ذ يوسف النادي
ينص الباب السابع من الدستور المغربي في باب السلطة القضائية في الفصل 107 الفقرة الأولى على ما يلي " السلطة القضائية مستقلة عن السلطة التشريعية وعن السلطة التنفيذية". كما أنه في الفصل 115 من الدستور كرس هذه الاستقلالية بإخراج وزير العدل من تشكيلة المجلس الأعلى للسلطة القضائية, الا أنه عند دراسة الفترة الزمنية الممتدة ما بين تصويت الشعب المغربي بالأغلبية على الدستور الجديد وانتخاب حكومة جديدة في ظله وتطورها الى تاريخ كتابة هذا المقال, تستوقفني ممارسات السلطة التنفيذية التي لا تدل بحال من الأحوال على رغبتها في تنزيل مقتضيات الدستور الجديد تنزيلا صحيحا وواقعيا يتماشى مع روح الدستور ورغبة الشعب المغربي في قضاء قوي ونزيه, يعكس المقاربة التشاركية مع القضاة الذين يعود لهم السبق في تنزيل مقتضيات الدستور الجديد والذي بدأ بتأسيس جمعيتهم المهنية نادي قضاة المغرب تحت أشعة الشمس الحارقة في شهر رمضان المبارك وتحديدا بتاريخ 20/08/2011 قبل مجيئ الحكومة الجديدة, الذي سيبقى خالدا في التاريخ القضائي للمملكة بوصفه سابقة لم يشهد لها القضاء المغربي مثيلا, وذلك من طرف ثلة من القضاة الشباب الذين صدموا من وضعية القضاء في بلدهم ولن يقبلوا بغير الاصلاح بديلا, ومن طرف قضاة قدامى عانوا الأمرين في مسيرتهم وتجربتهم القضائية, وأصروا على أن يتغير الوضع المزري للقضاء وينصلح شأنه قبل تسليمهم المشعل ويطمأنوا لمستقبله تأدية لرسالتهم النبيلة.
وبالعودة الى الأحداث القضائية بعد انتخاب الحكومة الجديدة في ظل دستور جديد, استبشر القضاة خيرا باستقبال ممثلهم نادي قضاة المغرب من قبل الوزير, ورأوا في ذلك الاستقبال بداية لمرحلة جديدة تشاركية ما بين السلطة القضائية والسلطة التنفيذية لتنزيل مقتضيات الدستور الجديد, الا أن وزير العدل, والذي كان شجب تبعية القضاء والقضاة للسلطة التنفيذية ونادى باستقلال السلطة القضائية عن السلطة التنفيذية قبل استوزاه في كل المناسبات, أكد أن الجمعيات والشخصيات الحقوقية عبرت له عن أسفها لخروج وزير العدل من تشكيلة المجلس الأعلى للسلطة القضائية في تراجع خطير وغير مفهوم في مواقفه السابقة. كما نقض الوزير وعوده السابقة وذلك بإعادة النظر تأمين المقر والدعم المالي للنادي, وكما صرح بأن استقلال قضاة النيابة العامة عن السلطة التنفيذية يشكل تهديدا للمؤسسات، من دون أي تعليل، وكأن النيابة العامة في الدول المتقدمة مثل ألمانيا وبلجيكا وغيرهما تهدد المؤسسات هنالك.
ان أكبر خطر يهدد الأمن القضائي في بلادنا هو بقاء النيابة العامة تحت أمرة وزير العدل الذي يكون له تلون حزبي يؤثر عليه في تحريك المتابعات في ملفات مهمة أو تصفية الحسابات مع الخصوم السياسيين.ولعل التقرير القضائي الأوروبي الأخير والانتقادات الشديدة التي وجهت لفرنسا في هذا الباب لأكبر دليل على ذلك والتي تقوم حاليا بتدارك هذا الأمر, لماذا سننتظر بدورنا 100 أو 200 عاما لنصل الى هذه النتيجة؟
وبتحضير نادي قضاة المغرب لجمعه الوطني الاستثنائي، كان الوزير منشغلا في اختيار أعضاء الهيئة العليا لإصلاح العدالة. وكرد على اجماع القضاة داخل النادي على البدء في الأشكال الاحتجاجية ابتداء من 15/05/2012, تم اقصاء نادي قضاة المغرب من الهيئة العليا على الرغم من أنه يمثل الجمعية الأكثر تمثيلا للقضاة, بذريعة أنه لم يكن قد حسم أمر مشاركته بعد وأن هناك 12 قاضيا ممثلا في الهيئة, وذلك تكريسا لهيمنة السلطة التنفيذية لتحقيق اصلاح على مقاس يضمن هيمنتها ووصايتها على الجهاز القضائي. والواقع أنه كان يقتضي أن يتم تشكيل الهيئة بشكل تشاركي مع الفاعلين في قطاع العدل وذلك لتجنب السياسات القديمة "هادا ديالي وهاداك ماشي ديالي", ولضمان تمثيلية الجميع داخل الهيئة وعدم اغراقها بشخصيات ومؤسسات محسوبة على السلطة التنفيذية, وتوالت من ثم تصريحات الوزير على أن النادي يهدد الحكومة ويحاول لي ذراعها وكأن السلطة التنفيذية تصور ما يقع من تغيرات في الساحة القضائية المغربية على أنه تحد لها وصراع معها. ومرد ذلك بالأساس الى عقلية السلطة التنفيذية التي ترمي دائما الى المحافظة على وصايتها على السلطة القضائية وتعتبر أن أي تغير من الداخل دون مباركتها وضمن الحدود المسموح بها في التغيير يشكل تهديدا لها.
ولعل التهديدات العلنية لوزير العدل للسادة للقضاة في نادي قضاة المغرب من خلال وسائل الاعلام بإحالتهم على المجلس الأعلى للقضاء (التسمية السابقة للمجلس الأعلى للسلطة القضائية حاليا), واتخاذ اجراءات انتقامية منهم بعد عقد مجلسهم الوطني في 09/06/2012 بساعات, و السبب اعلانهم عن خوض جيل جديد من الاحتجاجات ليشكل تدخلا خطيرا في الشأن الداخلي للقضاة, ذلك أن الوزير نسي ربما أن تواجده في المجلس الأعلى للقضاء هو بصفة مؤقتة وكمرحلة انتقالية الى غاية خروج المراسيم المتعلقة بالمجلس الأعلى للسلطة القضائية, و أن هاته المرحلة الانتقالية تقتضي تسيير أعمال المجلس فقط دون التدخل أو تهديد القضاة بإحالتهم على المجلس, اذا كانت السلطة التنفيذية تريد فعلا التنزيل الحقيقي للدستور وتتماشى مع فلسفته التي كرست بشكل صريح استقلال السلطة القضائية عن السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية, وأكدت على التعاون البناء الذي يجب أن يسود هذه السلط الثلاث دون المساس بهذه الاستقلالية. فخلاف ذلك سيجعل الوزير في موقع من يحيل ويحكم في نفس الوقت, وهو أمر لا يصح.
وما يثير الكثير من علامات الاستغراب والاستفهام, هو تصريح الوزير تحت قبة البرلمان أن نادي قضاة المغرب ليس هو الجمعية الأكثر تمثيلية للقضاة ولم يتوصل بأي شيء يفيد ذلك, ثم أردف أثناء أجوبته أن عدد أعضائه هو ستون. السؤال هو كيف علم الوزير بهذا العدد اذا لم تكن له معطيات بشأن ذلك؟ وكيف لوزير دولة في العدل أن لا يعلم ما يجري في الساحة القضائية وتكون له معطيات دقيقة عن كل ما يهم الشأن القضائي؟ فمراسلة وزارية بسيطة الى الجمعية المهنية لنادي قضاة المغرب كفيلة بالتوصل الى المعطيات الحقيقية. وأكثر من ذلك، فان معرفة الجمعية الأكثر تمثيلية للقضاة يدخل في صميم عمل وزارته.
ولعل طريقة اعفاء مدير التكوين بالمعهد العالي للقضاء محمد الأيوبي تثير كثيرا من التذمر في صفوف القضاة وأعادت الى الواجهة طريقة تعامل السلطة التنفيذية مع السلطة القضائية. فطريقة اعفاءه يجب أن تكون بالمكانة التي يستحقها كقاض متمرس وكفؤ أولا وكمدير للتكوين لسنوات داخل مؤسسة قضائية لها وزنها القضائي داخل المغرب وخارجه ثانيا, لذلك فيجب الاسراع بالحاق هذه المؤسسة الوطنية بالمجلس الأعلى للسلطة القضائية فور تشكيله لتكريس استقلاليتها عن السلطة التنفيذية.
لذلك كله، فان التنزيل الدستوري للسلطة التنفيذية الحالية في علاقتها بالسلطة القضائية لا يمكن أن يثير الا الاستغراب وذلك بمحاولة افراغ الوثيقة الدستورية التي صوت عليها الشعب المغربي من محتواها, ويشكل تغولا من جهتها على السلطة القضائية التي تحاول الحفاظ على هيبتها ووقارها وتحفظها وتجردها, وتكريس استقلاليتها التي منحها اياها الدستور مهما كانت العراقيل والصعوبات والنتائج, ونحن مستعدون لكل شيء داخل نادي قضاة المغرب لأننا نحمل أمانة ثقيلة أمام الوطن, لمواجهة كل من يريد أن يتغول أو يزايد على السلطة القضائية ويسلبها استقلالها, فهذه عقيدتنا داخل نادي قضاة المغرب دون الدخول في سجالات مع السلطة التنفيذية أو غيرها الا اذا اضطررنا الى ذلك, والتي لا تحسب عليها كلماتها مثلما تحسب على السلطة القضائية, لمكانة الأخيرة كصمام أمان لأي دولة في العالم, ومعيار تقدم الدول على مر التاريخ بعدلها وقوة قضائها, فالسلطة التنفيذية وسياستها في تغير دائم والسلطة القضائية في استقرار دائم, لكون الأخيرة هي من تعيد التوازنات ان اختلت ويطمئن لحكمها العادل مهما كان منطوقه. عضو المكتب الجهوي لنادي قضاة المغرب بمراكش
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.