بعد الحكم الصادر منذ أيام قليلة من محكمة جنايات مصرية باحالة أوراق 529 شخص الى فضيلة المفتي، طرح الكثيرون في الوطن العربي أسئلة عن مدى استقلال القضاء المصري عن السلطة السياسية، والتطورات التي حدثت بخصوصه خلال فترة الثورة، وكذلك مدى انحيازه الى المطالب الثورية. وتشاء الصدف أن تنشر المفكرة القانونية بالتعاون مع مبادرة المساحة المشتركة تقريرا أعده د. فتوح الشاذلي عن القضاء المصري في فترة ما بعد الثورة (2011-2013).
ينشر التقرير على أربع حلقات، تتناول الأولى النصوص الدستورية والتشريعية الخاصة بالقضاء والصادرة بعد ثورة 25 يناير، الحلقة الثانية تسلط الضوء على سمات الحراك القضائي وقت الثورة، الحلقة الثالثة تناقش الخطاب الاصلاحي للقضاء المصري في سنوات الثورة، أما الحلقة الأخيرة فتسلط الضوء على موضوع حيوي وهو كيف تفاعل القضاة المصريون من خلال أحكامهم مع المطالب الثورية.
الجدير بالذكر أن التقرير تم اعداده ضمن مشروع يهدف الى تسليط الضوء على بعض جوانب المنظومة الحقوقية في فترة ما بعد الثورة، ومن بينها تنظيم شؤون القضاة وأعمالهم، وذلك من خلال اعداد تقارير تناقش حراكاتهم وحقوقهم خلال فترة ما بعد الثورة. وتنشر التقارير الأخرى في وقت لاحق (المحرر).
مقدمة
الحراك الثوري والسياسي للقضاة لم يكن وليد ثورة 25 يناير 2011، بل كان سابقاً عليها([1]). وما يوصف اليوم بأنه تأطير سياسي للعمل القضائي ليس جديداً، فقد وجد على مدى تاريخ القضاء المصري تحت عنوان "استقلال القضاء". وفي عصر مبارك كان تحرك القضاة في 2005 – 2006 لمطالب قضائية لها انعكاسات سياسية واضحة. قبل ثورة 25 يناير 2011 كان قضاة تيار الاستقلال يتهمون بأنهم مخترقون وموجهون من الإخوان المسلمين والتيارات الدينية الإسلامية بصفة عامة. وبعد تولى الرئيس السابق محمد مرسي أمور الحكم في البلاد، قرَّب إليه قضاة تيار الاستقلال، فاعتبر بعضهم منقضاة النظام الجديد، يدعمونه في مواجهة من وصفوا في عصر مبارك بأنهم قضاة النظام. وفي مواجهة تيار الإسلام السياسي ، ظهر تيار جديد يدافع عن استقلال القضاء، تزعمه نادي قضاة مصر ونوادي الأقاليم، وقد دمغهم النظام الجديد بأنهم من بقايا نظام الحكم الاستبدادي، وأنهم يعادون نظام الحكم الإسلامي ويمارسون السياسة.
وفي مواجهة غالبية القضاة، ظهرت تيارات قضائية جديدة، مثل تنظيم "قضاة من أجل مصر"، الذين أعلنوا عن أنفسهم أثناء الانتخابات الرئاسية، وظهر جلياً أنهم قضاة ينتمون إلى الإخوان المسلمين. وقد كانت فترة حكم الرئيس محمد مرسي سلسلة من الصراعات بين الإسلاميين والقوى الاجتماعية والسياسية. ولم يسلم القضاء من عدوان الإسلاميين، بل كانوا أكثر من عانىمن حكم الإسلاميين، ودافع القضاء عن ذاتيته التي حاول النظام الجديد تغييرها. وكان للقضاء دور واضح ومساهمة هامة في التعجيل بإنهاء حكم الإسلاميين لمصر. وقاد نادى القضاة المعركة ضد العدوان على استقلال القضاء، وساهمت المحاكم العادية والمحكمة الدستورية العليا بأحكامها في تقويض الدعائم السياسية والدستورية والقانونية لنظام حكم الإسلاميين، فكانت نهايته المحتومة مع ثورة 30 يونيه 2013. ومن هنا كانت نظرة الإخوان المسلمين لأحكام القضاء باعتبارها عدائية ضد النظام الجديد، وجلبت للقضاة اتهامات بأنهم يتعاونون مع الجيش وفلول النظام السابق ضد حكم الإخوان، وأنهم يمارسون السياسة، لاسيما في الأحكام المتعلقة بالاستحقاقات الانتخابية لمصر الثورة، وتلك المتعلقة بتشكيل المؤسسات الدستورية الجديدة.
وقد ترك نظام حكم الإسلاميين جروحاً غائرة في الجسد القضائي، حاول القضاة توظيفها بعد ثورة 30 يونيه 2013 للمطالبة بضمانات لاستقلال القضاء، تمنع تكرار ما حدث من عدوان على استقلال القضاء. وبالغ بعض القضاة في توظيف سوءات النظام السابق للحصول على امتيازات لا تتعلق حقيقة بموضوع الاستقلال، بل كانت أقرب إلى المطالبات الفئوية التي تسير في طريق استقلال القضاء عن الدولة المصرية وليس عن سلطتها التنفيذية.
ومنذ ثورة 30 يونيه 2013 والحراك القضائي لا يهدأ، والدور السياسي للقضاة بات ظاهراً، ولا يتنصل منه القضاة، ولا يجدون غضاضة في إعلانه تحت ستار حق التجمع وحرية التعبير باعتبارهم مواطنين. حصل القضاة على امتيازات كثيرة في الدستور الجديد، وكانوا يأملون في الحصول على ما هو أكبر من ذلك. لكن ما لم يتوصلوا إلى "دسترته" من مطالب، سوف يسجلونه في قوانين السلطة القضائية، التي صارت قوانين مكملة للدستور، لا يجوز تعديلها إلا بأغلبية ثلثي أعضاء البرلمان القادم، كما لا يجوز إقرارها إلا بالأغلبية ذاتها.
لقد أظهرت الثورة المصرية، بعد أن هدأ المد الثوري، مستوى التراجع الذي وصلت إليه كل مؤسسات الدولة المصرية، والذي يتفاوت مداه من مؤسسة إلى أخرى. وإذا كان القضاء المصري – مع المؤسسة العسكرية – من أقل مؤسسات المجتمع تراجعاً، إلا أن ما أصابه من تراجع وما يواجهه من تحديات وصعوبات، يدعونا جميعاً إلى سرعة المطالبة بالإصلاح القضائي، لأن الثورة المصرية لم تقلل مما كان يواجهه القضاء المصري من تحديات، بل هي على العكس – في تقديري – أضافت إليها تحديات جديدة، وزادت من حدة العقبات التي كانت تعترض مسيرة القضاء قبل ثورة 2011.
لكن الخطاب الإصلاحي بشأن القضاء تطور خلال مراحل الثورة المصرية، بحيث يمكن خلال هذه الفترة التي قاربت على الثلاث سنوات أن نميز بين مراحل ثلاث في مسيرة الإصلاح الذي لم يتحقق حتى الآن: مرحلة ما بعد ثورة 25 يناير، ومرحلة حكم الرئيس السابق محمد مرسي، وأخيراً المرحلة الراهنة التي بدأت بعد ثورة 30 يونيه ولا تزال مفتوحة على كل الاحتمالات.
وخلال هذه المراحل الثلاث، كانت هناك محاولات تشريعية تهدف إلى تحقيق الإصلاح، وكان هناك حراك قضائي يطالب أحياناً بالإصلاح، كما وجدت خطابات إصلاحية اصطبغت بلون المرحلة وخصائصها، وأخيراً صدرت أحكام قضائية وجهت الخطاب الإصلاحي وأثارت النقاش حول دور القضاء ومفهوم الاستقلال القضائي. ونرى أنه من المتعين البدء بعرض المحاولات التشريعية للإصلاح، لأنها تشكل الإطار الدستوري والقانوني للإصلاح القضائى، الذي لم يتحقق منه شئ حتى تاريخه.
[2]). لكن لا تزال المادة 48 من قانون القضاء العسكري- بعد تعديلها بالقانون رقم21 لسنة 2012 – تقرر اختصاص السلطات القضائية العسكرية "دون غيرها" بتحديد الجرائم الداخلة في اختصاصها وفقا لأحكام هذا القانون.
وجاء دستور 2012 لينص على عدم جواز "محاكمة مدني أمام القضاء العسكري إلا في الجرائم التي تضر بالقوات المسلحة"، ويحدد القانون تلك الجرائم، وهو ما يسمح للقانون بالتوسع في تحديدها. وقد كانت هذه هى المرة الأولى التي ترسى فيها وثيقة دستورية مصرية أساساً دستوريا لمحاكمة المدنيين أمام القضاء العسكري. وقبل ذلك كان النص يرد في قانون القضاء العسكري، وهو ما كان يسمح بالطعن عليه بعدم الدستورية.
أما الدستور الجديد، فقد قرر في المادة 204 أنه لا يجوز محاكمة مدني أمام القضاء العسكري إلا في الجرائم التي تمثل اعتداء مباشراً على القوات المسلحة، ويحدد القانون تلك الجرائم. وهذا النص يكرس الأساس الدستوري الذي أنشأه دستور 2012 لمحاكمة المدنيين أمام القضاء العسكري، وهو استثناء يمكن للقانون أن يتوسع فيه تحت غطاء النص الدستوري، ولا يكون الطعن عليه بعدم الدستورية منتجاً لوجود الظهير الدستوري للقانون.
2- أما عن محاكم أمن الدولة طوارئ، فلا توجد إلا عند إعلان حالة الطوارئ. وقد قيد الدستور الجديد إعلان حالة الطوارئ بأخذ رأي مجلس الوزراء، وعرض الأمر على مجلس النواب خلال السبعة أيام التالية ليقرر ما يراه بشأنه، وأوجب موافقة أغلبية عدد أعضاء المجلس على إعلان حالة الطوارئ، وحدد مدتها بثلاثة أشهر، لا تمد إلا لمدة أخرى مماثلة، بعد موافقة ثلثي عدد أعضاء المجلس (م 154). لذلك فحالة الطوارئ تمثل استثناء، وعمل محاكم أمن الدولة طوارئ مقتصر على المدة التي تستغرقها حالة الطوارئ. لكن خطورة هذه المحاكم تكمن فيما تقرره المادة 9 من قانون الطوارئ، التي تجيز لرئيس الجمهورية أو لمن يقوم مقامه أن يحيل إلى محاكم أمن الدولة طوارئ الجرائم العادية التي يعاقب عليها القانون العام([3])، بالإضافة إلى الجرائم التي تقع بالمخالفة لأحكام الأوامر التي يصدرها رئيس الجمهورية أو من يقوم مقامه أثناء حالة الطوارئ، وقد تكون هذه الأوامر شفوية طبقاً لنص المادة 3 من قانون الطوارئ. كما أن لرئيس الجمهورية سلطات واسعة على هذه المحاكم تنتهك استقلال محاكم الطوارئ ذاتها، التي هي اعتداء على استقلال القضاء العادي. يضاف إلى ذلك أنه يجوز استثناء لرئيس الجمهورية تشكيل محاكم أمن الدولة من قضاة وضباط من القوات المسلحة، كما يجوز له في المناطق التي تخضع لنظام قضائي خاص، أو بالنسبة لقضايا معينة، تشكيل هذه المحاكم من الضباط فقط. وأحكام محاكم أمن الدولة طوارئ لا تقبل الطعن عليها، وتكون نهائية بعد تصديق رئيس الجمهورية عليها، وهو ما يمثل انتهاكاً للحق في التقاضي على درجتين.
3- محكمة الأحزاب السياسية ألغاها قانون الأحزاب الجديد الصادر بعد الثورة بالمرسوم بقانون رقم 12 لسنة 2011، الذي استبدل بها لجنة الأحزاب، وهي لجنة ذات تشكيل قضائي بحت. وقرر دستور 2012 للمواطنين حق تكوين الأحزاب بمجرد الإخطار، وحظر حلها إلا بحكم قضائي. ونصت المادة 74 من الدستور الجديد على حق تكوين الأحزاب بالإخطار الذي ينظمه القانون، ولا تحل إلا بحكم قضائي. لكن قانون الأحزاب الحالي الذي ينظم الإخطار، يجيز للجنة الأحزاب الاعتراض على إنشاء الحزب خلال ثلاثين يوماً من تاريخ الإخطار، وهو ما يعني أن الحزب لن يقوم بالإخطار ولكن بالترخيص([4]).
وعليه يضيق نطاق المحاكم الاستثنائية كثيراً بعد التعديلات الدستورية والتشريعية التي تلت ثورة 25 يناير، ويتأكد مبدأ القاضي الطبيعي دستورياً. لذلك نص دستور 2012 في مادته 75 على مبدأ محاكمة الشخص أمام قاضيه الطبيعي، وحظر المحاكم الاستثنائية. وعلى نفس الحكم نصت المادة 97 من الدستور الجديد "لا يحاكم شخص إلا أمام قاضيه الطبيعي، والمحاكم الاستثنائية محظورة". فماذا سيكون الوضع بالنسبة لمحاكم أمن الدولة طوارئ، وهي محاكم استثنائية توجد لظروف استثنائية؟ قد يقال أن حظر المحاكم الاستثنائية في الدستور يمنع وجودها في الظروف العادية، أما الظروف الاستثنائية، فلها محاكمها الاستثنائية.
4- تم وضع الأساس الدستوري لمحكمة خاصة بمكافحة الإرهاب، وهو ما قررته المادة 237 من الدستور الجديد في الفصل الخاص بالأحكام الانتقالية. فقد ألزم الدستور الجديد الدولة بمكافحة الإرهاب، وينظم القانون أحكام وإجراءات مكافحة الإرهاب، وهو ما يجيز للمشرع إنشاء محكمة جنائية خاصة بمكافحة الإرهاب، ضمن منظومة القضاء العادي، لكن بإجراءات استثنائية يحددها القانون الذي يجري إعداده في الوقت الحاضر. وانتظارا لصدور القانون الجديد، تم تخصيص دوائر خاصة بالجرائم الإرهابية فى محكمة استئناف القاهرة، لضمان سرعة الفصل فيها تحقيقا للردع، عددها 18 دائرة بذات التشكيل العادى لدوائر الجنايات.
متوفر من خلال: