“
انتهت التحقيقات الأولية التي باشرها المدعي العام المالي القاضي علي إبراهيم في ملف مشفى الفنار للأمراض النفسية والعصبية إلى توقيف مدير العناية الطبية في وزارة الصحة د. جوزف الحلو ومديرة المشفى سمر اللبّان، على ذمة التحقيق. وعلمت المفكرة التي واكبت إخلاء جزء من مرضى المشفى أمس في 19 شباط 2019، أن توقيف اللبان جاء على خلفية الإهمال الذي عرض حياة المرضى للخطر وأدى إلى تعذيبهم من جهة وتحويل علاجهم إلى ما يشبه الحجز والعقاب. كما جاء توقيف الحلو على خلفية الإهمال في اتخاذ إجراءات بحق إدارة المستشفى برغم علمه بما يحصل في المشفى منذ أشهر ليست بقليلة.
وعلمت المفكرة أيضاً أن القاضي إبراهيم سيستمع اليوم الأربعاء في 20 شباط 2019 لطبيب الأمراض العصبية المستقيل من المشفى د. حسن طفيلي كشاهد. المفكرة التي كانت أول من نشر عن حال المشفى يوم الجمعة الماضي، تابعت عملية إخلاء جزء من مرضى الفنار وسط التأثر البالغ الذي بدا على بعضهم وعلى عائلاتهم، وخصوصا القلق على مصيرهم ومدى ملاءمة المستشفيات التي نقلوا إليها لحالاتهم المشخصة طبياً.
“صباح الخير، أنا عمياء ما بقشع، كيف بدي روح على غير مستشفى، خليهن ياخدوني عالبيت”، بدموع عينيها اللتين لا ترى بهما الوضع المأساوي في “الفنار”، تبكي المريضة وفاء الحاج نحو 13 عاما قضتها بين من تسميهم “عائلتها”، أولئك الذين واللواتي عاشت معهم، كل وفق الظروف التي أتت به إلى المكان عينه سواء نفسية أو عصبية أو عائلية أو مجتمعية ناتجة عن رفض محيطه لوضعه أو عدم قدرة عائلاتهم على الإهتمام بهن.
منذ ساعات الصباح الأولى، انشغل مشفى “الفنار” للطب النفسي والعصبي في منطقة المصيلح بالتحضير لإجراءات نقل الدفعة الأولى من المرضى البالغ عددهم 96 مريضا وتوزيعهم على مراكز “مجهزة” لاستقبال حالاتهم، وذلك تنفيذا لقرار وزير الصحة الدكتور جميل جبق. وينتظر أن يتم نقل الدفعة الثانية من المرضى خلال يومين.
بيانات المرضى، حالتهم الصحية، أسماء الأدوية والجرعات اللازمة خطها طبيب الأمراض العصبية المستقيل د. حسن طفيلي بخط يده على عجل. لا يوجد جهاز “كمبيوتر” واحد يحفظ شيئا عن حالاتهم. في الغرف المجاورة مرضى يشعرون بالخوف الشديد والاضطراب، وانعدام الأمل، والرغبة في البكاء، وضيق في التنفس وشيء من التعرق لا يريدون ترك المشفى، “هون أحلى من أهلي”، تقول المريضة سميرة التي اعتادت على المكان.
قرار متسرع
مهانة، سوزان، أميرة، وفاء، شيرين، عفاف وغيرهن من المريضات كن يبكين. يصرخن أمام الجميع رفضاً لترك المشفى الذي قضين به سنوات طويلة. وبرغم كل ظروفها المأساوية، هددت شيرين بالإنتحار في حال أخذوها إلى مشفى آخر. “هذا المستشفى عائلتي”، بهذه العبارات اختصرت تأثير ما يحصل لها.
تبلّغ المرضى صباح 19 شباط 2019 ضرورة تحضير أمتعتهم استعدادا لنقلهم. من النوافذ علت الصرخة “حلوا عني”، تبعها تكسير وصراخ. انفعل أحد المرضى حدّ الاعتداء على أحد الموظفين بالركل والسباب، فيما حاول الموجودون، والذين أتوا بدافع المساعدة تهدئته. وفي لحظات قفز المريض إلى الحديقة، أحضر زجاجة عصير، كسرها في الحائط وهدد الجميع بها، ثم أكمل تمرده وحطّم زجاج إحدى السيارات، أخذ هاتفه واتصل بوالدته شاتما ومتوعدا. في لحظات، تحول “الفنار” إلى مكان غير آمن، فيما طالب البعض الطبيب بالإسراع لإعطائه حقنة مهدئة.
بدا المسؤولون غافلين، ووسط حضور إعلامي وأهالي مرضى وبعض منظمات المجتمع المدني، عن خطورة عملية النقل وارتداداتها على المرضى، الذين اعتادوا المكان وألفوه على مدى عشرين عاماً برغم سوء ظروفه مؤخراً. أصيب بعض المرضى بالهلع والخوف، بعضهم خبّأ وجهه، ولم يتحمل رؤية كل هذه الجموع.
تقصير الأهالي
حضر من الأهالي، من يهتم فعلا بمن له في المشفى محاولين متابعة عملية النقل، فيما حاول الطبيب طفيلي وضع الأولويات في عملية النقل واستبدال الأسماء تبعا لأماكن سكن ذويهم. في المقابل، حمّل ممثل وزارة الصحة د. الحلو (تم إيقافه لاحقا) جزءا من المسؤولية عما وصل إليه المرضى لإهمال الأهالي في زيارة ذويهم بشكل منتظم، وإبلاغ الوزارة عن الوضع المزري. وفي هذا الإطار، صرّح أن هناك أهل لم يروا أبناءهم منذ ثلاثة أشهر. الأهالي الذين آلمهم هذا الاتهام من مؤسسة رسمية في دولة تهمل كل مواطنيها وتقصر بحقهم، برروا انكفاءهم عن الشكوى ورفع الصوت، بخوفهم من أن يتم طرد أبنائهم من المشفى. تقول أحدهن “لوين بدي آخده؟ بحطه مع أمي العاجزة، أخي طلع نهار واحد من المشفى، كسر يد أمي، واعتدى على سيارات الناس، ونحن كل واحد فينا متزوج وعنده عيلة”. ووجهت شقيقة المريض يوسف زلزلي كلامها الى د. جوزيف الحلو، مذكرة إياه بأن هناك تقارير أرسلته الطبيبة المراقبة إلى الوزارة ولم يسأل أحد “طالما كل التقارير واصلة، الوزارة ليش ما تحركت، ليش عم تحطوا الحق علينا”، وفق ما قالت.
ماذا عن احتياجات المرضى؟
هناك من يعترض كون مستشفى جويا مخصصا لعلاج المرضى من الإدمان، ولا يتوافر فيه أكثر من 30 سريرا، ومشفى صور، هو دار للعجزة. إلا أن مركز حالات استحدث منذ أيام فقط لاستقبال مرضى “الفنار”، ويسأل: “هل مثل هذه المراكز مؤهلة لاستقبال أصحاب الأمراض النفسية الشديدة، والتي قد تصل إلى فقدان المصاب حياته تماماً، أو التسبب بالضرر لنفسه أو للمحيطين به؟ بحسب مدير العناية الطبية في وزارة الصحة الحلو هناك مرضى “هم بحالة عجز فقط”، فيما أكد أنه كان يتابع، و”منذ نحو خمسة أشهر عملية البحث عن مراكز ومستشفيات لاستيعاب هؤلاء المرضى، ولكن لم نجد أي مكان لنقل 170 مريضا إليها سوى هذه المراكز الثلاثة”، وفق ما قال الحلو قبل قرار توقيفه كونه كان يعلم بما يحصل من جريمة بحق مرضى الفنار.
عملية النقل
خلال عملية النقل، بدا المرضى مخلوقات هزيلة معزولة عن العالم في وضع هش جداً. حزموا أغراضهم استعداداً للمغادرة. بعض الأهالي وصلوا متأخرين، سلموا على أبنائهم في الحافات، حمّلوهم بعض المال، ووعدوهم بزيارتهم. بلال رفض طلب أخيه “يا بتطلعني عالبيت يا ما بدي روح”. يريد بعضهم العودة إلى المنزل، لكن ذووهم غير مؤهلين لتحمل أوضاعهم سواء النفسية أو العصبية، وقد لا يوجد من هو مستعد للعناية بهم كما يجب. يقول أحدهم “والدتي ووالدي توفيوا، وما بقدر خليه مع عيلتي بالبيت”، في إشارة إلى شقيقه.
ارتباك، توتر، وعجز. يسيرون بثياب رثة، وملابس داخلية عفنة، بحقائب رافقتهم إلى المكان نفسه منذ سنوات. حملوا أغراضهم الخاصة، والمواد الغذائية التي حصلوا عليها مؤخراً، راديو مذياع، وعلب دواء، وصعدوا في باصات الهيئة الصحية الإسلامية والصليب الأحمر. أربعون مريضا نقلوا إلى “مركز الإمام الكاظم الرعائي التابع لجمعية الإمداد الخيرية” في صور، وستة عشر مريضا إلى مستشفى جويا (صور – جنوب لبنان) وأربعون مريضا إلى مركز سانتا ماريا في حالات.
الأسير المريض
تبقى عملية النقل والقمع وظروف الرطوبة العالية، رائحة التبول في كل مكان، الطعام البسيط، ودقات القلب المتهالكة في حياة المريض “ج. ج”، عملية روتينية مستمرة، بدأت في معتقل عتليت وأنصار في ثمانينات القرن الماضي، ولم تنتهِ في مشفى “الفنار”. رحلة طويلة من العذابات يدفع جعفر ثمنها يوميا بتناول المزيد من العقاقير المضادة للاكتئاب. لكن الأسير البطل والمريض النفسي، يحز في نفسه فراق المشفى. وحده “ذ.ف” سيخرج خلال يومين، ويعود إلى منزله، هو لا يشبه المرضى، وهو أيضا ليس مريضا نفسيا، شاب لم يتجاوز الثلاثين من العمر، يعاني من الإدمان على المخدرات، دخل إلى “الفنار”، منذ شهر ونصف. وبحسب الموظفين كان هذا المكان بالنسبة له أفضل من السجن الذي وفّر له المادة المخدرة، ولم يساعده في التماثل للشفاء. “أنا مش متلن، ورح إطلع بعد يومين”. اضطر ذ.ف. من المكوث مع مرضى نفسيين وعصبيين لأنه لم يتمكن من دخول مركز علاج من الإدمان.
الموظفون بين نارين
وسط حالة الإضطراب التي شهدها مشفى “الفنار” خلال نقل بعض المرضى، وجد الموظفون أنفسهم بين نارين: “تجني” الأهالي الذين وجهوا التهم نحوهم بأن بعضهم كان يفرض “خوّة” شهرية على هؤلاء لتقديم اهتمام أكثر بأبنائهم، و”خسارة” فرصة عملهم الوحيدة برغم من مواظبتهم عليها، وتحمل عبء تأخر المستحقات لنحو سنتين. يقول أحدهم “نحن صمدنا في العمل تحت رحمة مرضى يصبح بعضهم عدوانيين أحيانا ومن ذوي الاحتياجات الخاصة في التعامل على الصعيد النفسي والعصبي، وأحيانا نقلنا القمل والسيبان إلى بيوتنا. كنا معرضين لأمراض السل والجرب، وتحملنا تأخر الرواتب، والأذى واللكمات من بعض المرضى الذين يعانون من أوضاع غير مستقرة. والآن ما هي جريمتنا؟، هل لأن البعض حصل على إكرامية؟ هذا يحصل في المستشفيات العادية أيضا إذ يدفعون للممرض اكرامية. نحو لا نستحق هذا الظلم”.
انتهت عملية نقل الدفعة الأولى من المرضى، على أن تجرى لهم الفحوصات والكشوفات الطبية قبل التحاقهم بأقسامهم وأسرتهم، في حين سينتهي إخلاء مشفى الفنار خلال اليومين المقبلين، في انتظار ما سيقرره مجلس الوزراء ووزير الصحة في الملف. فيما يبقى قرار الإقفال أو إعادة تأهيل المشفى، بحسب الدكتور الحلو، في عهدة وزير الصحة ومجلس الوزراء، مؤكدا على وعد الوزير جبق أن المشفى لن يباع في عهده، وأن “ملف الفنار أصبح في عهدة القضاء اللبناني، والقضاء هو الذي يقرر ونحن نلتزم بقراراته”.
مقالات ذات صلة:
وزير الصحة يعالج سوء إدارة مشفى الفنار بإقفاله؟ 200 مريض يواجهون اللاعلاج بعد المعاملة اللاإنسانية
مرضى جوعى والقمل يسرح في رؤوسهم ولا ينالون أدويتهم: وزارة الصحة والإدارة يذلون نزلاء مشفى الفنار النفسي
“