صدرت أحكام في قضايا عديدة، عرضت على القضاء المصري بعد الثورة، بعضها أثار جدلاً بين السلطات في الدولة حول تسييس القضاء. كما أن بعض الأحكام الأخرى كان لها ردود أفعال على مستوى الثوار أو بين القانونيين، وأثارت نقاشاً لم يتوقف حتى تاريخه، بشأن دور القضاء وضوابط الممارسة القضائية.
أولا- الأحكام المتعلقة بالشأن السياسي:
نقصد بها الأحكام التي حاول القضاء عن طريقها الإسهام في تشكيل معالم الخريطة السياسية لمصر ما بعد ثورة 25 يناير 2011. هذه الأحكام دفعت بالقضاء إلى الانخراط في المعترك السياسي الثوري، باعتباره أحد صناع القرار السياسي. وذلك لأنها أحكام حلت محل قرارات كان من واجب السلطة السياسية التي تولت إدارة شؤون البلاد بعد الثورة اتخاذها، لكنها تخلت عن دورها، مفضلة أن يحل محلها القضاء الذي يتمتع بقدر كبير من الثقة والاحترام من كافة القوى السياسية، ومن المواطنين. وتحمل القضاء الإداري والدستوري العبء الأكبر في هذه المرحلة، وأصدر عدداً من الأحكام القضائية ذات الطابع السياسي. من هذه الأحكام نذكر:
أ- أحكام القضاء الإداري:
1- حكم محكمة القضاء الإداري عقب تخلى الرئيس الأسبق حسنى مبارك عن الحكم في 11 فبراير2011 ، بحل الحزب الوطني الديمقراطي، وهو الحزب الذي أفسد الحياة السياسية في مصر على مدى ثلاثين عاماً. فقد لجأ بعض السياسيين والصحفيين إلى القضاء الإداري بدعاوي تطالب بحل الحزب، باعتبار ذلك من المطالب الثورية للجماهير الغاضبة، والمطالبة بالقضاء على مؤسسات النظام الاستبدادي ورموزه بعد زواله.
2- حكم محكمة القضاء الإداري بحل المجالس الشعبية المحلية في جميع محافظات الجمهورية، وصدر في 30 يونيه 2011 . وقد كانت هذه المجالس يسيطر عليها الحزب الوطني، فكانت بؤرا للفساد والرشوة والمحسوبية عاني منها الشعب المصري، ولذلك كان القضاء عليها مطلباً ثورياً حققه القضاء الإداري، بعد أن تقاعست السلطة السياسية عن تحقيقه، وهو ما أكدته محكمة القضاء الإداري في حكمها.
3- حكم محكمة القضاء الإداري بإلزام الحكومة المصرية بتمكين المصريين المقيمين خارج مصر من التصويت في الانتخابات والاستفتاءات العامة، وصدر في 25 أكتوبر 2011 . وقد قرر هذا الحكم حقاً مشروعاً للمواطنين المصريين خارج وطنهم، تعترف به كافة الدول الديمقراطية الحديثة، وتجاهلته السلطة السياسية قبل ثورة 25 يناير 2011، وكان من الواجب أن تحققه السلطة التي تولت الإدارة السياسية للبلاد بعد الثورة، وهي المجلس الأعلى للقوات المسلحة، باعتباره قراراً سياسياً ثورياً يستند إلى الشرعية الثورية، التى كان ينبغى أن تحرك السلطة السياسية التي تدير المرحلة الثورية. لكن القضاء الإداري حل محل السلطة السياسية، فألزمها بتحقيق ما عجزت عن القيام به من تلقاء نفسها.
4- حكم محكمة القضاء الإداري الصادر في 10 ابريل 2012، الذي قضى بإلغاء قرار مجلس الشعب بتشكيل الجمعية التأسيسية الأولى لصياغة دستور البلاد. وقد اعتبر الإسلاميون هذا الحكم تدخلاً من القضاء في أعمال السلطة التشريعية، باعتبار قرار التشكيل من الأعمال التشريعية وليس الإدارية. وحيث أن التيار الإسلامي كان يسيطر على نسبة تقارب السبعين في المائة من مقاعد مجلس الشعب، فقد كانت أغلبية أعضاء الجمعية التأسيسية الأولى التي ألغيت من الإسلاميين أو المقربين منهم، ولذلك وصف هذا الحكم بأنه صفعة قضائية للتيار الإسلامي، وسارع أنصار هذا التيار بالطعن عليه أمام المحكمة الإدارية العليا التي رفضت الطعن، فتأكد حل الجمعية التأسيسية([1]).
ب- أحكام القضاء الدستوري:
كان القضاء الدستوري قبل ثورة 25 يناير 2011 مساهماً في رسم معالم المشهد السياسي المصري، لاسيما فيما يتعلق بالإشراف القضائي على الانتخابات. وبعد ثورة 25 يناير 2011 تدخل القضاء الدستوري فى الشأن السياسى، قبل تولى الرئيس محمد مرسي وبعد توليه، ولا ينكر إلا مكابر الدور الهام الذي لعبته المحكمة الدستورية العليا في التعجيل بإنهاء حكم الرئيس السابق محمد مرسي، عن طريق أحكامها المتعلقة بمؤسسات الدولة الدستورية والقوانين الصادرة خلال المرحلة الانتقالية.
1- فقبل تولى الرئيس محمد مرسي شؤون البلاد، وفي 21 فبراير 2012، أحالت محكمة القضاء الإداري إلى المحكمة الدستورية العليا قانون مجلس الشعب للفصل في دستوريته، بسبب منافسة مرشحي الأحزاب لمرشحي الفردي في المقاعد المخصصة لهم في حدود الثلث. وبتاريخ 14 يونيه 2012، وقبل يومين فقط من جولة الإعادة في الانتخابات الرئاسية، قضت المحكمة الدستورية العليا بعدم دستورية قانون مجلس الشعب، لمخالفته مبدأ المساواة وتكافؤ الفرص بين مرشحي القوائم الحزبية ومرشحي المقاعد الفردية، حيث يستطيع أعضاء الأحزاب السياسية الترشح على قوائم الأحزاب ومقاعد المستقلين، بينما لا يجوز للأخيرين إلا الترشح على المقاعد الفردية، التي ينافسهم فيها مرشحو القوائم الحزبية. ولم يكن هذا القضاء مستحدثاً، فقد سبق للمحكمة الدستورية العليا أن قضت بعدم دستورية قوانين انتخابية مماثلة وللأسباب ذاتها في السنوات 1987، 1990.
وعلى الرغم من وضوح حكم المحكمة الدستورية العليا، فقد انقسمت القوى السياسية حول كيفية تطبيقه، وطالب الإخوان المسلمون ومؤيدوهم من أنصار تيار الإسلامي السياسي، الذين كانوا يمثلون نسبة 70% من عضوية مجلس الشعب، بضرورة إجراء استفتاء حول مسألة حل المجلس، لأن المجلس انتخبه الشعب. لكن المجلس الأعلى للقوات المسلحة أصدر مرسوماً بحل مجلس الشعب دون إجراء استفتاء شعبي.
2- وبعد انتخاب محمد مرسي رئيساً للبلاد وتسلمه مقاليد الحكم، أصدر قراراً في 9 يولية2012 بإلغاء المرسوم الصادر عن المجلس الأعلى للقوات المسلحة بحل مجلس الشعب، ودعا المجلس للاجتماع وممارسة نشاطه، وهو ما ترتب عليه عودة المجلس بالمخالفة لحكم المحكمة الدستورية العليا. لذلك انعقدت الجمعية العمومية للمحكمة في اجتماع طارئ، لتنتهي إلى أن قرار الرئيس محمد مرسي بإعادة مجلس الشعب يشكل عقبة مادية في طريق تنفيذ حكمها، ويجب وقف تنفيذه. كما أقيمت دعاوى أمام القضاء الإداري مطالبة بإلغاء قرار مرسي بإعادة المجلس.
أما مجلس الشعب فقد اجتمع يوم 10 يولية 2012، وقرر رئيسه إحالة الموضوع إلى محكمة النقض، لكي تفصل في صحة العضوية طبقاً للمادة 40 من الإعلان الدستوري الصادر في 30 مارس 2011، لكن المحكمة لم تتأخر في إعلان عدم اختصاصها بالموضوع. وأكد القضاء الإداري في 17 يولية 2012 أن قرار مرسي، الذي أعاد مجلس الشعب بعد حله، يشكل "عقبة مادية" في طريق تنفيذ حكم المحكمة الدستورية العليا تختص بالفصل فيها هذه المحكمة طبقاً لقانونها، وهو ما قامت به المحكمة فعلاً. وكان هذا الحكم وتوابعه بداية الصدام بين المحكمة الدستورية العليا وتيار الإسلام السياسي بزعامة الإخوان المسلمين، وقد كان التيار الأكثر تمثيلاً في البرلمان المنحل([2]).
3- قبل حكم مجلس الشعب، الذي وصف بالزلزال السياسي الأعنف في الحياة السياسية المصرية بعد ثورة 25 يناير 2011، كانت المحكمة الدستورية العليا قد أصدرت أحكاماً تتعلق بالانتخابات الرئاسية. من ذلك حكمها المتعلق بالعزل السياسي لرموز نظام مبارك بعد إعلان اللواء عمر سليمان نائب رئيس الجمهورية في عهد مبارك في 6 أبريل 2012 ترشحه لرئاسة الجمهورية، حيث أصدر مجلس الشعب على عجل في 12 أبريل 2012 قانوناً لتعديل قانون مباشرة الحقوق السياسية لسنة 1956، بغرض حرمان كل شخص شغل وظيفة رئيس جمهورية أو نائب رئيس أو رئيس وزراء أو تولى منصباً قيادياً في الحزب الوطني الديمقراطي خلال العشر سنوات السابقة على 11 فبراير 2011، من مباشرة حقوقه السياسية لمدة عشر سنوات. فقد طبقت لجنة الانتخابات الرئاسية التشريع الجديد على الفريق أحمد شفيق، آخر رئيس وزراء في عهد مبارك، معلنة عدم قبول ترشحه للرئاسة، وهو ما دفعه إلى التظلم من قرار اللجنة، التي أحالت تعديلات قانون مباشرة الحقوق السياسية إلى المحكمة الدستورية العليا للفصل في دستوريتها.
وقبل الجولة الثانية للانتخابات الرئاسية، قضت المحكمة الدستورية العليا في يونيه 2012 بعدم دستورية قانون العزل السياسي، لأنه يوقع عقوبة بأثر رجعي، ويقيم قرينة قانونية على الإدانة، والعقوبات لا توقع إلا بحكم قضائي، ويوقع عقوبة على أساس الوظائف التي كان يشغلها الأشخاص وليس الأفعال المرتكبة، ويخرق مبدأ المساواة أمام القانون بوصم بعض الوظائف بصفة تحكمية. وقد هوجم هذا الحكم هجوماً عنيفاً من معارضي المرشح أحمد شفيق، وفي مقدمتهم الإخوان المسلمون والسلفيون، الذين اتهموا المحكمة بأنها تنحاز إلى مرشح القوات المسلحة.
4- بتاريخ 3 يونيه 2013 أصدرت المحكمة الدستورية العليا حكمها بعدم دستورية ما نصت عليه المادة الثالثة من قانون الطوارئ، فقرة أولى، من جواز اتخاذ تدابير مقيدة لحرية الأفراد من تفتيش وقبض أثناء حالة الطوارئ، دون التقيد بقواعد قانون الإجراءات الجنائية. وكان هذا الحكم من الأحكام الهامة التي ظلت حبيسة أدراج المحكمة الدستورية العليا لمدة عشرين عاماً، ثم قدرت المحكمة ملاءمة إصدارها قبل ثورة الشعب في 30 يونيه 2013، تحسباً لقيام نظام الحكم الإخواني بفرض حالة الطوارئ في البلاد لمواجهة ثوار 30 يونيه، وهي ملاءمة سياسية لم تقدر المحكمة تحقق موجباتها في ظل حالة طوارئ عاشها الشعب المصري لثلاثين عاماً متصلة دون انقطاع.
ثانيا- الأحكام الجنائية:
تحمل القضاء الجنائي عبء المحاكمات الجنائية عقب ثورة 25 يناير، دون أن دون أن يكون مستعداً لها. وجرت المحاكمات الجنائية وفقاً للآليات القضائية العادية، لأن الثورة المصرية لم تقر حتى اليوم قانوناً للعدالة الانتقالية، على الرغم من مطالبة الثوار والقوى السياسية بهذا القانون، وعلى الرغم من إنشاء وزارة للعدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية لا نعرف لها نشاطاً منذ إنشائها([3]). وكانت بعض الأحكام الجنائية محل انتقاد – بعضه غير مبرر – من الرأي العام وبعض قوى الإسلام السياسي. لكنها لم تواجه بمعارضة داخل الهيئة القضائية.
والمحاكمات الجنائية لرموز نظام ما قبل 25 يناير 2011 ظلت مستمرة أثناء فترة حكم الإخوان المسلمين وحتى يومنا الراهن، بعد نقض الأحكام الصادرة فيها وإعادة محاكمة المتهمين. لذلك لا نستطيع تصنيف الأحكام حسب المرحلة الثورية، وإن كانت الأحكام الصادرة منذ ثورة يونيه 2013 تستوجب النظر إليها على استقلال.
أ – الأحكام الجنائية السابقة على ثورة 30 يونيه:
1- الحكم في قضية الرئيس الأسبق مبارك ووزير داخليته وبعض معاونيه، في قضية قتل المتظاهرين أثناء ثورة 25 يناير 2011. وقد صدر هذا الحكم من محكمة جنايات القاهرة بتاريخ 2 يونيه 2012، مقرراً معاقبة الرئيس الأسبق بالسجن المؤبد عما أسند إليه من اتهام بالاشتراك في جرائم قتل المتظاهرين المقترن بجنايات الشروع في قتل آخرين، ومعاقبة وزير داخلية مبارك بالسجن المؤبد عن التهم ذاتها، وبراءة مساعدي وزير الداخلية الستة مما أسند إلى كل منهم من اتهامات. كما قضى الحكم ببراءة الرئيس الأسبق من بعض التهم المتعلقة بالفساد، وانقضاء الدعوى الجنائية بمضي المدة في جرائم استغلال نفوذ وفساد مالي اتهم فيها الرئيس الأسبق ونجليه وحسين سالم أحد رجال الأعمال، وأخيراً إحالة الدعوى المدنية للمحكمة المدنية المختصة. والجدير بالذكر أن رئيس المحكمة، قبل أن ينطق بحكمه في القضية التي أطلق عليها "محاكمة القرن"، قرأ على الحاضرين وعلى المشاهدين عبر الفضائيات، خطبة سياسية عن مساوئ النظام السابق وفساده، وهو تصرف غير مألوف في الأحكام الجنائية، لاسيما في ظل قانون للسلطة القضائية يحظر على المحاكم إبداء الآراء السياسية.
وأثار هذا الحكم ردود أفعال متباينة من رجال القانون وبعض رجال القضاء وأعضاء البرلمان ومنظمات حقوق الإنسان. وكانت ردود الفعل في غالبيتها انفعالية غير متعقلة، تراوحت بين التهجم على القضاء والمطالبة بإصلاحه وتطهيره، أو المطالبة بإصدار قانون السلطة القضائية لضمان استقلال القضاء، أو الدعوة إلى إقرار نظام للعدالة الانتقالية لمحاسبة رموز نظام حكم مبارك، أو الرفض لتجريح أحكام القضاء والتعليق عليها في وسائل الإعلام. وفي داخل المؤسسة القضائية، رفضت غالبية القضاة تجريح الحكم أو التعليق عليه، في حين جاهر بعض القضاة برفضهم للحكم وعلقوا عليه في وسائل الإعلام. وقد طعن على هذا الحكم بالنقض، وقبل الطعن وألغى الحكم، وأحيلت الدعوى إلى دائرة أخرى بمحكمة جنايات القاهرة، ولا تزال المحاكمة الجديدة مستمرة حتى تاريخ كتابة هذه السطور.
2- الحكم في القضية المعروفة إعلامياً "بموقعة الجمل". بدأت جلسات المحاكمة في هذه القضية في 11 سبتمبر 2011، لمحاكمة 24 متهماً من رجال الأعمال وأعضاء البرلمان السابق على ثورة يناير وقيادات في الحزب الوطني المنحل، بتهم قتل المتظاهرين والشروع في قتلهم بقصد الإرهاب وإحداث عاهات مستديمة بهم التعدى عليه بالضرب بقصد الإرهاب في يومي 2، 3 فبراير 2011 أثناء الثورة.
وبعد نظر القضية، قضت محكمة جنايات القاهرة ببراءة جميع المتهمين من التهم المنسوبة إليهم، وبانقضاء الدعوى الجنائية ضد أحدهم لوفاته. وفور صدور الحكم انطلقت المظاهرات المنددة بالنائب العام والمطالبة بتطهير القضاء. وقرر محامي الإخوان المسلمين أن الحكم ببراءة المتهمين في موقعة الجمل "صادم"، وصرح الناطق باسم حزب المصريين الأحرار بأن حكم موقعة الجمل استكمال لمسلسل البراءة للجميع. والحق أن انتقاد النائب العام بسبب هذا الحكم لم يكن له محل، حتى لو كانت التحقيقات غير المكتملة فيها هي سبب البراءة، لأن هذه القضية لم تحققها النيابة العامة، وإنما جرى تحقيقها بمعرفة قضاة تحقيق هم الذين أعدوا أمر الإحالة. وقد طعنت النيابة العامة في حكم البراءة، وأعيدت محاكمة المتهمين وقضى ببراءتهم من الدائرة الجديدة التي نظرت القضية.
3- أحكام البراءة لضباط الشرطة في جرائم قتل المتظاهرين. وقد صدر بعضها ببراءة ضباط شرطة، اتهموا بقتل المتظاهرين أثناء الثورة في عدد من محافظات مصر، ولا تزال بعض المحاكمات مستمرة لغيرهم من رجال الشرطة بعد نقض الأحكام الصادرة بالبراءة أو بالإدانة. وقد قوبلت أحكام البراءة النهائية بانتقادات شديدة، لاسيما من أنصار التيار الإسلامي، والقوى الثورية التي تؤكد دونما دليل أن رجال الشرطة هم من قتل المتظاهرين أثناء الثورة.
ولا شك أن القضاة الذين عرضت عليهم هذه القضايا واجهوا صعوبات عديدة في الإثبات، لعدم وجود الأدلة التي تصلح سنداً لإدانة المتهمين، ومن المقرر أن الإدانة لا تبنى إلا على الجزم واليقين، وإلا تكون البراءة هي السبيل الوحيد أمام القاضي الذي يتشكك في الأدلة.
وعلى كل حال فقد أثارت هذه الأحكام نقاشاً بشأن دور القضاء العادي في المرحلة الثورية، ومدى الحاجة إلى نظام للعدالة الانتقالية لتولى أمر هذه المحاكمات. لكنني أرى أن أي نظام للمحاكمة المنصفة العادلة في المسائل الجنائية لن يكون بإمكانه إدانة متهمين بجرائم قتل الثوار من رجال الشرطة أو من غيرهم دون الاستناد إلى أدلة قطعية لا يتطرق إليها أدنى شك. لذلك فانتقاد أحكام القضاء الجنائي من الرأي العام أو من القوى السياسية أو الإعلاميين أو نشطاء حقوق الإنسان تصرف غير مقبول من القضاة، لأن الطريق الذي رسمه القانون لمهاجمة الحكم القضائي هو الطعن عليه، وليس تناول الحكم بالتجريح وإهانة القضاة وتهديدهم بسبب ما يصدرونه من أحكام، فتلك سلوكيات يعاقب عليها القانون. لكن توجد أحكام تثير الرأى العام، لاسيما تلك التى تنطوى على أخطاء قضائية ظاهرة للعيان، وتعدلها أحيانا جهات الطعن. لكن القضاة لايستسيغون فكرة تناول أحكامهم بالتعليق عليها وكأنهم معصومون من الخطأ الذى هو من طبائع البشر. وفي هذا الخصوص، قررت هيئة التحقيق المنتدبة من محكمة استئناف القاهرة يوم 19/1/2014 إحالة الرئيس السابق محمد مرسي و 24 آخرين من المحامين والصحفيين والإعلاميين، وأساتذة جامعيين ونواب سابقين وناشطين سياسيين، إلى محكمة جنايات القاهرة لاتهامهم بإهانة السلطة القضائية والإساءة إلى رجالها والتطاول عليهم. وكان بعضهم قد تناول أحكاماً قضائية جنائية أو دستورية أو إدارية بالنقد تحت قبة البرلمان أو في وسائل الإعلام.
والحقيقة أن هناك تفرقة واجبة فى هذا الخصوص بين النقد القائم على أساس عدم الرضاء بالنتيجة التى انتهى إليها الحكم، وهو محظور، والنقد الذى تثيره بعض الأحكام التى تصدر من دون دراسة كافية لوقائع الدعوى وملابساتها، أو تلك التى تنطوى على أخطاء قضائية فادحة، وهو ما لا يجب النظر إليه باعتباره إهانة للقضاء، طالما لم يتناول شخص القاضى الذى أصدر الحكم بالتجريح تصريحا أو تلميحا. فمن شأن هذا النوع الثانى من النقد البناء أن يدفع القضاة إلى بذل المزيد من الجهد لتخرج أحكامهم بمنأى عن أى ملاحظة. وفى الدول الديمقراطية لا يجد القضاة حرجا فى التعليق على ما يصدرونه من أحكام فى وقائع يهتم بها الرأى العام، باعتبار ذلك يمثل نوعا من الرقابة الشعبية على ممارسة الوظيفة القضائية، فضلا عما يمثله ذلك من احترام لحرية التعبير.
4- الحكم في قضية التمويل الأجنبي لمنظمات المجتمع المدني. صدر هذا الحكم من محكمة جنايات القاهرة بتاريخ 4 يونيه 2013، وفيه عاقبت المحكمة 43 متهماً بأحكام تتفاوت بين السجن لمدة خمس سنوات والحبس لمدة عام مع إيقاف التنفيذ بتهم تأسيس وإدارة فروع لمنظمات أجنبية داخل مصر من غير ترخيص، وتمويل أشخاص غير مرخص لهم بالعمل الميداني والأهلي. وقد احتوى هذا الحكم على إشارات سياسية لا معنى لها وغير منتجة في الحكم الجنائي، فضلاً عن كونها كلاماً مرسلاً يدخل في باب الافتراضات، والأحكام الجنائية لا تؤسس على افتراضات، بل على حقائق ووقائع ثابتة([4]).
5- أحكام في قضايا الفساد المالي. جرت محاكمات جنائية لبعض رموز النظام السابق من وزراء ورجال أعمال، ولا تزال المحاكمات مستمرة بسبب الطعن في أحكام البراءة أو الإدانة وإعادة المحاكمة أمام دوائر أخرى. من هذه القضايا قضية استيلاء أحمد عز القيادي السابق بالحزب الوطني على أسهم كبرى شركات الحديد في مصر، وقضية التلاعب بالبورصة المتهم فيها نجلي الرئيس الأسبق وبعض رجال الأعمال، وقضية تصدير الغاز لإسرائيل المتهم فيها وزير البترول الأسبق وبعض قيادات الوزارة ورجل الأعمال الهارب حسين سالم.
ب- المحاكمات الجنائية منذ ثورة 30 يونيه:
بعد ثورة 30 يونيه 2013، تحمل القضاء المصري أعباء جديدة، تتمثل في محاكمات رموز النظام الذي حكم مصر لمدة عام واحد وهو نظام حكم الإخوان، بالإضافة إلى جرائم العنف والإرهاب التي لم تتوقف منذ ثورة 30 يونيه، بل زادت حدتها واتسع نطاقها ليشمل محافظات عدة، وطال الجامعات، وسقط فيها عشرات القتلى والمصابين، ودمرت المنشآت والممتلكات العامة والخاصة. من هذه المحاكمات:
1- محاكمة الرئيس السابق محمد مرسي ومعاونيه عن جرائم قتل وإصابة المتظاهرين أمام قصر الاتحادية في ديسمبر 2012، ولم تعقد منها إلا الجلسة الأولى، وتعذر إحضار المتهمين فيها لحضور الجلسة الثانية بسبب سوء الأحوال الجوية، كما أعلن رسمياً.
2- قضية الهروب من سجن وادي النطرون أثناء ثورة 25 يناير، المتهم فيها الرئيس السابق وعدد 131 من قيادات الإخوان المسلمين. وبدأت الإجراءات في هذه القضية بعد حكم محكمة جنح مستأنف الإسماعيلية في 23 يونيه 2013، حيث ناشد الحكم النيابة العامة باتخاذ الإجراءات ضد المتهمين في هذه القضية. لكن نظراً لصدور الحكم في عهد الرئيس السابق محمد مرسي، لم تحرك النيابة العامة وقتها ساكناً. وبعد عزل محمد مرسي، بدأت النيابة العامة التحقيق في واقعة الهروب وأحالت المتهمين إلى محكمة الجنايات، التى سوف تبدأ أولى جلسات هذه المحاكمة نهاية يناير 2014 .
3- الحكم في قضية طالبات الإسكندرية المعروفة إعلامياً "بفتيات 7 الصبح"([5]). في هذه القضية أحال النائب العام 21 فتاة من المنتميات إلى جماعة الإخوان إلى محكمة جنح سيدي جابر، بتهم الانضمام إلى جماعة إرهابية، التجمهر، وإتلاف المحال والعقارات، وحيازة أسلحة، واستخدام القوة. وفي سرعة غير معهودة، جرت المحاكمة وصدر الحكم ضد 14 منهن بالحبس إحدى عشرة سنة وشهراً لكل واحدة، وبإيداع 7 قاصرات إحدى دور الرعاية الاجتماعية تطبيقاً لقانون الطفل. وقد سبب الحكم جدلاً قانونياً واسعاً، وأثار الرأي العام الذي لم يتقبل هذه الأحكام الشديدة في حق طالبات جرى العرف القضائي على استعمال موجبات الرأفة معهن، بالنظر إلى صغر سنهن، وقلة خبرتهن بأمور الحياة، وكونهن غير عائدات، وحفاظاً على مستقبلهن. كما صار الحكم مادة إعلامية لوكالات الأنباء العالمية، ومثاراً لتعليقات من منظمات حقوقية مصرية وأجنبية. ووصف المستشار أحمد مكي وزير العدل السابق الحكم بأنه كان "صادما" وذات مغزى سياسي. وكان الحكم مناسبة لتدخل السلطة السياسية في الشأن القضائي على نحو غير معهود، ويشير إلى نقص الخبرة السياسية وافتقاد بعض السياسيين للقدرة على تقدير ملاءمة إصدار تصريحات في أمور وأوقات يكون فيها الصمت أفضل من الكلام. ففي يوم 29 نوفمبر 2013، أي بعد صدور الحكم بخمسة أيام، صرحت مستشارة رئيس الجمهورية لشؤون المرأة بأن الرئيس سيصدر عفواً شاملاً عن فتيات الإسكندرية فور انتهاء إجراءات التقاضي وصدور حكم بات.
وقد هدأت العاصفة التي سببها حكم محكمة جنح سيدي جابر، بعد أن أصدرت محكمة جنح مستأنف سيدي جابر حكمها في الطعن على حكم أول درجة، الذي قضى بقبول الاستئناف شكلا، وفي الموضوع بتعديل الحكم المستأنف، والاكتفاء بحبس كل متهمة سنة مع الشغل ومصادرة المضبوطات وأمرت بإيقاف تنفيذ الحبس، بينما ألغت الحكم المستأنف في تهمة البلطجة وقضت بالبراءة منها([6]). وقال قاضي الاستئناف في منطوق حكمه إن المحكمة تود أن ترسل رسالة للقاصي والداني بأن القضاء المصري كان وسيظل دائماً بعيداً عن الأهواء، ولا يخشى في الحق لومة لائم، ولا يدور في حساباته إلا يوم الحساب الأكبر، الذي تتساوى فيه كل الرؤوس. وقد خلق حكم الاستئناف حالة من الارتياح بين المواطنين والقانونيين والنشطاء السياسيين والحقوقيين.
لكن هذا الحكم أثار التساؤل بشأن دور القضاء في المرحلة الثورية، ومدى تأثره بالشرعية الثورية. فالفرض أن القاضي يصدر حكمه وفقاً للشرعية القانونية، مغلباً اعتبارات العدالة والتطبيق الصحيح لنصوص القانون. ولا يجوز أن يصدر القاضي حكماً يستهدف فرض الأمن وتحقيق الردع العام، ولو كان ثمن ذلك التضحية باعتبارات العدالة. ولعل قاضي محكمة أول درجة قد أراد في ظل حالة الانفلات الأمني أن يكون حكمه شديداً تحقيقاً للردع العام والخاص في ظل ما تشهده البلاد من مظاهر عنف وخروج على القانون.
ويندرج في هذا الإطار الأحكام الصادرة، قبل حكم "فتيات الإسكندرية"، بحبس 12 من طلاب جامعة الأزهر المنتمين للإخوان المسلمين سبعة عشر عاماً، لاتهامهم بارتكاب أعمال عنف واعتداء على الممتلكات الخاصة والعامة في حرم جامعة الأزهر وخارجه ومحاولتهم اقتحام مشيخة الأزهر، والتعدي على موظفي أمن المشيخة والبلطجة والتجمهر. وقضت محكمة جنح الجمالية كذلك بكفالة 65 ألف جنيه لكل منهم، وكان ذلك يوم 14 نوفمبر 2013، وقد وصف حزب مصر القوية الحكم بأنه "أمر في غاية القسوة".
كما قضت محكمة جنح مدينة نصر في شهر نوفمبر 2013 بحبس أربعين طالباً بجامعة الأزهر من أنصار جماعة الأخوان سنة مع النفاذ بتهمة التعدي على موظفين عموميين أثناء تأدية عملهم وستة أشهر عن تهم التجمهر، والبراءة من تهمة إتلاف جامعة الأزهر، لاتهامهم في الأحداث التي وقعت بالقرب من النصب التذكاري بمدينة نصر وجامعة الأزهر في شهر أكتوبر 2013.
4- في يوم 6 ديسمبر 2013، أصدرت محكمة جنايات الجيزة حكماً ببراءة 155 من أنصار جماعة الإخوان، مما نسب إليهم من ارتكاب أعمال عنف أثناء الاحتفال بالذكري الأربعين لانتصارات أكتوبر 1973. وفي يوم 7 ديسمبر 2013 تنحت محكمة شمال القاهرة عن نظر قضية اختطاف وتعذيب ضابط ومندوب شرطة من قسم شرطة مصر الجديدة داخل مقر اعتصام رابعة، والمتهم فيها اثنين من قيادات جماعة الإخوان وطبيبين بالمستشفى الميداني بمقر الاعتصام. فبعد الجلسة الأولى قررت المحكمة التنحي عن نظر القضية لاستشعار الحرج، وأحالت ملفها إلى محكمة الاستئناف لتحديد دائرة أخرى لنظرها.
خاتمـــــــة
وضع خاتمة لهذا الموضوع هو أمر سابق لأوانه، فلا زالت الأحداث السياسية والقضائية تتوالى. ودور القضاء المصري في المرحلة الثورية لا يزال مستمراً، لأن المرحلة لم تنته بعد، والأحداث لا تزال تترى. وبعد الاستفتاء على الدستور، يكون على السلطة القضائية أن تنشغل بتعديل قوانينها، بغرض اتخاذ خطوات حقيقية نحو إصلاح شؤونها، ومواجهة التحديات التي تواجه القضاء المصري.
قد يكون من الملائم أيضاً التفكير في وسائل إبعاد القضاء عن الشأن السياسي، الذى يجب أن ينفرد به أهل السياسة، تاركين القضاة لمهمتهم السامية وهى تحقيق العدالة. وقد صرح رئيس نادي القضاة مؤخراً أنه يتمنى اليوم الذي تنهض فيه الهيئة الوطنية للانتخابات التي نص عليها الدستور الجديد في المادة 208 بمهمتها في إدارة العملية الانتخابية، حتى يتفرغ القضاة لعملهم القضائي، وهو ما نؤيده تماماً. فقد تحمل القضاة بسبب الإشراف على الانتخابات والاستفتاءات انتقادات شديدة كانوا في غنى عنها. والإشراف القضائي على الانتخابات بدعة مصرية، لجأ إليها النظام السابق على ثورة يناير، وكانت في حقيقتها تهدف إلى إساءة استغلال ثقة المصريين في قضاتهم، لتمرير نتائج الانتخابات وضمان شرعية زائفة لها.
يجب أيضاً أن تتجنب القيادات القضائية التعبير عن مواقف سياسية معارضة لفريق أو مدعمة لفريق آخر، حتى لا تنشأ تيارات سياسية داخل القضاء، ويجد بعض القضاة حرجاً في الفصل في قضايا بعينها. فقد زادت في الأيام الأخيرة حالات التنحي عن نظر قضايا تتعلق باتهامات موجهة لقيادات إخوانية بسبب استشعار الحرج. فرغم زوال حكم الإخوان، لا يزال رئيس نادي القضاة يوجه انتقادات لهم، وبعبارات يجب أن يترفع عنها القاضي، لأنها توحي "بالشماتة"، والسخرية، مثل القول بأن القضاء عاد ليتنفس هواء نقياً بعد أن زال حكم الإخوان، أو أن القضاء كان يناضل في عهد مرسي من أجل هدف معين هو جلاء الاحتلال الإخواني، وأن المعركة مع الإخوان لم تنته وإن خفت حدتها، وهناك أحزاب حتى الآن تدعم إرهاب الإخوان. هذه التأكيدات التي تصدر من قيادة قضائية كبيرة منتخبة تعبر عن القضاة من شأنها أن تجعل القضاء طرفاً في صراع سياسي، تقتضي الحيدة أن يكون بعيداً عنه.
على القضاء أن يوظف النصوص الواردة في باب السلطة القضائية في الدستور الجديد لتأكيد مفهوم استقلال القضاء بالمعنى الفني للاستقلال المؤسسي والفردي، وليس الاستقلال عن الدولة الذي يعنى أن السلطة القضائية فوق الدولة لا تخضع للمحاسبة أو المساءلة. ويقتضي ذلك أن يثبت القضاء أنه سلطة من سلطات الدولة تستمد شرعيتها من الدستور والقانون، وتلتزم بنصوص الدستور والقانون. لكن رفض الالتزام بنصوص دستورية أو قانونية، تحت غطاء استقلال السلطة القضائية، معناه أنه استقلال عن الدولة ومؤسساتها. فالاستقلال لا يعني الاستبداد الذي يتحقق برفض سلطة من سلطات الدولة الالتزام بالدستور أو القانون. والاستبداد ليس مقصوراً على السلطة التنفيذية وحدها، بل هو قرين السلطة المطلقة التي لا تخضع للمحاسبة أو المساءلة وفقاً للدستور والقانون. فماذا يكون الحل لو استبدت السلطة القضائية بغيرها من سلطات الدولة أو بالمواطنين، وفسرت الاستقلال على أنه الحرية المطلقة التي لا تتقيد بالدستور أو القانون؟
ما العمل إذا رفضت جهة قضائية مستقلة تطبيق نص دستوري قطعي الثبوت والدلالة، مثل نص المادة 11 من دستور 2014، الذي يلزم الدولة بكفالة حق المرأة في تولى الوظائف العامة… والتعيين في الجهات والهيئات القضائية، دون تميز ضدها. فإذا رفضت جهة قضائية، استمدت استقلالها من الدستور، تعيين المرأة تذرعاً باستقلالها وحريتها في اختيار من يشغل وظائفها، فهل يكون الاستقلال مفهوماً في معناه الحقيقي ويكون هو ذاته الاستقلال الذي يعنيه الدستور؟
هل يمكن أن يبرر الاستقلال عدم تطبيق نصوص قانونية، تطمئن الشعب إلى أن قضاته يخضعون مثل باقي المواطنين للقانون، ولا يجدون غضاضة في تفعيل الرقابة التي يقررها القانون للتأكد من سلامة الموقف المالي للمؤسسات أو الأفراد، ودرء الشبهات وسوء الظن، ودعم ثقة المواطنين في المؤسسة القضائية وأعضائها. إن من شأن سريان القانون على من مهمتهم تطبيق القانون، أن يدعم استقلال القضاء ويرفع القضاة فوق الشبهات. ماذا يضير القضاة أن يراقب الجهاز المركزي للمحاسبات ميزانية ناديهم، ليعلن للناس كافة أن ميزانية النادي هي النموذج الذي يجب أن تقتدي به ميزانيات كل مؤسسات الدولة، فيكون القضاة كعادتهم مثلا أعلى وقدوة حسنة. وماذا يضير القاضي الذي يقدم إقراراً بعناصر ذمته المالية عند التحاقه بالقضاء، ثم إقرارات دورية، أن تكون هذه الإقرارات محل فحص وتمحيص وتدقيق أكبر مما يخضع له غيرهم من موظفي الدولة؟ إن تمسك القاضي بعدم جواز فحص إقرار ذمته المالية وعدم خضوعه لقانون الكسب غير المشروع، إذا تضخمت ثروته دون سبب مشروع، من شأنه أن يثير الشكوك حول القضاة. ومما لا شك فيه أن الادعاء بعدم خضوع القضاة وأعضاء الجهات والهيئات القضائية جميعاً لقانون الكسب غير المشروع يضعف ثقة الناس في السلطة القضائية، ويفتح الباب أمام تأويلات نربأ بالقضاة أن يكونوا موضوعاً لها. ولا يجوز بحال التذرع باستقلال السلطة القضائية لإخراج القضاة من دائرة تطبيق القانون، فهم أولى الناس بالتمسك بتطبيق القانون عليهم قبل غيرهم.
إصلاح القضاء ليس بالمهمة اليسيرة، وأولى خطوات الإصلاح هي تحديد مدلول الإصلاح وهدفه ومراحله، فهو لن يتحقق دفعة واحدة. لكن الإصلاح يحتاج إلى إرادة للبدء فيه، ولتحمل تبعاته وقبول تضحياته، فلكل إصلاح ثمن، يبدو ضئيلا إذا ما قورن بعوائد الإصلاح على السلطة القضائية ذاتها ثم على الدولة والمواطنين.
([1])
هذه الأحكام المتعلقة بالاستحقاقات الانتخابية لمصر بعد ثورة يناير 2011، نظر إليها أنصار الإخوان المسلمين على أنها معادية لسلطتهم الجديدة، وتسببت في اتهام القضاة بأنهم يتعاونون مع الجيش وفلول النظام السابق، ويمارسون السياسة، أو يعاونون القوى السياسية المناوئة لنظام حكم الإخوان، وكانت ذريعة لنظام حكم الإخوان لاتخاذ إجراءات انتقامية ضد السلطة القضائية.
([2])
فرئيس الجمهورية المنتخب اتهم المحكمة بأنها تتآمر على الشعب المصري، وتسعى لتقويض مؤسساته وتعطيل مسيرته نحو الديمقراطية، وأنها تسرب أحكامها قبل صدورها. كما اتهم مساعد رئيس الجمهورية للعلاقات الخارجية المحكمة الدستورية في بيان صحفي عالمي بأنها من القوى المعادية للثورة. وفي يوم 21/12/2012 حذرت الجماعة الإسلامية المحكمة من إصدار أي أحكام من شأنها تعطيل مسيرة الوطن، خصوصاً الحكم بإلغاء نتيجة الاستفتاء على دستور 2012. وكان الصدام بين المحكمة الدستورية العليا وتيار الإسلام السياسي مقدمة، استغلها تيار الإسلام السياسى لتقليص دور المحكمة في الرقابة اللاحقة على دستورية قوانين الانتخابات الرئاسية والتشريعية والمحلية، ولتخفيض عدد أعضائها، وعزل بعض قضاتها.
([3])
ترتب على ذلك تحمل القضاء العادي عبء محاكمات جنائية غير عادية وفي ظروف غير ملائمة، تمثلت في الاعتداء على المحاكم وانتقاد للقضاة، بل وتهديدات لهم في ظل قصور أمنى لافت في تأمين دور العدالة. وكان هذا مصدراً من مصادر الأزمات التي تعيشها مصر على امتداد الفترة الانتقالية التي لم تنته حتى الآن. فالمشاكل الحديثة يتم علاجها وفقاً لآليات قديمة، ومؤسسات تحتاج إلى إصلاح هيكلي، كي تكون قادرة على مواجهة المستجدات الثورية وتحديات المستقبل المنتظر بعد استقرار الأوضاع.
([4])
راجع في التعليق على هذا الحكم، المفكرة القانونية، مقال منشور في 26 سبتمبر 2013 على الموقع الالكتروني.
([5])
إطلاق تعبير "7 الصبح" يشير إلى الساعة التي تسبق دخول التلاميذ المدارس في الثامنة صباحاً.
([6])
صدر حكم محكمة الجنح المستأنفة في يوم 7 ديسمبر 2013. وكان حكم محكمة الجنح المطعون عليه قد صدر يوم 24 نوفمبر 2013، وهو ما يشير إلى أن الجدل الذي أثاره هذا الحكم على المستوى القانوني والشعبي والعالمي عجل بتحديد جلسة لنظر الاستئناف ضد الحكم.