في سابقة فريدة في القضاء المغربي أصدرت المحكمة الابتدائية ببني ملال مؤخرا حكما يقضي بتمتيع شاب مثلي بظروف التخفيف في ما نسب اليه من جنحة المثلية الجنسية وإدانة المعتدين عليه بعقوبات حبسية نافذة[1].
تعود فصول القضية إلى شهر مارس من العام الجاري حينما قام مجموعة من المتظاهرين باقتحام منزل بحي شعبي بمدينة بني ملال بعد شيوع خبر تواجد شابين مثليين بداخله. وإذ تمّ ضبطهما عارييْن وهما بصدد ممارسة الجنس، تم التعرض لهم بشتى أشكال التعنيف والايذاء. كما أجبرهم بعض المتظاهرين على الخروج من المنزل وهم عراة وتصويرهم. وعند تدخل الأمن لفك الاشتباك تم اعتقال أحد الشابين المثليين، فيما لاذ رفيقه بالفرار.
بعيد ساعات على ذلك، انتشرت عبر مواقع التواصل الاجتماعي مقاطع فيديو توضح أشكال العنف التي تعرض لها المثليان. وتحركت منظمات حقوقية تطالب بفتح تحقيق في النازلة، وملاحقة المعتدين على المثليين.
وهكذا أصدرت حركة مالي للدفاع عن الحريات الفردية، بيانا استنكر ما وصفه بـ'الاعتداء الوحشي والهجوم على المسكن، والضرب المبرح، والسبّ والتشهير لشابين بسبب ميلهما الجنسي"، معتبرًا أن "الحرية الجنسية للأفراد ميولاً وممارسات ما دامت بالتراضي جزء لا يتجزأ من الحريات الفردية، وعلى الدولة حماية مواطنيها وضمان حقهم القانوني في حرياتهم".
أمرت النيابة العامة باعتقال المثلي الموقوف. في الوقت ذاته، أوقفت عددا من المتورطين في واقعة الاعتداء عليه. وأحيلوا ملف المثلي الضحية وملف المعتدين عليه –الجميع في حالة اعتقال-على انظار القضاء ليفصل في النازلة.
أثناء مناقشة الملف أمام هيئة المحكمة،اعترف الشاب المثلي بأن لديه ميول جنسية لأشخاص من جنسه. وأنه مارس الجنس مع شخص تعرف إليه حديثا. وأن أحد الأشخاص الذين اقتحموا الغرفة، صفعه تكرارا على مستوى خده كما ضربه مرتين بواسطة سكين كبير على مستوى سبابة يده اليسرى وعلى مستوى أذنه اليسرى. ورغم ذلك تمكن من الفرار وهو عاري الجسد. وأضاف أنها ليست المرة الأولى التي يمارس فيها الجنس مع الشخص المذكور. وتم الاستماع الى معنّفي المثليين اللذين اعترفا بمشاركتهما بالضرب والتصوير.
وإذ طالبت النيابة العامة بإدانة جميع المتهمين، طالب محامي الشاب المثلي بإعلان براءة موكله لكون ظاهرة المثلية تخلق مع الإنسان ولا يمكن تجريمها وقد آن الأوان لاستبعاد الفصل 489 من القانون الجنائي لأنه أصبح خارج التاريخ. كما طالب الدفاع بتمتيع موكله بحقه في الحماية وملاحقة ومعاقبة المعتدين عليه، واعتباره ضحية ظاهرة رهاب المثلية وليس جانياً.
وطالب دفاع باقي المتهمين البراءة لموكليهم أساسا، واستثناء تمتيعهم بظروف التخفيف نظرا لواقعة الاستفزاز التي تعرضوا لها بعد شيوع خبر تواجد مثليين بالحي.
وبعد المداولات أصدرت المحكمة قرارها الذي وصف بالمبدئي والذي أدان المعتدين على الشاب المثلي بعقوبات سجنية نافذة حيث عوقب المتهم الأول بستة (06) أشهر حبسا نافذا وغرامة نافدة قدرها (1000) درهم. وعوقب المتهم الثاني بأربعة (04) أشهر حبسا نافذا وغرامة نافدة قدرها (1000) درهم،في حين تم تمتيع الشاب المثلي بظروف التخفيف والاكتفاء بإدانته بعقوبة موقوفة التنفيذ حيث أطلق سراحه فورا عقب صدور الحكم.
ورغم أن الحكم الصادر عن المحكمة الابتدائية ببني ملال لم يتضمن في ظاهره أي جديد بشأن تطبيق الفصل 489 من القانون الجنائي على المثليين، إلا أن الجديد الذي كرسه هذا الحكم هو تعامله بمرونة أكبر مع المثلية وتكريسه لحق المثليين على الدولة في حمايتهم وحماية سلامتهم الجسدية من الاعتداءات التي تطالهم. وهو الحق الذي كان غالبا ما يتم اهداره في المحاكمات السابقة التي تعرض لها مثليون. كما نجد أن القاضي لجأ لإعمال آلية تمتيع المثلي بظروف التخفيف في سابقة تعد الأولى من نوعها، حيث راعى ظروفه الاجتماعية، وانعدام سوابقه، وحداثة سنه، وأصدر في حقه عقوبة موقوفة التنفيذ، في الوقت الذي طبق العقوبة النافذة في حق المعتدين عليه.
كما تعكس هذه القضية التحول الذي بدأ يطرأ على طريقة تناول قضية المثلية أمام القضاء المغربي، في علاقته بحراك الشارع[2]. فبقدر ما ينمّ عن استمرار الأفكار التمييزية ضد المثليين، بقدر ما يكشف عن بداية تشكل وعي مجتمعي يعترف للمثليين بالحق في السلامة الجسدية والحق في الخصوصية. ولا أدل على ذلك من أن دعوات ملاحقة المعتدين على المثليين انطلقت من طرف مدونين شباب وحقوقيين ومنظمات المجتمع المدني التي طالبت النيابة العامة للتحرك وفتح تحقيق في النازلة، كما واصلت حملة مناصرتها للمتهم طيلة فترة المحاكمة[3].
ولعل مثل هذه الأحداث المتفرقة ستسهم في اعادة النظر في المقتضيات القانونية الجنائية الحالية مع انطلاق ورش مراجعة القانون الجنائي خاصة أمام الدعوات المنادية باحترام الحريات الفردية وضرورة ملاءمة التشريعات الداخلية مع المعايير الدولية.[4]
[1]-حكم المحكمة الابتدائية ببني ملال عدد 3010، في الملف عدد 275/2016، بتاريخ 11/04/2016.
[2]-من بين القضايا التي عرضت على القضاء المغربي وشكلت محور اهتمام اعلامي واسع، قضية زواج مثليي مدينة القصر الكبير سنة 2007 فقبل عشر سنوات اهتزت مدينة القصر الكبير -احدى المدن الصغيرة الواقعة شمال المغرب- على اثر خبر زواج مثليين مغربيين واحيائهما حفلا بالمناسبة، حيث قام سكان المدينة بتنظيم مظاهرات واقتحام منزل المثليين وتعريضهما للتعنيف، وبعد تدخل الأمن تم اعتقال المثليين المعتدى عليهما، وتقديمهما للمحكمة التيأصدرت عقوبات سجنية نافذة في حقهما وأدانتهما بـ 10 أشهر حبسا نافذا من أجل جنحة الشذوذ الجنسي، في الوقت الذي لم تقم فيه النيابة العامة بملاحقة معنفي المثليين رغم أن فيديوهات كثيرة انشرت عبر مواقع التواصل الاجتماعي ووثقت لمشاهد الاعتداءات الجسدية التي طالتهما، وكان يبدو حينها أن العقوبات القاسية الصادرة في حق مثليي القصر الكبير هدفت بالاساس الى اخماد غضب الشارع وكرست سياسة افلات المعتدين على المثليين من العقاب .
-حكم المحكمة الابتدائية بالقصر الكبير عدد 325 في الملف 320 بتاريخ 10/12/2007، غير منشور.
[3]-يبدو في الآونة الأخيرة أن دعوات حماية المثليين من الاعتداءات التي تطالهم أصبحت تلقى آذانا صاغية من طرف الجهات القضائية المختصة، بسبب دور المجتمع المدني في حملة المناصرة والدفاع عن حق المثليين في السلامة الجسدية من الاعتداءات، فضلا عن دور مواقع التواصل الاجتماعي كأدوات تضمن الانتقال السريع للأفكار والأخبار والمواقف. وفي هذا الصدد شهد شهر رمضان 2015 واقعة شهيرة على اثر اعتداء وثق بالصوت والصورة لشاب مثلي من مدينة فاس ضبط من طرف المارة وهو يرتدي ليلا لباسا أنثويا ويضع مساحيق تجميل، فتم ضربه وشتمه وتعريضه للتعنيف، قبل أن يتدخل عدد من المواطنين لانهاء الاعتداء عليه، وعلى اثر تداول شريط الفيديو الذي يوثق هذا الاعتداء بمواقع التواصل الاجتماعي وباليوتيوب، وانطلاق حملة مناصرة واسعة تنادي بملاحقة المعتدين أصدرت النيابة العامة بمدينة فاس بلاغا أعلنت فيه أنها فتحت تحقيقا في النازلة، وقد أسفر التحقيق عن القاء القبض على معنفي المثلي وتقديمهم للقضاء الذي أصدر أحكاما بعقوبات حبسية نافذة في حقهم .
[4]-لمزيد من التفاصيل يراجع موضوع: مجموعة "أقليات" تطلق حملة الحب من حقوق الانسان، منشور بموقع المفكرة القانونية.
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.