تفاجأ الجمهور الرياضي لنادي كرة القدم بغار الدماء في أفريل من سنة 2023 بقرار الهيئة المديرة تعليق نشاط فريق الأكابر بالجمعية الكروية نتيجة الأزمات المالية التي مرّ بها الفريق واختيار أكثر من 30 لاعبا الهجرة غير النظامية إلى عدد من البلدان الأوروبية في فترة زمنية وجيزة. هذا النادي العريق الذي يعود تأسيسه إلى سنة 1922، أي قبل تأسيس غالبية نوادي قسم النخبة، ينشط حاليا في رابطة الهواة (القسم الرابع). يُبرز هذا المثال تأثير التغيرات السياسيّة والاقتصادية على الكرة، فالفريق الذي برز في النصف الأول من القرن العشرين، في فترة الاستعمار الذي استغلّ غار الدماء فلاحيّا ومنجميّا، يُعبّر وضعه الحالي عن أزمة المدينة نفسها ومعاناتها كضحية للتهميش الاقتصادي والاجتماعي الذي طال جميع أوجه الحياة، بما فيها الأنشطة الثقافية والرياضية.
أزمة فريق غار الدماء ما هي إلا مثال عن مآل السياسات العمومية التنموية في الشأن الرياضي رغم رفع شعارات التوازن بين الجهات في بعض المخططات الاقتصادية قبل الثورة[1]، ودسترة مبدأ التمييز الإيجابي بين الجهات من بعدها.
برز بعد الثورة صعودٌ لافت لفرق الجنوب في الرابطة المحترفة الأولى
الجذور الكولونيالية للاّعدالة
تعود نشأة كرة القدم في تونس إلى الفترة الاستعمارية. فقد شهدت سنة 1904[2] تكوين أول نادي كرة قدم بتونس، نادي راسينغ تونس بالعاصمة، لتنشأ أول مسابقة رسمية لكرة القدم سنة 1910 من ستّ فرق، جميعها من العاصمة، ومعظم لاعبيها من الجاليات الأجنبية. وكان ينبغي انتظار نهاية الحرب العالمية الأولى لتنتشر النوادي المخصّصة للتونسيين في العاصمة والمدن الكبرى، وسنة 1921 تحديدا لتنشأ أول رابطة تونسية لكرة القدم كفرع للرابطة الفرنسية حينذاك. منذ البداية، لم تنشأ نوادي الكرة بشكل متوازن بين المناطق، بل ارتبطت بشكل لافت بالمؤسسات الاقتصادية، وبتواجد الجاليات الأوروبية[3]، فتركّزت في المدن الكبرى والمناطق المنجميّة والصناعيّة. يأخذ الباحث علي لنقر مثال مدينتي قفصة وفيري فيل (منزل بورقيبة لاحقا) كنموذجين معبرين عن هذا الأمر. كانت فيريفيل، وهي مدينة صناعية أحدثها المستعمر الفرنسي عند نقطة التقاء بحيرتيْ بنزرت وإشكل وضمّت أغلبية من الأجانب عند نشأتها (3200 من إجمالي 5000 ساكن)، من أولى المدن التونسية التي أُحدث فيها نادٍ لكرة القدم خارج العاصمة. فظهر أولا ملعب فيريفيل في سنة 1909 وسبورتينغ فيريفيل سنة 1912 لتمثيل الأوروبيين المقيمين في المدينة، قبل أن تبدأ موجة إحداث النوادي التونسية خلال فترة ما بين الحربين وتمرّ في 1938 من هناك مع إحداث “الملعب الإفريقي بفيريفيل”.
وفي مثال آخر بمنطقة الجنوب الغربي، ساهم نشاط شركة السكك الحديدية والفسفاط بقفصة، وخصوصا بعد إحداث الخط الحديدي المخصص للفسفاط سنة 1915، وتوافد عدد هام من الأجانب الأوروبيين (حوالي 17% من سكان قفصة في العشرينيات) والمهاجرين المغاربيين العاملين في المناجم، في تأسيس فرق كرة قدم بالحوض المنجمي في العشرينيات. في المقابل، تأخّر إنشاء نوادي الكرة في بعض مناطق الجنوب التونسي، التي لم تعرف نشاطات اقتصادية كبرى في المرحلة الاستعمارية وخضعت للإشراف العسكري في قسمها الأكبر. فتأسس مثلاً اتحاد بن قردان في 1936 وأولمبيك مدنين في 1954.
تطوّر خارطة الفرق في بطولة النخبة
عموما، يشهد انتشار الممارسة الاحترافية الرياضيّة تفاوتا كبيرا بين الولايات، حيث تتراوح نسبة المجازين الرياضيّين قياسا إلى عدد السكان، بين 0،012% في سليانة و2% في نابل[4]. وبغضّ النظر عن الأسباب الاقتصاديّة والاجتماعيّة التي تساهم في هذا التفاوت، فإنّ السياسات العموميّة يمكن أن تساهم بشكل إرادي في التقليص منه، ليس فقط عبر الاستثمارات العموميّة والبنية التحتية، ولكن أيضا عبر إحداث رابطات جهويّة، كما هو الشأن في كرة القدم.
لقد شهدت فترة ما بعد الاستقلال توزيعا رباعيا للرابطات الجهوية لكرة القدم (الوسط، الشمال، مجردة، الغرب-الجنوب). ومع تطوّر عدد الفرق الرياضية، أصبحت هناك ثماني رابطات جهوية سنة 1986. وتمّ إحداث أربع رابطات جديدة مباشرة بعد الثورة (نابل، سيدي بوزيد، مدنين، القيروان)، وأخيرا رابطتين سنة 2023. وتلعب الرابطات دورا مهمّا، إذ تفوّض لها الجامعات جزءا من صلاحيّاتها، خصوصا في تنظيم المسابقات الرياضيّة. ويمثّل إحداث الرابطات الجهويّة رهانا رياضيّا وسياسيّا، ويخضع تقسيمها الترابي لعوامل عديدة أبعد من نتائج الفرق الممثلة فيها. حيث أنّ حدودها لا تتطابق دائما مع التقسيم الإداري، كما ظلّت أكثر من نصف الولايات تتبع مجال رابطات من ولايات أخرى. ومن شأن إحداث رابطة جهوية أن يعزّز حظوظ أندية جهة معينة في التمثّل في القسم الأول، كما يظهر من خلال مثالي رابطتي سيدي بوزيد ومدنين[5].
وظلّ تركز الفرق في القسم الأول من البطولة التونسية في الفترة الفاصلة بين الاستقلال والثورة شبه منحصر بالفرق المنتمية إلى المناطق الساحلية، ولم يشذّ عن هذه القاعدة بشكل مستمرّ نسبيّا سوى نادي أولمبيك الكاف إلى حدود نهاية التسعينات ونادي الشبيبة القيروانية الذي تحصّل على لقب البطولة التونسية في موسم 1976-1977. وبالرغم من أنّ “الشبيبة” تُعتبر منجمًا مهما لعدد من نجوم كرة القدم الذين تقاسمتهم الفرق الكبرى، فإنّ النادي لم يستطع الحفاظ دائما على مكانته ضمن فرق النخبة. كما اضطرّ شباب الفريق أحيانا للتدرّب في ولاية سوسة المجاورة بسبب تردي وضعية الملاعب في الولاية.
بالمقابل، كانت البطولة المحترفة الثانية لكرة القدم الأكثر تعبيرا عن التوازنات الجهوية وعُدت تمثيلية الفرق المنتمية للمناطق الداخلية معتبرة فيها على امتداد الفترة بين 1955 و2011. وقد ساهمت تجربة التقسيم الثلاثي للرابطة الثانية لكرة القدم (شمال-وسط-جنوب) بين 1983 و1985، ليس فقط في الحدّ من مصاريف التنقّلات داخل البلاد بالنسبة للفرق، ولكن أيضا في تقليص اللاعدالة وزيادة حظوظ فرق كل جهة في الصعود إلى القسم الأول من البطولة.
وقد برز بعد الثورة صعودٌ لافت لفرق الجنوب في الرابطة المحترفة الأولى، لتحظى سنة 2017 مثلا بنصف مواقع القسم الأول. وكثيرا ما يُعزى هذا الصعود إلى ترؤس وديع الجري، وهو أصيل المنطقة، للجامعة التونسية لكرة القدم بين 2012 و2023. ورغم أنّ تغيّر موازين القوى بعد الثورة ساهم على الأرجح في الصعود الكروي لأندية المناطق الداخلية والجنوبية، خصوصا تلك التي ساهمت في الحراك الاحتجاجي (بن قردان، الحوض المنجمي، سيدي بوزيد)، إلاّ أنّ جذور هذا التغيّر أعمق. فقد بدأت الفرق المنتمية إلى الجنوب تصعد بشكل أكبر إلى الرابطة المحترفة الأولى منذ السنوات الأخيرة لنظام بن علي. ولا شكّ أنّ أسباب ذلك متعدّدة، منها التواجد الكبير لأندية الجنوب ضمن بطولة الرابطة المحترفة الثانية، ومنها أيضا أسباب اقتصاديّة، تتمثّل في ظهور نخبة اقتصادية محلية نتيجة تطوّر الاقتصاد السياسي للحدود، وبروز نخبة أخرى من أصحاب الأعمال في الخارج ممن هاجروا بسبب تهميش دولة الاستقلال للمنطقة (جرجيس وتطاوين على سبيل المثال)، وهو ما ساهم في توفير موارد مادية هامّة لفرق المنطقة.
يبدو إذًا أنّ الثورة سرّعت توجّها بدأ قبلها، أسبابه أعمق من أدوار أشخاص بعينهم. ووفق دراسة الباحث في الجغرافيا علي لنقر اعتمادا على توزيع نوادي الرابطتين الأولى والثانية، انتقل مركز الثقل الكروي بين 1955 و2015 جنوبا من 105 إلى 168 كيلومترا، أي بنسبة 61%[6]. لكنّ تطوّر المنافسة يبقى مع ذلك محدودًا، إذ لم يغيّر الكثير في سيطرة أندية المدن الكبرى على الألقاب.
ساهم “التمييز الإيجابي” في ارتفاع عدد الملاعب المعشبة في بعض الجهات الداخلية
البنية التحتية للرياضة… والتفاوت
رغم أنّ تدهور البنية التحتيّة تحوّل إلى حالة عامّة في ظلّ سياسات التقشّف الحكومي، فإنّه يبقى من المظاهر الرئيسيّة للتفاوت الجهويّ وأعمقها أثرا. ويكفي رصد بسيط لتوزيع عدد ملاعب كرة القدم حسب الجهات لنتبين ذلك[7]. ففي إقليم تونس نجد 79 ملعبا، من بينها 32 ملعبا معشبا بالتعشيب الاصطناعي تم إحداثها بين سنتي 2010 و2023، وفي نسبة مشابهة نجد 89 ملعبا معشبا في ولايات الوسط الشرقي سنة 2023. وفي مقابل ذلك نجد 48 ملعبا معشبا في ولايات الشمال الغربي و28 ملعبا فقط في ولايات الجنوب الغربي.
فرضت الثورة مبدأ التمييز الإيجابي لصالح الجهات الداخلية مانحة إيّاها حيّزا أكبر في الاستثمارات العموميّة، وانعكس ذلك مثلا في عدد الملاعب. فقد ارتفع عدد الملاعب المعشبة بين 2010 و2023[8]، من ملعبين فقط إلى عشرة ملاعب في ولاية سليانة مثلا، ومن 3 إلى 13 في ولاية سيدي بوزيد. إلاّ أنّ عددا من الولايات الأخرى ظل دون المستوى المطلوب من حيث عدد الملاعب. ففي ولاية قبلي، لا نجد سوى 4 ملاعب معشّبة فقط وجميعها معشذبة تعشيبا اصطناعيا.
كما تطرح سعة الملاعب في المدن الداخلية مشاكل أخرى: فقد أشار تقرير لدائرة المحاسبات سنة 2007[9] إلى وجود 14 ملعبا تتجاوز طاقة استيعابها الخمسة آلاف مشجع، معظمها يقع في المدن الكبرى أو المناطق الساحلية. ولم تتغيّر الوضعيّة في الأثناء في ظلّ ضعف الاستثمارات الكبيرة في البنية التحتية الرياضيّة طيلة العقدين الأخيرين. كما لا تتوفر الإنارة الليلية اللازمة إلا في ستة منها فقط، جميعها في المدن الكبرى. مما اضطر فريق اتحاد بن قردان مثلا إلى استضافة عدد من مبارياته الرياضية في ملاعب العاصمة ضمن مسابقة كأس الاتحاد الإفريقي بعيدا عن المدينة بأكثر من 500 كيلومتر أحيانا بسبب عدم ملاءمة ملعب المدينة لشروط المسابقة. وفي السنوات الأخيرة، تسببت تهيئة ملاعب عديد المدن في مشاكل أخرى لأندية المدن الصغرى. فقد اضطر النادي البنزرتي مثلا مع تواصل الأشغال في ملعب 15 أكتوبر إلى التنقل بين عدد من ملاعب الولاية في جرزونة والعالية ومنزل عبد الرحمان[10]، مما زاد في تعقيد وضعية الملاعب هناك، غير المهيّئة للاستعمال بتلك الكثافة.
عموما، لا يزال طريق تحقيق المساواة في الفرص بين فرق المدن الكبرى وفرق المناطق الداخلية والمهمشة طويلا وشائكا، وهو نموذج ذو دلالة مهمة على مسار التنمية في البلاد ككل. وإن حاولت الثورة خلق واقع جديد حيال هذا التفاوت في المجال الرياضي، إلا أنّ سياسة التقشّف حدّت من أثر “التمييز الإيجابي” في الاستثمارات العمومية. أمّا نظام الرئيس سعيّد، الذي جعل من مظلومية الجهات الداخلية شعارا أساسيّا لبنائه القاعديّ، فلا يبدو أنّه سيحقّق شيئا غير الوعود والشعارات. حتى الزيارات الرئاسية للمشاريع الرياضية فقد تركّزت على إعادة تهيئة ملعب المنزه بالعاصمة، من دون الالتفات إلى حال المنشآت الرياضية في المناطق الداخلية. وهي صورة كفيلة لوحدها بتوضيح المسافة الفاصلة بين الشعار والممارسة.
هذا المقال نشر في الملف الخاص للعدد 30 المفكرة القانونية-تونس
لقراءة وتحميل العدد 30 بصيغة PDF
لقراءة وتحميل الملف بصيغة PDF
[1] أنظر الصغير الصالحي، الاستعمار الداخلي والتنمية غير المتكافئة، الطبعة الثانية، 2019.
[2] Belaid, Habib. “Le phénomène sportif dans la Tunisie coloniale : l’exemple du football et de la boxe entre les deux guerres”. Miroirs maghrébins, edited by Susan Ossman, CNRS Éditions, 1998.
[3] Ali Langar, Myriam Baron et Claude Grasland, « Les territoires du football en Tunisie (1906-2015) », EchoGéo [En ligne], Sur le Vif, mis en ligne le 11 décembre 2018.
[4] Mourad Sakli et co, Etude analytique sur le sport en Tunisie, Internation Consulting expertise, 16 novembre 2021, p. 49.
[5] Ali Langar, Myriam Baron et Claude Grasland, op. cit., p. 17.
[6] Ibid., p. 10
[7] البنية الأساسية الرياضية، موقع وزارة الشباب والرياضة
[8] جدول تطور عدد الملاعب المعشبة، موقع وزارة الشباب والرياضة
[9] دائرة المحاسبات، التقرير السنوي الثاني والعشرين، 2007.
[10] أزمة البنية التحتية الرياضية في تونس متواصلة: العاصمة دون ملاعب ومتاعب متواصلة للترجي والإفريقي، سلاف الحمروني، جريدة المغرب، 27 ديسمبر 2022،