من بيت المحامي وبرعاية نقيب المحامين في بيروت ناضر كسبار، وقّع المحامي سلمان أحمد بركات يوم الخميس الماضي كتابًا تحت عنوان “جريمة المثليّة الجنسيّة في القانون اللبناني والأديان السماويّة دراسة مقارنة في النصّ والفقه والاجتهاد”. وتحوّل منبر أعرق وأقدم نقابة في لبنان في المناسبة إلى منصّة تحضّ على خطاب الكراهيّة، وتحرّض وتُطلَق عبرها عبارات مسيئة ضدّ فئة مهمّشة. إذ استرسل المتحدثون ومن دون وجود رأي آخر، ولو أُشير إليه أكثر من مرّة، في الحديث عن “شعور بالاشمئزاز” ممّا وصفوها “ظاهرة المثلية” و”نبذ من يُقدِم على هذا العمل” و”عدم إمكانيّة قبول المثليّة بحجّة حقوق الإنسان أو الاتّفاقيات الدوليّة”. فضلا عن اعتبار المثلية “مرضًا من الضروري منع انتشاره” وظاهرة يجب منعها”، وعن “مجتمع مُهدّد” يجب حمايته بسلسلة من الإجراءات التي يمكن وصفها بالأمنيّة، منها حظر كلّ ما يتعلّق بهذه الفئة وتشديد العقوبة على “مرتكبي هذا الجرم” في القانون اللبناني.
بالشكل، حرص المتحدثون على التذكير بأنّ ما يقولونه ليس إلّا رأيهم ولا يلزمون به أحدًا، تمامًا كما فعل القاضي ماجد مزيحم الرئيس الأوّل لمحاكم الجنوب، والذي كانت له كلمة ختمها قائلًا: “هذا موقفي لا ألزم أحدًا به، وهذا رأيي لناحية المعايير الاجتماعية والإنسانية والدولية والمعاهدات”. والرأي الذي يتحدّث عنه مزيحم لم يخرج عن سياق الكتاب الذي يوصي بتشديد عقوبة تجريم المثلية ويتحدّث عن “أثرها السلبي على المجتمعات” وعن أنّ اعتبار المثلية الجنسيّة “غير شرعية”، وعن “أضرار المثلية الجنسية الشخصية الخلقية النفسية والصحيّة”.
وتحدّث مزيحم عن “الأثر الهدّام على المجتمع” وعن بعض الجمعيّات التي اعتبر أنّها “تُدار من الغرب” مستغربًا مطالبها بتشريع ما أسماه “ظاهرة نشأت أيام لوط”. واستطرد مزيحم في شرح موقف القانون اللبناني من المثلية، فأشار إلى أنّه في القانون هناك مادة واحدة تجرّم المثلية الجنسة أي المادة 534 من قانون العقوبات، والتي تنصّ على أنّ “كل مجامعة خلاف الطبيعة يُعاقب عليها بالحبس حتى سنة واحدة”، ولكنّه أوضح أنّ هذا النص لا يشمل الإناث لأنّ “المجامعة فعل ذكوري”، وأنّه لا يوجد نص يجرّم المثلية الجنسيّة في القانون اللبناني بين الإناث إلّا إذا اقترن بجرم آخر مثل “الفجور” أو “الإخلال بالآداب العامة”.
عدم شمول الفعل الذي تقدم عليه النساء في نصّ المادة، والذي لفت إليه مزيحم في إشارة ربما لقصور المادّة، لم يوافق توجّه الكاتب الذي اعتبر أنّه “من المتعارف عليه أنّ المجامعة الطبيعيّة المباحة دينيًا ووضعيًا والشائعة منذ القدم والتي فطر عليها الإنسان هي التي تحدث بين ذكر وأنثى” وبالتالي “فإنّ أيّ مجامعة خلاف ذلك تكون على خلاف الطبيعة ويُعاقب عليها القانون سواء تلك التي تحصل بين ذكرين أو أنثيين أو بين إنسان وحيوان”.
وعلى الرغم من اعتبار الكاتب أنّ المادة تشمل الجنسين، فهذا لا يمنع برأيه وجوب تعديلها بشكل “يتضمّن تجريم المثلية الجنسيّة والشذوذ، بشكل واضح وصريح” بحيث يسدّ ما أسماه “كل ثغرة يتذرّع بها البعض لعدم تجريم مرتكب المثلية الجنسيّة” وأكثر من ذلك “تشديد عقوبة ارتكاب فعل الشذوذ الجنسي، والمثلية الجنسيّة”. وهذه المطالب أوردها تحت عنوان “الإجراءات المقترحة للحدّ من المثليّة الجنسيّة ومنعها”. ولم يتوانَ المتحدثون وخلال مناقشة هذه المادة وأحكامها عن استخدام عبارات “اللواط” و”السحاقيات” و”الشذوذ الجنسي” و”الانحراف”.
أما نقيب المحامين فحرص في كلمته التي تلا فيها تقديمه للكتاب، على التوضيح بأنّ موضوع المثليّة الجنسيّة “شائك ودقيق جدًا ومهم” وأن من يودّ الكتابة “سوف يتعرّض للانتقاد القوي من هذه الجهة أو تلك” وبأنّ “الآراء مقسومة بشأنها عموديًا”. وأضاف أنّ صاحب الكتاب “غامر وغاص في هذا الموضوع الشائك والمعقّد والجدلي والنزاعي”. وذهب النقيب أبعد من ذلك إذ قاطع الكاتب حين قال الأخير: “خلاصة القول ذكرت أنّ المبرّرات التي يستند إليها أصحاب الرأي المؤيّد للمثلية الجنسيّة، كما ذكر سعادة النقيب، ليست مبرّرات علمية موضوعية” ليصحّح له بأنّه نقل عنه، أي أنّه لم يتبنّ هذا الرأي.
وكان النقيب ختم تقديمه للكتاب بالقول: “وتوصّل (الكاتب) إلى نتيجة مفادها أنّ المبرّرات والذرائع التي يستند إليها أصحاب الرأي المؤيّد (للمثلية) ليست مبرّرات علمية مجرّدة، وليست محسومة النتائج على الصعيد العلمي فهل أصاب برأيه؟ نترك للأيام القادمة الجواب”.
ولكن رغم حرص النقيب على عدم تبنّي ما ورد في الكتاب، لا يمكن التغاضي عن أنّ النقيب نفسه الذي شدّد غير مرّة خلال حفل التوقيع على موضوع حريّة الرأي والتعبير باعتبار “لبنان ونقابة المحامين هما المكان الأوسع لهما”، هو نفسه الذي قدّم للكتاب الذي تضمّن توصيات تحضّ على قمع التعبير وحريّة الأفراد. ومن هذه التوصيات “حظر التجمّعات واللقاءات التي تشجّع على المثلية” و”حظر عمل الجمعيات الداعمة لها والداعية إليها”، و”القيام بحملة توعية إعلامية لنشر مخاطر الجنسية على الأفراد والمجتمع” و”قيام السلطات بدور فاعل لعدم انتشار ظاهرة المثلية الجنسية ومنع ذلك”، إضافة إلى ما ذكرناه سابقًا من “تعديل نص القانون ليجرّم المثليّة والشذوذ بشكل واضح” و”تشديد عقوبة ارتكاب فعل الشذوذ الجنسي والمثلية الجنسيّة”.
وكان مؤلّف الكتاب تطرّق إلى بعض الأحكام القضائيّة التي لم تجرّم المثلية ووصفها بالمثيرة للجدل والتي لا تتعدى عدد أصابع اليد، ووضعها في إطار القضاء الذي “حاد” عن نص هذه المادة 534، ولا تعتبر المثلية مجامعة على خلاف الطبيعة. وذكر من هذه الأحكام الحكم الصادر عن القاضي المنفرد الجزائي في المتن الرئيس ربيع معلوف العام 2017 ، الذي اعتبر أنّ “دور المحكمة الأوّل والأساس هو حماية الحريّات العامة وصون حقوق الإنسان بما يحفظ له كيانه وكرامته” وأنّ “المشرّع الجزائي أقرّ مبدأ حماية الفرد في ممارسته لحقوقه، وما جعل من حرمانه إلا الاستثناء، وترجم ذلك في القاعدة العامة التي أرساها في المادة 183 من قانون العقوبات حيث ورد أنه لا يعتبر جريمة الفعل المرتكب في ممارسة حق دون تجاوز”.
وذكر الكاتب في المقابل أحكامًا أخرى صدرت في السنوات الأخيرة أكدت على تجريم المثلية الجنسية.
وفي هذا الإطار، يقول المحامي أيمن رعد إنّ النقيب وإن اتخذ موقفًا رماديًا، يبقى من غير المقبول أن يفتح أبواب النقابة لتوقيع مثل هذا الكتاب، بل العكس تمامًا يجب أن يفتح أبوابها لمشاكل الفئات الأكثر تهميشًا لبحث كيفيّة مساعدتها وليس قمعها. ويصف رعد في حديث مع “المفكرة” التوصيات الواردة في الكتاب بالمُذلّة: “إذ في الوقت الذي بات المطلوب فيه إلغاء النص الذي يجرّم ممارسة الجنس خلافًا للطبيعة لأنّه يستخدم لاستهداف الفئات المهمشة جنسيًا، يأتي من يطلب بتجربم المثلية أو أي شيء له علاقة بمجتمع “ميم عين”، ويعتبر أنّ المثلية مرضٌ يمكن منع انتشاره، ما يخالف التقارير الصادرة عن نقابة الأطباء في لبنان ونقابة المعالجين النفسيين ومعظم الآراء الطبية في العالم”.
من جهته، يأسف طارق زيدان مدير منظمة “حلم” التي تعمل على حقوق مجتمع “ميم عين”، أن تتحوّل النقابة التي من المفترض أن تكون مكانًا للنقاشات وتبادل المعلومات المبنيّة على الحقيقة والمنطق، إلى مكان يُبثّ منه خطاب الكراهية والخرافات وسياسات هدفها إثارة ذعر أخلاقي وهمي.
ويرى زيدان في حديث مع “المفكرة” أنّ هذه الرعاية التي تلقّاها الكتاب من نقابة المحامين والنقيب تأتي في إطار إيجاد غطاء لأجندات سياسية معيّنة، معبرًّا عن قلق من أن تتحوّل النقابة إلى منبر لأمور مبنيّة على رأي شخصي وليس على وقائع. وهذا ما يدفع إلى السؤال، وبحسب زيدان، عمّن يتحكّم بقرارات النقابة وتوجّهاتها. ويقول زيدان: “لم أكن أتصوّر أن ينجرّ مكان كنقابة المحامين للآراء الشخصية والتفسيرات الدينية والآراء السيكولوجية الخاطئة والمسيّسة، النقابة مكان للغة العقل والمنطق، ليس لنشر الأضاليل والخرافات والاستنتاجات التي تمّ دحضها منذ سنوات”.
ويُشار إلى أنّه سبق لنقيب المحامين أن أثار جدلًا في كلمة له حول العنف الأسري عندما تساءل عن “ماذا يمنع أحد الأفراد من “التسلبط” على الآخر عن طريق الادّعاء بأنه تعرّض للضرب أو للركل أو للدفش؟ وماذا يمنعه من أن يطعن نفسه أو يضرب رأسه بالحائط ويقول بأنه يتعرّض للضرب؟” وكذلك حديثه عن التحرّش عندما قال: “وبعد أن كبرت مخيّلة البعض في تدبير المكائد. فتأتينا الشكاوى بأن الأب تحرّش بابنته. كلّ ذلك بقصد الأذى والإستفادة من هذه الإدعاءات الكاذبة، لتنال المرأة مكاسب ومبالغ لم تكن لتنالها لو اكتفت بعرض وقائع علاقة عادية مع زوجها”.
ويفتح وجود قاض ومشاركته في حفل توقيع الكتاب الباب أمام التساؤلات في صحّة نظره في قضايا المثليّة التي له رأي مسبق فيها. وفي هذا الإطار، يرى رعد أنّ مشاركة القاضي تُتيح للمحامين طلب ردّه عن أيّ ملف يصل له ويتعلق بموضوع المثلية، معتبرًا أنّ ما يعبّر عنه مزيحم هو رأي تيار محافظ داخل القضاء، وأنّ المشكلة في نظرة المجتمع وليس في المادة 534 من قانون العقوبات التي تُجرّم ممارسة الجنس خلافًا للطبيعة، إذ يبقى للقاضي الدور ليفسّر ما الذي يعنيه “خلافًا للطبيعة”. لذلك وبرأي رعد “نحن بحاجة لقضاة أكثر تقدّمية. يقولون إنّ المثلية ليست ممارسة خلافًا للطبيعة، وهذا ما كان يعتمد عليه القضاة الذين ردّوا دعاوى من هذا النوع”.
في الاتجاه نفسه، يستغرب زيدان فتح النقابة أبوابها لتوقيع الكتاب في وقت يتجه فيه عدد من القضاة إلى اتخاذ خطوات إيجابية نحو حماية الفئات المهمشة في لبنان ومنها مجتمع “ميم عين”، والتي كان آخرها قرار مجلس شورى الدولة بوقف تنفيذ قرار وزير الداخلية في حكومة تصريف الأعمال بسام المولوي بمنع أيّ لقاء أو تجمّع يرمي للترويج لما أسماها “ظاهرة الشذوذ الجنسي”.
ويعتبر زيدان أنّ قرار مجلس شورى الدولة الأخير استدعى حراكًا سياسيًا مخالفًا له إلى جانب استخدام الجماعات المهمّشة سواء مجتمع “ميم عين” أو اللاجئين أو غيرهما من الفئات في لبنان، لحرف النظر عن أمور أخرى منها الوضع الاقتصادي. ويُشار إلى قرار مجلس شورى الدولة لم يُنفّذ حتى اللحظة ووجّهالمولويكتابًا إلى كل من المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي والمديرية العامة للأمن العام، استنادًا إلى إحالة الأمانة العامة للمجلس الأعلى للدفاع حول نشاط للمثليين في لبنان يومي 23 و24 تشرين الثاني 2022، مؤكداً “التعليمات المعطاة سابقًا لجهة منع أي مؤتمر أو لقاء أو تجمع يهدف إلى الترويج لظاهرة المثلية الجنسية”. وعادت “المفكرة” وجمعية “حلم” وقدمتامجددًاطعنًا في التعميم الجديد.
ويسأل زيدان كيف يمكن أن تلجأ النقابة إلى هذه الخطوة بعدما عمل حقوقيون وناشطون معنيون وخبراء لأكثر من عقدين مع القضاء اللبناني، المكانت المفتوح على نقاشات مبنية على الوقائع والحقيقة، لأنّ هذا ما يتطلّبه القانون والقضاء ولا سيّما عند الحديث عن أمور نُشر ذعر أخلاقي وهمي حولها وتتعلق بفئات مهمّشة مثل المثليين.
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.