لقرائة الحلقتين السابقتين إضغط/ي على الروابط أدناه
الحلقة الأولى
الحلقة الثانية
المحكمة الادارية تنتصر لجرحى الثورة وتنحاز للناس في مواجهة السلطات…
بالتأكيد، يمكن القول ان الحكم الصادر في نهاية العام 2012 عن المحكمة الإدارية الابتدائية في صنعاء، والذي استمرت متابعة تنفيذه وتداعياته القانونية إلى العام 2013 وما زالت، يشكل اول حالة تدخل قانوني في مسار نزاع بين مؤسسات الدولة وعدد من ضحايا الحركة الاحتجاجية التي شهدتها الجمهورية اليمنية في العام 2011. ويُمكن التأكيد على أن الحكم الذي استجاب في نصه لـ 11 شخص من جرحى "الثورة الشعبية" ضد الحكومة ممثلة برئاسة الوزراء، يُشكل حالة فريدة في القضاء اليمني الذي لم يسبق له الانخراط في اصدار أحكام ضد هيئة رسمية رفيعة المستوى، وهو أيضا أحد التداعيات المهمة التي احدثها امتداد الربيع العربي إلى اليمن في وظيفة القانون التي كانت مؤسسات إنفاذه تحت السيطرة الكلية لجهاز الدولة التنفيذي.
شكل الحكم، الذي أصدرته القاضية في المحكمة الادارية رغدة عبد الرحمن عبد الواحد وهي من القاضيات القلائل في جهاز القضاء اليمني الذي يتسم بكونه جهازا محافظا وذكوريا، حكما نوعيا بناء على ما قدرته انه اختصاص أصيل للمحكمة. وهو اختصاص قرره نص الحكم ضمن شقين من الاسباب، الاول يتعلق بالطابع المستعجل للقضية والاستحقاق الاصيل للحماية التي يوفرها القانون للفئات الضعيفة في مواجهة الدولة، بما يخلقه هذا من فرق في وظيفة القانون التي كان ينظر له في اليمن باعتباره مُعطى تشريعي مفرغ من المعنى ويوظف، لاسباب سياسية او بسبب اكراهات القوة والنفوذ، لصالح مراكز القوى.
ويتضمن الشق الثاني من الأسباب في نص الحكم الذي يؤكد على اختصاص المحكمة بالقضية على زاوية مهمة، وهي ان المسؤولية التي تترتب على الجهة المدعى عليها، وهي هنا حكومة الوفاق الوطني، هي قائمة من كونها جهة ادارية تخلت عن وظيفتها أو امتنعت عن القيام بها، بما يرتبه ذلك من مخالفة جسيمة تُرتب عليها المسؤولية.
يمنح سياق تعاطي المحكمة الادارية مع الدعوى المرفوعة امامها من قبل المدعين من جرحى الثورة اليمنية، تأكيداً على الحق القانوني المتوفر للافراد في الاحتماء بالقانون لتصحيح الانحراف الواقع بوظائف السلطة في مواجهتهم، أو أيضا اخلال السلطة بالقيام بواجباتها او امتناعها عن ادائها.
خلال استعراض نص الحكم، يمكن التثبت من الاداء الرسمي السيئ في مواجهة الدعوى المرفوعة. فلم تبعث الحكومة أي ممثل قانوني لها لحضور جلسات المحكمة الأربع، بدءا من الجلسة الاولى التي انعقدت بتاريخ 5 – 11 – 2012 وحتى جلسة النطق بالحكم التي انعقدت بتاريخ 14 – 11 – 2012. ومع استمرار عدم حضور ممثل قانوني عن الحكومة قامت المحكمة بتنصيب محام عنها واستكمال اجراءات المحاكمة وصولا إلى اصدار الحكم الذي أكد مسؤولية الدولة بالتكفل التام برعاية الجرحى وعلاجهم على نفقتها في اي مكان تستدعيه حالاتهم الصحية. ولقد كان تحايل السلطات على الدعاوى القضائية المقدمة ضدها يتمثل بالدرجة الأولى في الامتناع عن الحضور بهدف تعطيل السير فيها، وشكل الاداء الحاسم للقاضية رغدة المعطى الاساسي الذي منح سير هذه القضية وتيره منضبطه تستجيب لطابعها المستعجل والانساني.
رغم صدور هذا الحكم القضائي، إلا أن الحكومة لم تلتزم بتنفيذ القرار رغم تعهد رئيس الحكومة بذلك في لقائه مع بعض ممثلي الجرحى مما اضطر هيئة الدفاع عن الجرحى إلى التقدم للمحكمة الادارية بطلب تنفيذ جبري للقرار الصادر عنها، حيث قامت المحكمة بالاستجابة لذلك وتوجيه إعلان بالتنفيذ الجبري الى رئاسة الوزراء.
ما زالت حتى الان هيئة الدفاع عن الجرحى تقوم بمتابعة الحكم القضائي والمذكرة التنفيذية له، لكن ايا يكن مآل القضية، فان مجمل الوقائع التي انتجها انتصار المحكمة للضحايا في حركة الاحتجاجات السلمية في اليمن تشكل سياقاً فريداً ينحاز فيه القضاء إلى المستضعفين، ضمن تحول مهم تبدو فيه المؤسسة القضائية لاول مره حساسه لوظيفة القانون الحقيقية، وما يفترض ان تنهض به نصوصه، والجهات القائمة على تفسيره والنطق باسمه وإنفاذه، من مسؤوليات في مواجهة سلطات تعودت الانصراف عنه والانحراف بوظيفتها خارج موجباته ونواهيه وروحه.
بالتأكيد أيضاً فأن هذا الحكم استطاع ان ينتج حراكاً موسعاً متصلاً به، فقد استدعى الضغط من اجل إنفاذه إلى تحركات شعبية مختلفه من المتضامنين مع الجرحى، تمثلت باعتصامات وتظاهرات متعدده استهدفت الضغط على الحكومة للقيام بتنفيذ مضامين هذا الحكم، وخُلق تبعاً لذلك رأي عام ضاغط، قادته نقاشات واسعه في وسائل الاتصال الاجتماعي والصحافة المحليه حول الحكم واهميته ودلالته والتداعي التي نجمت عنه، ليُصبح هذا الحكم القضائي بذلك احد الاحكام النادرة في التاريخ القضائي اليمني الحديث الذي استطاع ان يخلق حراكاً واسعاً متصلاً به مازال لم ينتهي حتى الان.
– دعوى حول المحاصصة السياسية للوظيفة العامة تكسر الصمت.
شكلت الدعوى القضائية المستعجلة التي تقدم بها السيد عبدالكريم سلام، أمام المحكمة الإدارية الابتدائية في صنعاء في تاريخ 5 -2 – 2013 ضد وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، لإخلالها بمعايير وشروط اختيار المرشحين المؤهلين لشغل وظيفة مستشارين ثقافيين وتحيزها لاختيار قائم على المفاضلة الحزبية حدثا هاما. فقد شكلت هذه الدعوى الاعتراض الأول من نوعه ضد سياسة المحاصصة المتبعة في تولي الوظائف العامة؛ وهي تؤكد في رمزيتها النوعية على الحق المتساوي لكافة المواطنين في شغل هذه الوظائف، بناء على معايير المؤهلات والكفاءة والجدارة لا غير.
وبالتأكيد، لا يمكن فصل السياق الحاصل في هذه القضية، عن ذلك الذي أسسته الدعوى القضائية المشار اليها أعلاه بخصوص جرحى الثورة، والتي شكل النجاح فيها عمليا دعوة لسائر المتضررين من انحراف الحكومة عن واجباتها باللجوء الى القضاء أملا برفع الغبن عنهم.
وكانت هذه الدعوى قد بدأت فصولا حين أعلنت وزارة التعليم العالي في تاريخ 26 – 3- 2012 عن فتح باب التقدم للتنافس أمام الراغبين لشغل منصب مستشار ثقافي في إحدى الملحقيات الشاغرةفي دول أجنبية عدة. وعلى الرغم من توفر المدعي على الشروط المطلوبة إلا انه تم استبعاده من دائرة التنافس.
وتشكل الدعوى المرفوعة بشكل مستعجل أمام المحكمة الادارية، ما يمكن وصفه بأول أداء قانوني كاشف عن عملية اخضاع الوظيفة العامة لاعتبارات الولاء السياسي للأحزاب المشاركة في الحكم حاليا في اليمن، وهو الأداء الذي تعكسه مجمل التعيينات في مختلف الأجهزة الحكومية ويثير غضب أطراف عدة[i]. والواقع أن سياسة المحاصصة السائدة في الأداء الحكومي تتعدى المواقع القيادية العليا لتطال مختلف الوظائف التي يجدر أن تخضع لمعايير الكفاءة والأهلية حيث (أنه يجب أن تقتصر المناصب السياسية على ما فوق منصب وكيل وزارة أما تلك الوظائف الأقل درجة فيجب أن يكون تقلدها خاضعا لمبادئ الحكم الرشيد وفق فرص متكافئة يصل فيها الأكفأ والأجدر ويحصل كل مواطن على حقه في الوظيفة العامة وحقه في الترقي في السلم الإداري للدولة)[ii].
وقد أفصح نص الدعوى أن لائحة الأسماء المعلن عنها والتي حددت الأشخاص القابلين للمفاضلة في الجولة الأخيرة من عملية الاختيار من قبل وزارة التعليم العالي كانت خالية من اسم المدعي، على الرغم من توفره على الشروط اللازمة المشار اليها أعلاه، فيما تضمنت أسماء أشخاص لا تتوفر فيهم تلك الشروط ومنهم من هو أقل منزلة وظيفية وأقل درجة علمية منه، وهو السياق الذي ينبئ بشكل واضح حسبما جاء في الدعوى أن معيار التفاضل الذي تم بموجبه استبعاد المدعي لا يمت بصلة الى الشروط المعلنة للتقدم لشغل الوظيفة.
وقد تضمنت الدعوى طلبا مستعجلا بوقف (الاجراءات الهادفة لاستكمال المنافسة) كون (الوظيفة المذكورة من فرص العمل القليلة والمنازعة بشأنها تدور حول الأحقية بشغل منصب موقوف بفترة زمنية محددة بأربع سنوات) وذلك باعتبار أن فوات الأمر زمنيا سيجعل من الصعوبة تدارك الضرر الناشئ من الأجل الزمني للقضية بما يستوجب اتخاذ اجراء قضائي لتعطيل النظر في عملية التنافس ريثما يتم الفصل في القضية نهائيا من قبل المحكمة. ولكن، على الرغم من طلب المدعي أن تتسم القضية بالاستعجال لما أورده من حيثيات تتسم بالوجاهة، إلا أن المحكمة حددت موعد القضية تاريخ 3 – 3 – 2013، أي بعد شهر كامل من تاريخ التقدم بها[iii]. كما أن وزارة التعليم العالي ماضية في استكمال اجراءات التنافس وقد أجرت فعلا المقابلات مع المعلن عن أسمائهم من قبلها، على الرغم من تسلمها بشكل رسمي الاعلان القضائي بالدعوى المرفوعة أمام المحكمة.
وبالتأكيد يفصح هذا التباطؤ من قبل المحكمة في النظر بالدعوى، ومضي الوزارة في اجراءاتها، ضمنيا عن مدى اصرار القوى السياسية الحاكمة على عدم التشويش عليها فيما تعتبره حقا مكتسبا لا يجوز النظر فيه أو تعطيله من قبل أي طرف، وعما يمكن أن تمارسه من اكراه وضغوط للمضي فيه بغض النظر عن لجوء بعض المتضررين للقضاء للمطالبة بحقوقهم بتكافؤ الفرص وبعدم التمييز ضدهم. وفي ظل ذلك، يشكل بالطبع المسار الذي ستذهب إليه هذه القضية في المحكمة مؤشرا على مدى قدرة جهاز العدالة في اليمن على حماية حقوق المواطنين في مواجهة سعي القوى السياسية الدائم الى الهيمنة على شؤون الدولة.
لقد لقيت هذه الدعوى فور التقدم بها إهتماما بالغا، وتم تغطية مضمونها بشكل واسع في الصحافة والمواقع الالكترونية، على الأقل على المستوى الخبري، وان بقيت قاصرة عن استيلاد تضامن عام معها أو تبن لها، حتى لدى الأطراف الأكثر تضررا من غيّ "المحاصصة" الواسع.
– دعوى ضد الرئيس بخصوص قراره المعطل بتشكيل لجنة تحقيق في انتهاكات 2011: الادارية تنحني للموقع الاول
وإضافة إلى القضايا السابقة التي تولت المحكمة الادارية النظر فيها وأشرنا إليها أعلاه، فهي ايضاً قد قبلت في الأول من مايو عام 2013 الدعوى المرفوعة ضد الرئيس هادي بخصوص التباطؤ في تسمية لجنة التحقيق في أحداث 2011 والجرائم المرتكبة ضد شباب الثورة رغم صدور القرار الجمهوري بتشكيل اللجنة عام 2012[iv]. ورغم قبول المحكمة هذه الدعوى شكلاً النوعية وغير المسبوقة كون طرفها الاساسي هو الرئيس، إلا ان المحكمة كما يبدو لم تغامر بخوض مواجهة مع الرجل الاول في البلد، حيث قضت بعد حوالي الشهر فقط على تسلم الدعوى في 6 -6 – 2013 برفض الدعوى علاوة على تغريم الطرف المدعي مبلغ خمسين ألف ريال (ما يوازي 250$) بذريعة فوات ميعاد تشكيلها. وعلق رئيس مركز استقلال القضاء المحامي المجيدي الذي قام برفع الدعوى (نخشى أن تكون المحكمة تعرضت واستجابت للضغوط من جهات متعددة ومن بينها النظام السابق كون التحقيق سوف يمسهم فكان ذلك الحكم الذي سيعرض سيادة اليمن للخطر لان مجلس حقوق الانسان سيلجأ لتشكيل لجنة تحقيق دولية في الانتهاكات التي حصلت عام 2011 وبالتالي يعقبه قرار من مجلس الامن تحت الفصل السابع)[v].
– حكم الدائرة الدستورية بعدم دستورية بعض مواد قانون السلطة القضائية: حكم قضائي نوعي يحرر القضاء من سيطرة السلطة التنفيذية
صدر قانون السلطة القضائية عام 1991، وتعدل بموجب قانون رقم (3) لسنة 1994، وتم تعديل ثان بموجب القانون رقم (15) لسنة 2006. وهذا القانون يمنح السلطة التنفيذية صلاحيات واسعة للتدخل في شؤون القضاء كالتعيين والترقية والندب وتبعية هيئة التفتيش القضائي. ولذلك، بادرت مجموعة من القضاة (وهم القاضي عيسى قائد سعيد الثريب، والقاضي عادل عبده محمد العزاني، والقاضي أحمد عبدالله مقبل الذبحاني، والقاضي نبيل محمد علي الجنيد) بتاريخ 30 -1- 2013 الى رفع دعوى إلى الدائرة الدستورية للطعن على دستورية بعض مواد القانون.
بالتأكيد، لقد تغير سياق التعامل مع قانون السلطة القضائية بعد هذه الدعوى، وخصوصاً منذ صباح يوم الاحد الموافق 26–5-2013، حين أصدرت الدائرة الدستورية بالمحكمة العليا حكماً استثنائياً وغير مسبوق في تاريخ القضاء اليمني بشأن هذا القانون، بقبول هذه الدعوى[vi].
وتجدر الاشارة الى أن الدعوى قبلت بجميع فقراتها وبنودها وطلباتها فيما عدا المادة (143) من قانون السلطة القضائية رقم 1 بسنة 1991 حيث قضت الدائرة الدستورية بعدم الاختصاص.
ومن اهم ما جاء في حيثيات هذا الحكم (أن وزير العدل عضو في السلطة التنفيذية واعتباره عضو في مجلس القضاء يخالف للدستور فلا يحق له التمتع بتلك العضوية ولا ان يباشر التصويت على أي من القرارات او حضور جلسات المجلس فذلك يعد مخالفا للدستور وكذلك إشرافه المالي والإداري على المحاكم وكذلك التنبيه وطلب الاحالة للقضاة او حضوره مراسم ادائهم لليمين وكذلك تبعية التفتيش والنيابة العامة له …….الخ)[vii]
كما اعتبر الحكم ايضاً الصلاحيات الممنوحة لرئيس مجلس الوزراء من تعديل وإضافة بدلات وعلاوات وترقيات ونحوه وفقا لما ورد بالمادة 67 من القانون مخالف للدستور، تدخلا سافرا في اعمال السلطة القضائية، كما يعد الاختصاص الممنوح لوزير العدل بتعيين مساعدين قضاة ونيابة مخالفا للدستور ايضاً.
لقد تعلق معظم هذا الحكم الصادر عن اﻟداﺋرة اﻟدﺳﺗورﯾﺔ بمواد سبق تعديلها أو من المقترح تعديلها في ﻗﺎﻧون اﻟﺳﻠطﺔ اﻟﻘﺿﺎﺋﯾﺔ وفق ما أشرنا أعلاه. وقد محورت اﻟداﺋرة اﻟدﺳﺗورﯾﺔ ﺣﯾﺛﯾﺎت وأﺳﺑﺎب وﻣﻧطوق حكمها ﻋﻠﻰ اﺧﺗﺻﺎﺻﺎت اﻟوزﯾر اﻟﻣﺗﻌﻠﻘﺔ ﺑﺷؤون اﻟﻘﺿﺎة ﻣن ﺗﻌﯾﯾن وﻧﻘل وﻧدب وﺗرﻗﯾﮫوﻧدب وﺗﻔﺗﯾش وغيرها، وﺗﺣدﯾداً ﺑﺣﺳب ﻣﺎ ﺟﺎء ﻓﻲ ﻣﻧطوق اﻟﺣﻛم ﻓﻲ اﻟﻣواد (54،59، 65/ب – ج – و،67، 68، 69،70،89، 90 ،91،92،94/3،95, 109،111/2).
ويعدّ هذا الحكم نوعياً وفارقاً في التاريخ الحديث للقضاء اليمني، كونه اسس افتراقاً واضحاً بينه وبين سيطرة السلطة التنفيذية عليه. ولقد تأتت اهميته العالية من التفاصيل التي قررها، حيث هو عطل عضوية وزير العدل في مجلس القضاء الأعلى، عندما قرر عدم دستورية المادة (104) من قانون السلطة القضائية لسنة1991. وقد عللت المحكمة تعارض هذه العضوية مع مبدأ استقلال القضاء، بأنَّ مجلس القضاء يمارس اختصاصات تتعلق مباشرة باستقلال القضاء، وحيث وأن المجلس يقوم باختصاصاته هذه بصورة جماعية، أو كما وصفها الحكم بمجموع اعضائه، فإن هذا يعني أن وزير العدل هو كذلك يقوم بهذه الاختصاصات بحكم عضويته، وكونه كما وصفته ممثل السلطة التنفيذية، فإن هذا يُعدّ انتهاكاً لاستقلال القضاء، وفق مضمون ما جاء في الحكم[viii].
وإضافة إلى ماسبق يشكل تقرير المحكمة بعدم دستورية المادة (89) من القانون، واحداً من اهم ما تضمنه هذا الحكم، حيث تضمن هذه المادة لوزير العدل حق الاشراف الكلي على الجوانب الادارية والمالية والتنظيمية للمحاكم، على نحو يفتح مجالا واسعا أمام السلطة التنفيذية للتصرف بالعصب الحيوي للسلطة القضائية استقلالية القضاء وتاليا للنيل من استقلاليتها. ولطالما كانت هذه المادة بعيدة عن أي تعديلات، وكانت مُصانة من اي مقاربة لهذا السبب بالذات.
لقد صادر هذا الحكم بوضوح صلاحيات وزير العدل بشكل اساسي، وتصرف بشكل حاسم من اجل ضمان استقلالية القضاء. ولكنه، على حيوية ما قام به سبب فراغاً تشريعياً يجب ان تتم المبادرة إلى ردمه، وهي مشكلة حقيقية حيث ان (مجلس القضاء الأعلى لا يستطيع أن يُمارس صلاحيات الوزير، لعدم وجود نص قانوني يوطّن لذلك، كون الدائ رة الدستورية ليست مشرعاً، فضلاً عن أن تركيبة مجلس القضاء أصبحت مختلة، وبحاجة إلى إعادة ترتيب بعد خروج وزير العدل من عضويته وفقاً لمقتضى الحكم)[ix]. وتبلغ هذه المشكلة مداها في ظل الانقسام الحاد داخل مجلس النواب والتزامه بالصيغة التوافقية المنبثقة عن المُبادرة الخليجية. وتبعا لذلك، يشكل مقترح الحكومة المقدم بخصوص بعض التعديلات على قانون السلطة القضائية مختبراً اساسياً لمدى احترام المجلس لمضمون هذا الحكم.
– قرار جمهوري بترقية بعض اعضاء السلطة القضائية يدفع إلى معركة قضائية محرجة للمحكمة العليا
في 5 – 10 – 2013، رفع القاضي عبد الوهاب قطران رئيس لجنة القضاء والعدل بهيئة الظل الشعبية التابعة لجبهة انقاذ الثورة السلمية في اليمن، دعوى أمام الدائرة الادارية في المحكمة العليا للجمهورية، وذلك (لإلغاء القرار الجمهوري رقم (161) لسنة 2013 بشأن ترقية بعض أعضاء السلطة القضائية، وكل ما ترتب ويترتب عليه واعتباره كأن لم يكن لانعدام اساسه الشرعي والقانوني)[x].
وتأتي هذه الدعوى ضمن سياق مناهضة ما يبدو محاولة استحواذ سياسي على القضاء في اليمن، مصدره الهوية السياسية لوزير العدل الذي ينتمي لحزب التجمع اليمني للاصلاح (الفرع اليمني لجماعة الاخوان المسلمين). وتتمثل مؤشرات هذا الاستحواذ السياسي في محاولة الدفع بعناصر بعينها للترقي ضمن السلم القضائي بشكل يُهدر مبدأ الكفاءة والاستحقاق الذي يجب أن يكون حاكماً في عملية الترقية الوظيفية. وهذا ما تحاول هذه الدعوى التصدي له، معتمدة بشكل رئيسي على حكم الدائرة الدستورية بعدم دستورية بعض مواد قانون السلطة القضائية وخصوصاً تلك المُتعلقة بصلاحيات وزير العدل، وهو الحكم الذي صدر في وقت سابق للقرار الجمهوري رقم (161) لسنة 2013 محل الدعوى. فقد أتاح الحكم الدستوري قاعدة للتحرك القانوني في هذه القضية.
لقد رفعت الدعوى ضد كل من رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء ووزير العدل، لصدور القرار الجمهوري بتوقيعهم وفق ما جاء في الدعوى. وتأتي مصلحة المُدعي في القضية من كونه قاضيا، وهو (بمركزه الوظيفي يخضع، ابتداء واستمرارا وانتهاء، لقانون السلطة القضائية؛ فله الصفة والمصلحة الحالية المؤكدة والاحتمالية المستقبلية في الادعاء بانعدام القرار محل الطعن)[xi].
ويأتي مأخذ الدعوى على هذا القرار من كونه صدر بتاريخ 17 – 6 -2013، سندا لمواد قانون السلطة القضائية ومنها بشكل خاص بما يتصل بالترقية المادة (67)، بينما كانت المحكمة الدستورية قد أفتت بتاريخ سابق في 26-5-2013 بعدم دستورية هذه المادة بما يتصل بتقرير لبدلات إضافية وتعديل جدول المرتبات القضائية. وتاليا، كان على القرار محل الطعن في الدعوى التقيد بما اقتضاه هذا الحكم الدستوري.
وفي مستوى آخر، تطعن الدعوى في اعتماد القرار الجمهوري "على قرار مجلس الوزراء رقم (162) لسنة 2000 بتعديل جدول الوظائف والمرتبات والعلاوات والبدلات لأعضاء السلطة القضائية"، فيما الصحيح أن القرار المذكور ليس صادرا عن مجلس الوزراء انما عن رئيس المجلس فقط الذي ليس له أي صلاحية بهذا الشأن. فالمادة (67) من قانون السلطة القضائية – التي هي ذاتها مادة غير دستورية – تقيد صلاحيات رئيس مجلس الوزراء وتحصرها بمنح بدلات اضافية لتحسين معيشة الموظفين الحكوميين، بينما يدخل تعديل جدول الوظائف والمرتبات والعلاوات والبدلات لأعضاء السلطة القضائية في صلاحيات مجلس الوزراء بأكمله.
وإضافة لذلك فإن (قرار رئيس الوزراء المذكور لم يقتصر فقط على تجاوز صلاحيات مجلس الوزراء كسلطة تنفيذية، بل تجاوز أيضا صلاحيات السلطة التشريعية؛ إذ أنّه لم يقتصر على تعديل المبالغ الواردة بالجدول بالزيادة، بل قام أيضا بتعديل توصيف الوظائف القضائية المحددة حصرا في المادة (58) من القانون ذاته)[xii]. فقد أدى قرار رئيس الوزراء المذكور الى إلغاء وظيفة "مساعد قاضي" نهائياً، والتي يؤدي غيابها إلى خلو (محاكم الجمهورية من مساعدي القضاة الذين كانوا يتولون أعمالا غاية في الأهمية ذات الطبيعة المختلطة (القضائية/ الإدارية)… كما أدى (إلغاء وظيفة "مساعد قاضي" .. إلى خلل أشد جسامة من السابق وهو تولية خريجي معهد القضاء منصب القضاء بمجرد تخرجهم ودون مضي فترة التدريب المنصوص عليها قانونا)[xiii].
وعلاوة على ما سبق، اعترضت الدعوى على ترقية إداريين (ومنح البعض منهم من ثلاث الى أربع درجات قضائية دفعة واحدة وهم لا علاقة لهم لا بالقانون ولا بالقضاء حال كون مؤهلاتهم بعيدة كل البعد عن القانون بعضهم مؤهلاته ادارة اعمال والبعض جغرافيا)[xiv]. كما اعترضت على (ترقية كثير من القضاة المنقطعين عن العمل منذ ما يزيد عن عشرين عاماً ومنحهم درجات عضو استئناف رغم انه لم يسبق ان أصدروا حتى حكم قضائي واحد)[xv] وكل ذلك بسبب انتماء هؤلاء إلى طرف سياسي بعينه ينتمي له وزير العدل، بما يشكله هذا من سوابق خطيرة في التاريخ القضائي اليمني كما تقول عريضة الدعوى.
اياً يكن التقييم للمحاججات القانونية التي تضمنتها هذه الدعوى من ناحية المعقولية والصحة في تفنيد القرار الجمهوري واسانديه، فإن اهميتها تأتي من كونها تشكل جزءا من سياق رقابي على السلطة القضائية سيوجد في المحصلة بيئة مُناهضة للتجاوزات السياسية على السلطة القضائية.
وما زالت هذه الدعوى منظورة امام الدائرة الادارية في المحكمة العليا منذ تاريخ التقدم بها مطلع شهر أكتوبر. ولقد عقدت عدد من الجلسات قدم فيها القاضي قطران رداً على الدفوع المقدمة من قبل ممثلي المدعى عليهم. وعلى الرغم من كون الدائرة كانت قد قررت يوم 5 -12 – 2013 موعدا للفصل في الدفوع والنظر في القضية المنظورة امامها[xvi] إلا ان عادوت تأجيلها مره اخرى لفترة اضافية حتى تاريخ 6 – 1- 2014. وفي هذه الجلسة، رفضت الدائرة توكيل محامي المدعي الذي سبق ان ثبتته في محضر جلسة سابقة، هذا علاوة على كونها منعت وسائل الاعلام من الحضور لتغطية الجلسة وأيا من النشطاء والمتضامنين مع المدعي، وقامت مرة أخرى بتأجيل الجلسة حتى تاريخ 13 – 1 – 2014[xvii]، وهو الامر الذي دفع المدعى عليه الى الاحتجاج على حرمانه من محاميه والتلاعب والتعذر المستمر من قبل الدائرة مصرحا انه إذا (أصرت الدائرة على مخالفاتها سيطلب رد الدائرة الادارية بكاملها واحالة القضية الى دائرة اخرى)[xviii].
بالتأكيد يبدو واضحاً من هذا الترحيل المستمر للفصل في القضية وجود ضغط وحرج كبير لدى الدائرة الادارية بسبب هذه القضية ورمزيتها، من كون الاستجابة للدعوى ستعني نقضاً لقرار جمهوري، بما يعنيه ذلك من دفع للمحكمة العليا لخوض مواجهة ثانية مع الصيغة الحاكمة حالياً في اليمن. وهو الامر الذي لا يُراد تكراره بعد تداعيات الحكم السابق للدائرة الدستورية الذي ما زال يربك السلطات حتى الان، ولهذا فهي تحاول ان تتلكأ في الامر حتى تجد مخرجاً.
وبانتظار ما ستنتهي اليه هذه القضية، يبدو ان بوابة المحكمة العليا بدوائرها المختلفة ستُفتح بإستمرار امام قضايا من هذا النوع يُراقب فيها مصلحة القضاء اليمني والمُنتسبون له لاول مرة على حساب مصالح اخرى كانت دوماً تُرجح عليه.
– محاكمة صحيفة الاولى المستقلة: القضاء أمام مختبر مساحة الحريات الجديدة
في تاريخ 22 – 4 – 2013، عقدت اول جلسة في محاكمة صحيفة الاولى اليومية ممثلة برئيس التحرير محمد عائش، والصحفي المستقل محمد عبده العبسي، وذلك امام محكمة الصحافة والمطبوعات في العاصمة اليمنية صنعاء بعد ان أجلت أكثر من مره. وحظيت هذه المحكمة باهتمام لكونها تعتبر من اولى محاكمات الصحف والصحفيين في المرحلة الانتقالية وبعد الثورة الشعبية في اليمن عام 2011 في قضية عامة، على خلفية نشر الاولى تحقيقات صحفية قام بها الصحفي محمد عبده العبسي عن قضية علاج جرحى الثورة ووجود تمويلات خارجية استلمتها جمعية الاصلاح الاجتماعية الخيرية وأطراف أخرى من قطر بهذا الخصوص وهناك شبهة فساد في الوقائع المتصلة بها. وعلى خلفية ذلك، قامت جمعية الاصلاح برفع دعوى قضائية ضد الصحيفة وكاتب التحقيق فيها امام القضاء.
وتُعرف الجمعية الشاكية في هذه القضية بكونها احدى أكبر الجمعيات الخيرية في اليمن وهي مقربة من حزب التجمع اليمني للاصلاح الاسلامي، ويرأس مجلس ادارتها وزير العدل الحالي في حكومة الوفاق الوطني القاضي العرشاني[xix].
تبدو القيمة الرمزية الخاصة بهذه المحاكمة عالية ومتداخلة. فمن جهة، صحيفة وصحفي مستقلان من الاكثر متابعة على المستوى العام؛ ومن جهة أخرى، أكبر جمعية خيرية اسلامية تعتبر مُقربه من أحد الاحزاب الحاكمة حالياً في اليمن وفق المبادرة الخليجية، علاوة على كون رئيسها هو وزير العدل ذاته. وما يعزز من أهميتها أيضاً اشتعال قضية جرحى الثورة بشكل متكرر نتيجة الاهمال الذي تعرضوا له والحديث عن وجود فساد هائل في التبرعات والتمويلات الخارجية والحكومية لجهات متعددة وذلك للقيام بعلاجهم، وهو الأمر الذي تناوله الصحفي محمد العبسي في سلسلة تحقيقات صحفية نشرت في صحيفة الأولى تحت عنوان (الملف الاسود لتجار الثورة) وحظيت باهتمام ومتابعة واسعين. وقد عكست التحقيقات مخالفات خطيرة مرتكبة من جمعية الاصلاح الاجتماعية الخيرية بما يتصل بكيفية استخدام الهبات التي كانت تتلقاها من جمعية الهلال الاحمر القطري. وتبعا لهذه الاتهامات، تقدمت الجمعية بشكوى قضائية تنفي عنها ذلك وتطالب بتعويض قدره مائة مليون ريال يمني، اي ما يعادل 465 ألف دولار امريكي، عن الاضرار التي تعرضت لها. واعتبرت نيابة الصحافة والمطبوعات ما ورد في هذا الملف الصحفي (سباً وإهانة للجمعية بأن اسند إليها وقائع جارحة لو كانت صادقة لأوجبت عقابها قانوناً واحتقارها عند اهل وطنها وبما يخدش شرفها واعتبارها بهدف الترويج والتشهير الشخصي إخلالاً بواجبهما الصحفي)[xx]. وبذلك، بنت النيابة العامة اتهامها على أساس أن مرد الوقائع الجارحة في هذا العمل الصحفي هو الرغبة بالترويج والتشهير الشخصي، متجاهلة تماما أن الوقائع الواردة في الملف الصحفي هي اتهامات صريحة بالفساد للجمعية تستدعي تحقيقا وملاحقة.
يقول دفاع الصحيفة في رده على الدعوى العامة (أن التهمة المنسوبة لموكلينا في دعوى النيابة هي ارتكاب جريمة السب والاهانة واستندت في ذلك الى مقاطع من المقال المنشور وبالنظر الى تلك الاقوال محل التهمة تجدونها لا تتضمن اية الفاظ او وقائع جارحة وفقاً للمتطلب القانوني لقيام جريمة السب والاهانة فضلاً انها نًشرت في المقال بناءً على ادلة تؤكد صحة اغلب ما ذُكر)[xxi].
بعيداً عن نصوص الدعوى العامة وردود الدفاع عليها في هذه القضية، تبدو هذه المواجهة القانونية التي موقعها محكمة الصحافة والمطبوعات التي اتهمت في العهد السابق بانها ذراع قضائي للسلطة لقمع الصحافة مختبراً للتحول الذي قد يحدث في وظيفة القضاء، خصوصاً وان الجهة الشاكية مقربة لاكثر الاحزاب نفوذاً في اليمن حالياً ويترأسها وزير العدل ذاته، وهو مايثير مخاوف عديدة من وجود اي تدخل او ضغوط قد تمارس على المحكمة، على الرغم من أن القضاء مستقل نظرياً عن السلطات التنفيذية حتى لو كانت وزارة العدل ذاتها ذات الصلاحيات الادارية الواسعة على الجهاز القضائي.
وتقول منظمة مراسلون بلا حدود في تقريرها السنوي الاخير للعام 2013 الخاص بتصنيف حريات الصحافة في العالم أن (اليمن لايزال راكدا ضمن المراتب العشر الاواخر من التنصيف، متنقلا من المرتبة الـ 171 إلى المرتبة الـ 169)[xxii] وانه بعد عام على تولي الرئيس عبدربه الحكم في اليمن (لا يزال الإطار التشريعي كماهو. فالصحافيون يتعرضون دوماً للاعتداءات والمحاكمات، بل لاحكام بالسجن النافذ)[xxiii].
هوامش
[i]بيان الاتحاد العام لنقابات عمال اليمن يستنكر اقصاء الكوادر في المؤسسات المدنية ويدين سياسة المحاصصة، 2 – 10 – 2012، موقع حضرموت نيوز، http://www.hadhramautnews.net/news-3246.htm
[ii]منظمة هود تدين سياسة التقاسم السياسي للوظائف العامة، 3 – 2 – 2013، موقع هود اونلاين، http://www.hoodonline.org/2012-06-02-13-05-22/148-2012-06-02-10-51-39/652-hood122.html
[iii]تم ارجاء الدعوى لأسبوع تمكينا للحكومة من تعيين محام.
[vi]حكم الدائرة الدستورية بالمحكمة العليابخصوص الدعوى المرفوعة امامها بعدمدستورية بعض مواد قانون السلطة القضائية لسنة91م وتعديلاته، اليمن – صنعاء، 26 – 5- 2013.
[vii]حكم الدائرة الدستورية بالمحكمة العليابخصوص الدعوى المرفوعة امامها…. مصدر سابق
[xi]دعوى قضائية ضد القرار الجهموري رقم (161) بشأن ترقية بعض اعضاء السلطة القضائية… مصدر سابق
[xii]دعوى قضائية ضد القرار الجهموري رقم (161) بشأن ترقية بعض اعضاء السلطة القضائية… مصدر سابق
[xiv]دعوى قضائية… مصدر سابق
[xv]دعوى قضائية… مصدر سابق
[xvi]الدائرة الادارية بالمحكمة العليا تقر الفصل في الدفوع في قضية المخالفات في ترقيات بعض أعضاء السلطة القضائية إلى الخامس من ديسمبر القادم، موقع يمنات الاخباري، 19 – 11 -2013، http://www.yemenat.net/news42257.html
[xvii]الدائرة الادارية تمنع وسائل الاعلام من تغطية جلسة قضية الطعن في ترقية أعضاء في السلطة القضائية و ترفض توكيل محامي ثبتته في محضر جلسة سابقة، موقع يمنات الاخباري، 6 -1- 2014، http://www.yemenat.ne
متوفر من خلال: