؤتمر حمل اسما ذات دلالة كبرى: "حين تجمع القضاة".. وكان الهدف من المؤتمر سبر امكانيات الاصلاح من خلال الحراك القضائي في عدد من الدول العربية، وتحديدا في الدول التي قامت فيها تجمعات قضائية كالجزائر وتونس ومصر والمغرب والعراق أو حصل فيها تجمعات سابقا كلبنان. وقد حدانا الى تنظيم المؤتمر آنذاك حدث كبير قوامه المقاومة التي عبر عنها اعضاء نادي القضاة في مصر احتجاجا على تزوير انتخابات 2005، وقد اكتشفنا من خلاله مقاومة اخرى ابداها المكتب التنفيذي لجمعية القضاة التونسيين احتجاجا على التدابير الأمنية داخل قصور العدل وانتصارا لاستقلالية القضاة. وقد حصل التحركان في التوقيت نفسه ومن دون اي تنسيق مسبق.وبالطبع، ما زاد الأمر اهمية هو ان هذين الحدثين اضفيا املا ولو خافتا في تحقيق شيء ما على هذا الصعيد، رغم انعدام الارادة السياسية بشكل كامل.
وفيما كان من يستحيل ان يشارك قضاة تونسيون في مؤتمر 2008، حضر بيننا ثلاثة قضاة افذاذ من مصر اتوا يعرضون تجربتهم الرائدة بنبرة بالكاد تخفي مشاعر الفخر والاعتزاز: لقد نجحنا في رص صفوف القضاة في مواجهة السلطة، لقد نجحنا في وقفتنا الاحتجاجية في قلب القاهرة وفي تظهير صورة القاضي الذي يتمسك باستقلاليته فيثق به الناس… ومن ثم قدموا النصح لزملائهم اللبنانيين بالتجمع، بتعزيز روابط الاخاء والتضامن التي وحدها تقدر على مجابهة السلطة ومختلف توجهات الاستفراد.. نصيحة في غاية البساطة، ترجع حكما تقليدية تعج بها كتب الحكمة وعلى رأسها كليلة ودمنى: في التعاضد القوة.. في التضامن القوة التي تسمح لنا في الصمود في مواجهة نظام يريد منا ان نكون شهود زور..   ولكن، اي قوة ترتجى من تضامن مهني كهذا في ظل اساليب الهيمنة التي تنتهجها وتتقنها السلطة بحذق شديد؟   
فماذا استطاعت جميعة القضاة التونسيين ان تفعل في مواجهة الديكتاتورية، التي تدخلت لعزل القيمين عليها ونقلهم آلاف الكليمترات بعيدا عن تونس العاصمة؟ وما كان شأن هذه التجمعات في سائر الدول العربية الأخرى حيث بدت عند درسها اشبه بأطر يزج بها القضاء بهدف تطويعهم؟ فألا يكنى تجمع قضاة المغرب بالودادية الحسنية نسبة الى الحسن؟ كان هذا السؤال حاضرا لدى الجميع: البعض تجاهله او قلل من شأنه حفاظا على الأمل، حفاظا على جمالية الحراك الذي حدث هنا وهنالك.. فهذه الشجاعة، هذه الوقفة، هذا التضامن لا يعقل ان يكون عقيما.. لا بد ان يثمر شيئا ما.. والبعض اعلنه جهارا وكأنه يسعى الى التذكير بالواقع: فللسلطة قوة كبيرة قادرة على الالتفاف على مختلف اشكال التضامن مهما بلغت قوتها، وما حدث في 2005 كان مجرد حادث سريالي لا يعول عليه.. فأي حظ لتجمعات كهذه في غياب حراك مجتمعي داعام لتحركهم؟ وقد بدت الصورة اوضح حين فاز قضاة السلطة في انتخابات نادي القضاة المصري، لتنكفئ بذلك حماسة حراكهم. اذ ذاك، بدا بوضوح كلي ان هذا الحراك القضائي لا يمكن ان يرسي اصلاحات قادرة على الاستمرار الا اذا كان جزءا من حراك مجتمعي واسع داعم للقضاء. وهذا هو الحراك بالذات الذي بات ممكنا مع الثورة فعاد القضاة الاصلاحيون الى الواجهة..حسام الغرياني، الذي كان هنا يأمل بأن ينشأ حراك قضائي في كل بلد عربي، بات رئيس مجلس القضاء في مصر وانجز مسودة تعديل لقانون السلطة القضائية.. وهشام البسطويسي الذي طالما امل باتحاد للقضاة العرب، بات مرشحا لرئاسة الجمهورية.. والقضاة المقاومون في تونس عادوا ليملؤوا المكان.
ومن هنا تحديدا، انطلقت فكرة عقد سلسلة من المؤتمرات التي نريدها متكاملة في مصر وتونس ولبنان، تحت تسمية: "القضاء العربي في ظلال الثورة". في تونس ومصر اللتين انجزتا ثورتين في خلال اسابيع ضد دكتاتوريات سادت لعقود: وفي لبنان حيث للقضاة هامش معين من حرية التحرك.. المنطلق هو نفسه، لكن المعادلة  (توازن القوى) باتت مختلفة تماما: فما كان سابقا سرياليا، بات اليوم ممكنا جدا. ولكن اهم من ذلك هو ان الأسئلة بدورها باتت مختلفة. فالهيمنة باتت مادة للدرس، للتذكر، لاستخلاص العبر، اكثر مما هي واقع.. ودروب الاصلاح انفتحت على مصراعيها في ظل تنامي القوى الاجتماعية وتفاعلها وتراجع قوى الهيمنة والهيبة: فليس للقضاة ان يتحركوا وحسب، بل بامكان هذا الحراك ان يتلاقى مع حراك اوسع تقوده قوى اجتماعية متعددة، من شأنها ارساء دعائم متينة للمستقبل، مع حراك عام يرفده ويقويه ليعود فيقوى بفضله. بل أن امتداد الثورة لتشمل دولا عربية عدة، شكل حافزا قويا على اعطاء الحراك القضائي ابعادا عربية ايضا: فهل يعقل ان تنتقل عدوى الثورة المطالبة بالعدالة بين هذه الدول، وتبقى الورشات الهادفة الى تحقيق هذه المطالب محصورة في حدود كل منها؟ 
قيل الكثير في الثورة وربما لا نتفق اليوم هنا على تقويم ايجابياتها او سلبياتها: لكنها هي بالنسبة الى المفكرة التي خطت خطواتها الأولى على وقعها، وفيما يعنينا في مضمار القضاء، قبل كل شيء، نافذة بحثية تنفتح أمامنا لإلقاء أضواء علمية جديدة حول علاقة القضاة المعقدة مع الأنظمة الاستبدادية على اختلافها، ومع الفترات الانتقالية التي تتبعها. وقد رأينا، وقبل مباشرة البحث في المستقبل (وهذا ما سنفعله في تونس بشأن الوظيفة القضائية في جمهورية ما بعد الثورة أو مصر من خلال الاصلاحات القانونية والمؤسساتية المطلوبة)، ان ثمة ضرورة في النظر الى الوراء، في تذكر الماضي، في التوقف عنده، ليس من باب المساءلة والمحاسبة، بل من باب فهم وتحليل ما كان يحدث فعلا وتفصيلا في يوميات العمل القضائي عندما كان القاضي أمام حاكم لا يرى في القضاء سوى وسيلة أخرى لتمتين هيمنته على المجتمع وكل ذلك منعا لتكراره.
من هنا، تدور المجموعة الأولى من الأسئلة التي ينظم على أساسها لقاؤنا حول الصراع اليومي الذي كان القاضي يخوضه يوميا في الأنظمة الاستبدادية بين الشرعية و المشروعية. فماذا كان يفعل القاضي حين كان يجد نفسه بحكم وظيفته بخدمة منظومة قانونية فقدت جزءا كبيرا من مصداقيتها الأخلاقية والسياسية؟ وما دور القاضي عندما تصبح المساحة التشريعية التي يتعامل معها مسخرة لخدمة النظام ومصالحه؟ وما كان موقف هذا القاضي عندما رأى نفسه أمام قوانين وضعت لقمع فئات أو أفكار معينة، أم أمام تحوير واضح للإجراءات القانونية للوصول إلى أهداف سياسية أو اقتصادية لا علاقة لها بإحقاق الحق؟ ماذا فعل عندما رأى مساحات المحاكمة تستعمل لغايات مشبوهة، فوجد نفسه شاهد زور يضفي شرعية القانون على ممارسات النظام  القمعية؟
المجموعة الثانية من الأسئلة تطال الأدوات التي توسلتها السلطة للضغط على القضاة وللسيطرة على نتائج المحاكمات. فما هي وكيف كانت تستعمل بالتفصيل وسائل السلطة الكلاسيكية لتطويع القضاة (نقل القضاة، ترقيتهم، تهميشهم…)؟ وما هي الوسائل غير المباشرة وغير المرئية التي كانت تفي بنفس الغرض؟ هل اكتفى الحكام بممارسة ضغوط سياسية أو أمنية على القضاة، أم أنهم سخروا بعض المؤسسات القضائية للاقتصاص من القضاة؟ وما كان دور التراتبية والهرمية القضائية في عملية الإخضاع هذه؟ وما كان دور مجلس القضاء الأعلى طوال هذه الفترة، وما كانت علاقته بالسلطة التنفيذية و بسائر القضاة وخاصة الشبان منهم؟
المجموعة الثالثة من الأسئلة تهتم بتفاعل القضاة مع وسائل الضغط هذه: فلماذا تعاون بعض القضاة مع السلطة فيما رفض آخرون ذلك؟ هل يمكن تفسير هذا الاختلاف بعوامل تدريب القضاة أو دراستهم، وما كان دور معاهد القضاة في حال وجودها على هذا الصعيد؟  هل طريقة الرفض الوحيدة هي الاستقالة أم المواجهة؟ وهل كان القضاة مرغمين على التعاطي مع السلطة، أم أنه كان ثمة تشابك في المصالح و المنافع بين الجهتين؟ هل كان القضاة يلجؤون إلى وسائل مقاومة قضائية صرف أم أنهم تلاقوا وامتزجوا مع قوى وتحركات مجتمعية أخرى؟ وما كان دور تجمعات القضاة في هذه المرحلة، و هل أثبتت فعالية أكبر من المقاومات الفردية، و ما هي العلاقة بين المقاومتين ؟
وأخيرا، ما علاقة القضاة اليوم مع هذه المرحلة الصعبة من التاريخ القضائي التونسي والمصري؟ هل أطلق قضاة مصر وتونس ورشة فكرية خاصة بهم حول علاقتهم بالأنظمة السابقة، أم أنهم اكتفوا بالأسئلة العامة التي تطرح في الشارع حول الماضي؟ هل التطهير القضائي ضروري؟ و هل هو ممكن وما هي صعوباته وما هو ثمنه؟ و من هي الجهة التي ستطهِر، و من سيُطهَّر: هل يطال التطهير فقط القضاة الفاسدين، أم أنه يطال أيضا القضاة الذين نفذوا تعليمات السلطة، أو حتى الذين لم يعترضوا بشكل صارخ على الممارسات التحاصلة؟  وكيف تتم الاستفادة من ممارسات الماضي من أجل بناء قضاء المستقبل؟
كل هذه التساؤلات سترافقنا خلال مؤتمرنا اليوم و الغد، الذي سيسمح لنا، بموازاة العمل البحثي الذي يقوم به حاليا فريق المفكرة القانونية في تونس ومصر، بتفادي طرقات السهولة الفكرية التي قد ننزلق إليها عندما نفكر بالعمل القضائي في الأنظمة الاستبدادية: فنتفادى أولا الروايات التبسيطية البطولية التي تصبغ أحيانا بعض الكلام على القضاء وتصور جميع القضاة كمقاومين للاستبداد كل واحد على طريقته، كما نتفادى ثانيا الروايات التبسيطية التي تخلط تلقائيا بين السلطة القمعية و الجسم القضائي، جاعلة من هذا الأخير شريكا منفذا لا أكثر لطموحات الحكام. فالواقع الذي تهدف المفكرة اليوم لكشف تفاصيله واقع أكثر تعقيدا ومراوحة، سنحاول دراسته في هذا المؤتمر والمؤتمرين المقبلين لنفهم تفاصيل المواجهة/المهادنة بين القاضي و المستبد.
وعبر هذه النظرة المشتركة على الماضي والحاضر القضائيين في تونس و مصر ولبنان، تؤمن المفكرة بضرورة تفعيل العمل القضائي المشترك في العالم العربي، فنرى اليوم قضاة من تونس و مصر ولبنان، و غدا أيضا من سوريا والمغرب واليمن وليبيا أو العراق، يبحثون معا في سبل فهم ماضيهم والمشاركة في صنع مستقبل لهم حيث القضاء يمارس مهامه باستقلالية ويساهم في بناء مجتمعات تعددية وديمقراطية. وهذا التخاطب القضائي العربي لا نشجعه باسم إيديولوجيا ما أو قومية ما، بل من باب خلق مساحة مشتركة من الحوار المهني والفكري ومن التضامن، فلا يعود القاضي التونسي والمصري واللبناني وحيدا مستضعفا أمام حاكم بلاده، فنساهم في إخراجه من وحدته وفي تحصين موقعه. فللقضاة العرب الكثير ليقولوه لبعضهم البعض حول أساليب الاستبداد والقمع والمقاومة والعمل، و نحن هنا اليوم لنسمعهم يتخاطبون، ولنطرح عليهم الأسئلة، و ندون الأجوبة.

انشر المقال

متوفر من خلال:

استقلال القضاء ، لبنان ، مقالات ، تونس ، مصر ، بلدان عربية أخرى ، المغرب ، ليبيا



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني