لماذا نسي القضاة اللبنانيون تاريخ تحركاتهم الجماعية؟ تزيد حدة هذا التساؤل عند رؤية زملائهم القضاة في بلاد كإيطاليا وفرنسا ومصر وتونس يضعون تجاربهم الجماعية الماضية في مواجهة السلطة في صلب مشروعية تحركاتهم الحاضرة وفي أساس هويتهم المهنية. فمذبحة القضاة الناصرية وحراك نادي القضاة منذ 1939 جزء لا يتجزأ من تجربة أي قاض مصري مهما اختلفت آراؤه من هذه الحراكات. وجمعية القضاة الشبان ومصير جمعية القضاة عام 2005 هي من أسس الفضاء المعرفي للقضاة التونسيين، مهما تنوعت مواقفهم. أما القضاة في لبنان، فنرى معظمهم يسير وحيداً في مساحة مهنية يحكمها الحاضر بيومياته الروتينية، مع إشارات نادرة إلى الماضي وفقط بصيغته الرسمية المعقمة المعترف بها من قبل رأس الهرم القضائي – السياسي. فما هي نسبة القاضيات والقضاة اللبنانيين الشباب الذين يعرفون أعمال “الحلقة القضائية” في سبعينيات القرن الماضي؟ وهل يعرفون القضاة نسيب طربيه وعبد الباسط غندور وغبريال معوشي بما قاموا به من مبادرات جماعية، كما يعرف القضاة لا بل المواطنون المصريون القاضيين ممتاز نصار ويحيا الرفاعي ويفاخرون بهما؟ القضاة اللبنانيون الشباب لا يتحملون مسؤولية هذا النسيان، فهم ينشأون في مساحة قضائية يغيب عنها أي هيكل يجمعهم وتندر فيها معالم الذاكرة المهنية الجماعية، تلك المعالم التي يسمح استذكارها بتوحيد الأجسام المهنية حول هوية صلبة تجعل التصدي للتدخلات السياسية ممكناً، وتجعل الحراك من أجل واقع قضائي أفضل متاحاً، والعمل الجماعي نحو الاستقلالية استراتيجية واقعية وليس فقط شعاراً يتم ترداده كل عام في مراسم افتتاح السنة القضائية.
وغالباً ما تأخذ هذه الأمنيزيا المنظمة شكل التعجب، فيسأل بعض القضاة: كيف يليق بزملائهم أن يتجمعوا في تحرك أو جمعية، لتصبح بالتالي حراكات الماضي عاراً يعمل أصحاب المهنة على إخفائه بدل المفاخرة به، وهو ما قد يفسر سياسة النسيان اللبناني: فما هذه الأفكار الغريبة عن أجواء القضاء الرصينة؟ يبدو من هذه المواقف وكأن القضاء اللبناني أصبح يحتكر الرصانة من بين جميع الأنظمة القضائية في العالم. فهل ما زال من الضروري التذكير بأن القضاة في معظم الدول الغربية والشرقية، الفقيرة والغنية، من مصر إلى شيلي مروراً بفرنسا أو الهند، لهم منذ عقود جمعيات ونقابات ونواد تدافع عن مصالحهم وتتحرك باسمهم متى دعت الحاجة وبفعالية كبيرة؟ هل من الضروري التذكير بأن أول ما أنتجته الحراكات العربية ضد الأنظمة السلطوية عام 2011 هو أندية وجمعيات للقضاة، كما هي الحال في المغرب وليبيا واليمن مثلاً؟ وكثير من كبار القضاة في لبنان لا يجهلون هذه الحقيقة بل يتفادونها. فنراهم مثلاً عند وضعهم شرعة القواعد الأساسيّة لأخلاقيات القضاة في 2005 انطلاقاً من مبادئ بنغلور الدولية لأخلاقيات القضاء، قد اقتطعوا منها حق القضاة في التجمع[1]. فالمبادئ الدولية لاستقلالية السلطة القضائية وعملها مرحب بها إلا عندما تخالف الهرمية القضائية المكوّنة من كبار القضاة المعينين من السلطة السياسية (وهي حال معظم أعضاء مجلس القضاء الأعلى اللبناني مثلاً، بغض النظر عن كفاءتهم ونزاهتهم). إلا أن ما يثير الاستغراب هو أن حراكات مهمة للقاعدة القضائية حصلت داخل قصور العدل اللبنانية في العقود الماضية، دون أن تستحصل على اهتمام يذكر من قبل الأجيال الحالية. ويهدف هذا المقال كما التقرير البحثي الذي سبقه إلى كتابة تاريخ مضاد للمهنة القضائية في لبنان، عبر التذكير السريع بأهم معالم هذه التحركات القضائية التي اصطدمت جميعها بالسلطة التنفيذية (وأحياناً بمجلس القضاء الأعلى)، ما يفسر طمسها إلى حد ما: فتاريخ المهنة اليوم كتبه المنتصرون السياسيون في صراعات الأمس على حساب روايات القضاة أنفسهم. ونشير إلى أن العمل البحثي الذي ينبثق منه هذا المقال ارتكز على أكثر من عشرين مقابلة نصف موجهة مع قضاة سابقين وحاليين ومحامين عايشوا التحركات التي نعرضها، كما على أرشيفات صحافية من “النهار” و”السفير” و”الأوريان لوجور”، بالإضافة إلى أرشيفات خاصة ببعض القضاة والمحامين. ونكتفي هنا بعرض أربعة تحركات أساسية في تاريخ القضاء اللبناني. أما التحركات المحدودة التي تلتها بعد انتهاء الحرب اللبنانية، فيمكن للقارئ أن يعود إلى نص التقرير البحثي المفصل للاستعلام عنها.
عندما يتجمع القضاة لاستنهاض الذات: تجربة حلقة الدراسات القضائية (1969-1974)
تأسّست “حلقة الدراسات القضائية” على شكل جمعيّة لا تبتغي الربح في بداية العام 1969 بمبادرة من القضاة نسيب طربيه ويوسف جبران وعبد الله ناصر وعبد الباسط غندور، وكانوا قد قدموا بيان التأسيس لوزارة الداخلية التي سلّمتهم العلم والخبر رقم 82 الصادر في 26/2/1969، وقد أجازت وزارة العدل للجمعيّة إشغال غرفتين في مبناها. وقد أبرز مؤسّسوها أهدافاً علميّة كالقيام بأبحاث وتنظيم مؤتمرات بشأن القضاء، بما يعزّز المناخ الصّالح للاضطلاع بالرّسالة القضائيّة. كما أنّهم بدوا واثقين من أهميّة إنشاء الجمعيّة في تعزيز المؤسسة القضائية بحدّ ذاتها، فنقرأ في المجلة التي أصدرها التجمع أن “إنشاء جمعيّة مفتوحة كهذه للقضاة ورجال القانون للمرّة الأولى في لبنان، يعدّ بحدّ ذاته حدثاً ذا شأن في تاريخ القضاء اللبناني، حدثاً من شأنه حث القضاة على العمل، ليس فقط على تحقيق كمال أعمالهم الفردية، بل أيضاً على تحقيق كمال المؤسسة التي فيها يعملون”. وتميزت هذه المبادرة الجماعية الفريدة بخطاب طموح أعطى الأولوية للنقد الذاتي من باب “القسوة على الذات تجنباً لقسوة الآخرين”، كما ساوى خطابها بين القضاة داخل الجمعية بعيداً عن مفهومي الهرمية والسلطة داخل القضاء. لا بل عبّر بعض قضاة الجمعية البارزين عن آراء صريحة بخصوص المؤسسات القضائية الرسمية، فوصفوا مجلس القضاء الأعلى بأنه ضامن لحقوق الملل مثلاً، وانتقدوا بشدة ضعف أداء هيئة التفتيش القضائي التي اعتبروا أنها أُنشئت أصلاً في تشكيلتها الحالية لأسبابٍ طائفيةٍ لا غير. كما تميزت “الحلقة” بانفتاح واضح على الصعيد الدوليّ عبر المفاخرة بالانتماء الى الاتّحاد العالمي لجمعيات القضاة لتصبح أول جمعية عربية فيه[2]، كما لم تخف تأثرها بجمعيات القضاة في بعض البلدان الأجنبيّة كفرنسا[3].
وقد انتسب إلى الجمعية في السنة الأولى حوالي 90 قاضياً[4]، وأصدرت نشرة تحت تسمية “الحلقة” (4 أعداد) كما نظمت عدداً من المحاضرات حول استقلالية القضاء ودوره في المجتمع، أبرزها المحاضرة التي ألقاها القاضي نسيب طربيه حول “التشكيلات القضائية” في 1971 أمام عدد كبير من القضاة (80) وفي مقدمهم رئيس مجلس القضاء إميل أبو خير ورئيس التفتيش القضائي ممدوح خضر. وتكلّم فيها طربيه عن “بازار التشكيلات” واصفاً إياه “بالمأساة التي طالما شاهدنا فصولها المفجعة”، حيث “يتفرق طلاب المغانم على أبواب الساسة والمقامات”، مطالباً بالسيطرة على “هاجس التشكيلات” عبر “إيجاد قواعد وضوابط يلتزم فيها المسؤولون عن هذه التشكيلات أياً كانوا”. وبعدما انتقد آلية حصول التشكيلات حيث يعيّن “الحاكم قضاته” (قاصداً رئيس الجمهورية)، فضح عامل المحسوبيات في إجرائها ووصف بدقة آلية التدخلات حتى داخل مجلس القضاء الذي ظهر بمحاضرته كأنه حارس اقتسام المغانم بين الطوائف. وقد أثارت المحاضرة امتعاض رئيس الجمهورية آنذاك سليمان فرنجية فاستدعى أعضاء مجلس القضاء سائلاً إياهم عن كيفية حضورهم وتصفيقهم للمحاضر في نهايتها[5]، ما تسبّب بإحالة القاضي طربيه إلى المجلس التأديبي وتوجيه تأنيب مسلكي اليه. وقد أدت ملاحقة القاضي طربيه الى إبطاء عمل الحلقة، الذي استمر لكن محدوداً إلى حين توقفها عن العمل بداية الحرب الأهلية.
اللجنة القضائية 1 و2: نحو راديكالية مطلبية غير مسبوقة (1980-1982)
قبل إطلاق اللجنة القضائية التي سنتحدث عنها هنا، شهد المجال القضائي في أواخر 1979 تحركاً لافتاً. فبخلاف التحرّكات السابقة واللاّحقة التي كان محرّكوها عموماً قضاةً ذوي أقدمية، قاد هذا التحرك قضاة شباب تخرّجوا حديثاً من معهد الدروس القضائية. فانطلاقاً من دراسة “مطلبيّة” وضعوها (وبوجه خاص القاضي فرنسوا ضاهر)، نجح هؤلاء في تجميع 172 توقيعاً لقضاة عدليين[6] (من أصل 270 قاضياً) على عريضة تطالب بتحقيق المطالب الواردة فيها. وقد قُدِّمت الدراسة والعريضة لوزير العدل يوسف جبران في 27/12/1979 (وهو كان يشغل في الآن نفسه منصب رئيس مجلس القضاء الأعلى) فيما قدمت نسخة أصلية عنها لمجلس القضاء. وأهميّة هذه العريضة تكمن إذاً، ليس فقط في كونها إحدى العرائض النادرة في تاريخ العدليّة[7]، بل في استنادها الى دراسة من عشرين صفحة تضمّنت أسباباً مبرّرة للمطالب الواردة فيها.
وبعد أيام قليلة من تقديم العريضة، ظهر تحرّك قضائيّ من نوع آخر، أُعلن رسميّاً عنه بتاريخ 5/1/1980[8] في اجتماع عقده حوالي ستّين قاضياً في قصر العدل، بناءً على دعوة ما سُمّي “اللّجنة القضائيّة المؤقّتة” المؤلّفة من قضاة أبرزهم غبريال معوشي وحسن قواس ومنيف حمدان. وآل هذا الاجتماع إلى انتخاب لجنة متابعة والى وضع قائمة من المطالب ومن ضمنها المطالب الواردة في الدراسة موضوع العريضة[9]، مع التركيز على المطالب المعنوية المتصلة باستقلال القضاء. ويجدر الذكر أن هاجس التشكيلات كان هنا أيضاً طاغياً على مطالب اللجنة، فهذه التشكيلات هي “نقطة الضعف الأولى في الجسم القضائي (…) إنّها النافذة التي تطلّ منها السلطة التنفيذيّة(…) والتي من خلالها تحوّل الحكومة القاضي إلى مجرّد موظّف”. ولغاية اجتذاب القضاة إلى التحرّك، قام أعضاء اللجنة بزيارات رسمية إلى قصور العدل في المناطق[10] وللهيئات القضائية (مجلس شورى الدولة، ديوان المحاسبة)[11]. كما يسجل محاولة اللجنة إظهار التحرك كوريث مباشر لحلقة الدراسات القضائية، ما يظهر رصيد هذه الأخيرة بين القضاة حتى بعد توقف نشاطاتها بسنوات. وقد تميز أسلوب عمل اللجنة باللجوء المكثّف إلى الصحف لنشر أخبار اللجنة وبياناتها ومقالات أعضائها[12] شبه اليومية، لتنتقل بذلك مباشرة المسائل القضائية إلى المساحة العامة والنقاش العام. وقد برر أعضاء اللجنة هذه الوسائل غير التقليدية بمبدأ الضرورة التي تفرضها بنظرهم حالة القضاء المزرية آنذاك.
ولم تتأخّر ردود فعل “السّلطة” ممثّلة بوزير العدل والإعلام ورئيس مجلس القضاء الأعلى القاضي يوسف جبران، التي حاولت استيعاب التحرك بدعم بعض مطالبه في موازاة الطعن في مشروعيته كأسلوب، على نحو بلغ حدّ التلويح بإجراءات عقابية. ولعلّ أبرز مؤشّرات محاولات الاستيعاب تبنّي مجلس القضاء والوزير بعض مطالب القضاة الشبان خريجي المعهد، ما ساهم ربّما في دفع هؤلاء إلى اتخاذ قرار بتعليق عضويتهم في اللجنة. بالمقابل، تمّ تعجيل إصدار مرسوم التشكيلات والتعيينات بعد سنوات من الشلل بفعل الأحداث الأمنية على نحو عكس، حسب أعضاء اللجنة والمقرّبين إليها[13]، نيّة “الاقتصاص” من رئيس اللجنة القاضي غبريال معوشي الذي نقل من منصبه كرئيس محكمة الجنايات في بيروت ليصبح مستشاراً ثانياً لدى محكمة التّمييز. وإذا أدّى مرسوم التشكيلات الى إبعاد قضاة عديدين عن التحرك، فإنه بالمقابل ضاعف حدة المطالبة لدى “صقوره”، وخصوصاً غبريال معوشي ومنيف حمدان، اللذين وجّها انتقادات إعلاميّة حادّة لمعارضي التحرك وعلى رأسهم يوسف جبران ومجلس القضاء الأعلى ولكن أيضاً لجنة الإدارة والعدل البرلمانية. وإذ سجل هذا التحرك تراجعاً سريعاً أخرجه تماماً من النقاش العامّ ابتداءً من النصف الثاني من سنة 1980، فإنه شكّل، بإيجابيّاته وسلبيّاته، أحد التحرّكات القضائيّة البارزة وإحدى الخطوات التمهيديّة لانطلاق تحرّك أكبر في 1982.
قضاة عدليون وإداريون وشرعيون يلجأون إلى الإضراب
تماماً كتحرّك 1980، بدأ هذا التحرّك تدريجيّا في أوائل سنة 1982 بمبادرة ممّا سُمي “اللجنة القضائيّة المهتمّة بمتابعة مطالب القضاة” المؤلّفة من 12 عضواً[14]، ومن بينهم أبرز ثلاثة أعضاء في اللجنة السابقة (معوشي وقواس وحمدان). وسرعان ما دعت اللّجنة القضاة إلى جمعية عمومية في 27/3/1982 وأرفقت بدعوتها توصية مفادها الدعوة إلى “استقالة القضاة وتوقّفهم عن العمل فوراً إذا لم تتحقّق مطالب القضاة والمساعدين القضائيّين” المادية والمعنوية. وقد انعقدت الجمعيّة العموميّة بالفعل في قلب الحرب اللبنانية بحضور عدد كبير من القضاة العدليين والإداريين والشرعيين (347 قاضياً) فانتخبوا لجنة تمثّلهم وأعلنوا بالإجماع التوقّف عن العمل إذا لم تتحقّق المطالب قبل العاشر من نيسان[15]. وتماماً كما حصل عام 1980، طوّر أعضاء اللجنة القضائية علاقة مميزة مع الإعلام، فكانت تصدر بيانات شبه يومية باسم اللجنة. وقد برز هذا الانفتاح الإعلامي منذ البدء حين دعا الأمين العام للّجنة القاضي منيف حمدان في بيانٍ صحافيّ له تاريخ 24/3/1982 أجهزة الإعلام المحلية والعربية والدولية إلى حضور الجمعية العمومية الأولى للمساهمة في “الدفاع عن استقلال السلطة القضائية وسيادة الدستور”[16]، ليصبح بالتالي الإعلام ليس فقط وسيلة تواصل مع الرأي العام بل أيضاً شريكاً في خوض المعركة. وعندما فشلت المفاوضات رغم تمديد المهلة مرّتين في اجتماعين لاحقين، قرّر القضاة في اجتماع عمومي آخر في 24/4/1982، وللمرة الأولى في تاريخ لبنان، وبإجماع الحاضرين البالغ عددهم 356 قاضياً، التوقف عن العمل حتى تحقيق مطالبهم. ونشير إلى حصول نقاش معمّق بين القضاة حول مسألة الإضراب، إذتجاوز الجدل مدى توافق الوسيلة مع الأعراف القضائية ليتناول مدى توافقها مع القانون على ضوء حظر الإضراب الوارد في قانون الموظفين. وإذ مال بعض القضاة إلى تقديم استقالات جماعية كوسيلة ضغط أكثر تناسباً مع وظيفتهم، فإن مناصري الإضراب حسموا النقاش لمصلحتهم بعد نشر آراء قانونية حول الموضوع. لا بل ذهبت اللجنة الى الإشارة الى ما قام به قضاة فرنسا عندما تظاهروا في شهر ك2 1971 لتستمدّ من هذه المقارنة مع بلد أوروبيّ عريق شرعية أكبر.
وعلى صعيد مواقف السلطة، فقد بلغ مستوى التّفاوض القصر الجمهوريّ الذي كلّف مجلس القضاء ووزير العدل وضع نظام جديد للقضاء يؤمّن استقلاله. ومن جهة أخرى، أصدر مجلس القضاء الأعلى في 2 أيار تحذيراً مزدوجاً طالب فيه السلطة التنفيذية بتحقيق المطالب لتفادي الانهيار قبل 7 حزيران، كما هدد القضاة الذين يرفضون معاودة العمل بإعمال المادة 65 من قانون تنظيم القضاء العدلي المرادفة في أذهان القضاة “للتطهير”[17]. وأحدث هذا البيان انقساماً داخل التحرّك، بين الذين أرادوا تعليق الإضراب بحجة أن مجلس القضاء الأعلى تبنى المطالب بزخم مرض، وهم الأكثرية، والذين رأوا في تهديدات المجلس إذلالاً إضافيّا يدعو الى مزيد من السخط وهم قلة أبرزهم منيف حمدان الذي ذهب الى حد الدعوة الى مؤتمر صحافي تم منعه وسط وجود أمني كثيف حول العدلية. وقد أدى الجدل الحاصل بالنتيجة الى تعليق التحرك حتى 7 حزيران، وقد جاء الاجتياح الإسرائيلي للبنان في 5 حزيران ليضع حداً للتحرك القضائي الأكثر راديكالية في تاريخ المهنة في لبنان.
تاريخ بلا ذاكرة يترك القاضي وحيداً
هذا في خصوص أبرز الأحداث التاريخية. لكن ماذا يبقى للقضاء متى فقد ذاكرة تحركاته؟ لا شك بأن كل جسم مهني بحاجة إلى كتابة تاريخ مجمّل يفتخر به وتبرز من خلاله مزاياه الأساسية. وهذا وضع القضاة المصريين مثلاً، أو حتى المحامين اللبنانيين البارعين في عملية نسج رواية مهنية (حماية الديمقراطية والحريات في لبنان) يعودون إليها دورياً من خلال نقابتهم، بغض النظر عن دقتها التاريخية، كلما احتاجوا إلى تقوية التضامن بينهم أو إلى إعادة تأكيد دورهم المهني أو السياسي. أما القضاة اللبنانيون فيقومون بالعكس تماماً، إذ نرى كبارهم يتناسون حقبات صاخبة وواضحة المعالم من تاريخهم. إلا أن لهذا النسيان آثاراً مباشرة على استقلالية القضاة اللبنانيين. فالقاضي الذي ليس له جمعية يلجأ إليها لمناقشة أموره وهمومه بعيداً عن مفاعيل الهرمية والتراتبية، والذي ليس له ذاكرة جماعية يلجأ إليها مع زملائه لاستنهاض ذاته ولتطوير وظيفته، يصبح قاضياً وحيداً مستفرداً أمام السلطات السياسية والأمنية والاقتصادية، لا مرجع له سوى الزعامات السياسية والطائفية التي باتت تحدد هي صورة القاضي “الناجح” والقوي في لبنان. لا عجب بعد ذلك أن تكون سياسة النسيان جزءاً من سياسات إخضاع القضاء اللبناني لضرورات الطبقة السياسية ومصالحها.
نُشر في العدد الثاني عشر من مجلة المفكرة القانونية
[4]مجلة “الحلقة”, العدد 1, ص. 4
[5]مقابلات مع القضاة السابقين منيف حمدان،سليم العازار وحكمت هرموش.
[6]تولى تجميع التواقيع القاضيان عمر الناطور وخضر زنهور.
[7]وكانت قد سبقتها عريضة عام 1945
[9]مقابلة مع القاضي السابق منيف حمدان، 17 تمّوز 2007
[12]الأنوار في 27/3/1980, الأنوار في 1/4/1980
[13]حمدان، 17/7/2007, قواس 27/7/2007
[14]هؤلاء الأعضاء الجدد هم: عبد الكريم سليم، رشيد حطيط، عدنان عضوم، مختار سعد، نديم عبود، يوسف سعدالله الخوري، نصرت حيدر، شبيب مقلّد، فرنسوا ضاهر والياس الخوري.