تداولت مواقع إخباريّة ومستخدمون لمواقع التواصل الاجتماعي خبرًا مفاده أنّ وكالات الأنباء العالميّة انسحبت من جنوب لبنان، وقد وضعت هذه المواقع الخطوة المفترضة في إطار تغييب تغطية الانتهاكات الإسرائيليّة جنوبًا استكمالًا لتغييب الإعلام الغربي تغطية انتهاكاتها في غزّة من جهة، أو في إطار توقّع اتساع رقعة الحرب من جهة أخرى واستهداف الصحافيين. تواصلت “المفكرة القانونيّة” مع صحافيين ومصادر في عدد من هذه الوكالات، ليتبيّن أنّ استهداف الفرق الإعلامية الذي نتج عنه استشهاد المصوّر الصحافي عصام عبد الله وإصابة 6 آخرين دفع بالوكالات إلى إعادة تقييم المخاطر على فرقها الموجودة في الجنوب اللبناني، لا سيّما وكالة الصحافة الفرنسية و”آسوشيتد برس” و “رويترز”.
وأشارت مصادر في بعض الوكالات المقصودة بالأخبار المتداولة إلى أنّها سحبت مصوّري الفيديو من الشريط الحدودي ولم يكن لديها مراسلين هناك، وأنّ مراسليها موجودون في الجنوب ويواصلون إرسال الأخبار عن تطوّرات الوضع هناك.
سحب مصوري الفيديو من الشريط الحدودي لا يشمل كلّ الوكالات العالميّة التي كانت تغطي الأحداث جنوبًا، فوكالة الأناضول التركية مثلًا لديها حضور عند الشريط الحدودي وقد ردّ مراسلها في لبنان إدريس أوكودوجي على استفساراتنا وهو يتابع آخر المستجدات من بلدة رميش الجنوبيّة، كما أنّ قناة “سي إن إن” الأميركية وهيئة الإذاعة البريطانية “بي بي سي” يستمرّ مراسلوهما بنقل الأخبار من الجنوب بما فيه الشريط الحدودي.
وأكّد أوكودوجي أنّ وكالة الأناضول لم تتّخذ أيّ قرار بسحب مراسليها من الجنوب ولا حتى من الشريط الحدودي، وأنّ الفريق يتّخذ كلّ تدابير الحماية وينسّق مع الجيش اللبناني ويستمر في تغطية الأوضاع الإنسانيّة والتطوّرات العسكريّة.
أمّا التلفزيونات العربيّة فقناة “الجزيرة” مثلًا لديها 4 مراسلين مع مصوّرين ومهندسي بث في قطاعات الجنوب الثلاثة (الشرقي والأوسط والغربي)، كذلك قناة “العربيّة” لا تزال موجودة داخل الشريط الحدودي. الأمر نفسه ينطبق على التلفزيونات المحليّة التي لا يزال مراسلوها ومصوّروها يغطّون داخل الشريط الحدودي.
إعادة تقييم المخاطر
تُكرّر مصادر في وكالات عالميّة أنّ استشهاد عبدالله دفعها إلى مراجعة تقييم الخطر الذي يمكن أن يتعرّض له الصحافيون، ومقارنة هذا الخطر بالجدوى الصحافيّة أو الإضافة التي يمكن أن يقدّمها وجود صحافي على الشريط الحدودي، مع التأكيد على أنّ الانسحاب كان من الشريط الحدودي وليس من الجنوب.
ويقول مصدر في إحدى الوكالات العالميّة لـ “المفكرة” إنّ مقتل عصام وإصابة الزملاء في “الجزيرة” و”وكالة الصحافة الفرنسية” استدعى وضع معايير جديدة للخطر إذ إنّه حسب التقييم المعتمد قبل الحادثة كان مؤشر الخطر على عصام والصحافيين الآخرين ضعيفًا جدًا.
كما يتحدّث المصدر عن ربط قرار سحب المصوّرين الصحافيين بحالتهم النفسيّة إذ كان استشهاد زميلهم وإصابة آخرين صعبًا عليهم خصوصًا أنّ مستوى الخطر كان منخفضًا في وقت استهداف موكب الصحافيين.
وكان عصام عبدالله قتل في 13 تشرين الأوّل الماضي بعد أسبوع على عمليّة “طوفان الأقصى” والعدوان الإسرائيلي على غزّة، أثناء تغطية على الحدود اللبنانيّة الفلسطينيّة بعدما استهدفت إسرائيل مجموعة من الصحافيين العاملين مع وكالات دولية وقنوات عربية ومحلية في بلدة علما الشعب عند الشريط الحدودي. كما أدّى الاستهداف إلى إصابة 6 زميلات وزملاء آخرين هم مراسلة “الجزيرة” كارمن جوخدار والمصوّر إيلي برخيا، ومن وكالة الصحافة الفرنسية المصوّران كريستينا عاصي وديلن كولينز، إضافة إلى الزميلين العراقيين ثائر زهير كاظم وماهر نزيه عبد اللطيف من “رويترز”.
وانطلاقًا من مراجعة تقييم الخطر سحبت الوكالات مصوّري الفيديو العاملين معها عن الأرض فيما أبقت إحدى الوكالات مصوّرًا فوتوغرافيًا لتسحبه يوم الأحد الماضي وذلك حماية له.
ويقول مصدر في وكالة أخرى إنّ هذا الإجراء أي إعادة تقييم الخطر هو إجراء تقوم به الوكالات أثناء تغطية النزاعات أو الحروب أو الأماكن الخطرة وغالبًا ما تتخذ إجراءات انطلاقًا من هذا التقييم كسحب صحافيين، وأنّ الأمر تكرّر في أكثر من مكان مثل أوكرانيا مؤخرًا بعد مقتل أو إصابة صحافيين.
التغطية مستمرّة جنوبًا والانسحاب مؤقتٌ
قرار سحب مصوّري الفيديو من الشريط الحدودي جاء مباشرة بعد استشهاد عصام عبدالله في غارة إسرائيلية وهو ليس نهائيًا، بحسب أكثر من مصدر في أكثر من وكالة أنباء عالميّة تواصلت معه “المفكرة”، بل هو مؤقت بانتظار الانتهاء من تقييم المخاطر الذي سيأخذ في الاعتبار التطوّرات على الأرض ومعايير السلامة وأهميّة النوع الصحافي الذي يمكن أن يقدّم، مع الإشارة إلى أنّ هناك مراسلين محليين مستمرون في إنتاج القصص من الجنوب.
ويؤكّد مصدر في إحدى الوكالات لـ “المفكرة” أنّ الوكالة لديها مراسلين محليين في عدد من مناطق الجنوب يرسلون مواد بالإضافة إلى أنّ فرقًا من مكتب بيروت لا تزال تتّجه إلى الجنوب وتنتج قصصًا إخبارية من هناك، وأنّ الأمر واضح من الأخبار التي تنشرها. وردًا على سؤال عمّا إذا كانت الإجراءات نفسها اتُّخذت أيضًا في مكاتب الوكالات في الجانب الفلسطيني المحتلّ، أجابت المصادر أنّ الجيش الإسرائيلي أخلى المنطقة الحدوديّة مع لبنان ومنع اقتراب المدنيين ومنهم الصحافيين.
التلفزيونات المحليّة صامدة
بالتوازي، تستمر القنوات التلفزيونيّة المحليّة بمتابعة التطوّرات جنوبًا ولا يزال مراسلوها ومصوّروها عند الشريط الحدودي ينتجون القصص والتقارير من بلدات عدّة، إلّا أنّ استهداف الصحافيين واستشهاد عصام وانسحاب بعض الوكالات من الشريط جعل المراسلين والمراسلات أكثر حذرًا كما يقول مراسل “المؤسّسة اللبنانية للإرسال” إدمون ساسين، مشيرًا في اتصال مع “المفكرّة” إلى أمر آخر يدفعهم إلى الحذر وهو ارتفاع عدد العمليات التي تشنّها إسرائيل نهارًا، الأمر الذي يجعل التنقّل عند هذا الشريط أصعب ممّا كان عليه في الأيام الأولى التي تلت العدوان على غزّة.
ويعتبر ساسين أنّ انسحاب بعض الوكالات يجعل مراسلي القنوات المحليّة يشعرون أنّهم تحت ضغط ومسؤولية أكبر من جهة، كما قد يُشعرهم بأنّ الاحتلال الإسرائيلي قد يكون أكثر تحرّرًا في ارتكاب الانتهاكات طالما يتعاطى مع صحافة محليّة وليس صحافة عالميّة.
قناة “الجديد” أيضًا لا تزال موجودة على الشريط الحدودي وتقول مراسلتها ريف عقيل إنّ القناة تركت الحريّة لمراسليها ومراسلاتها في اختيار ما إذا كانوا يُريدون التغطيّة من الجنوب أم لا مع اعتبار سلامتهم أولوية وإجراء تقييم مستمرّ للمخاطر.
ويشهد جنوب لبنان وبالتزامن مع العدوان الإسرائيلي على غزة غارات إسرائيلية يومية أودت بحياة أربعة مدنيين (من ضمنهم عصام) وأدّت إلى نزوح أكثر من 19 ألف شخص في المنطقة الحدودية، وفق ما أفادت المنظمة الدولية للهجرة التابعة للأمم المتحدة، وهو رقم شكك بدقته كثرُّ، مستندين إلى أن القصف الممنهج واليومي للمنطقة الحدودية مع فلسطين قد أفرغ قرى بأكملها من المدنيين.