لماذا نخصّص بحثًا كاملًا لأوضاع القضاء في الأزمة اللبنانية الحالية؟ كيف نبرّر هذا المجهود الهادف إلى وصف وتحليل وضع مؤسّسة تزعزعت معظم مقوّماتها في السنوات الأخيرة، وهي تمرّ بأسوأ أيام لها في التاريخ اللبناني المعاصر، حتى بالنسبة لسنوات الحرب الطويلة، حسب ما أكّد لنا أكثر من قاضٍ؟ لماذا لا نركّز على المقوّمات الدستورية والقانونية والمبدئية للقضاء الذي نطمح إليه، والذي نريد بناءه في السنوات المقبلة، بدل أن نغرق في وصف يوميّات القضاة والمؤسّسات القضائية منذ 2020، بكلّ ما تحمل من مشاكل ويأس وإحباط؟ سنحاول الإجابة على هذه الأسئلة عبر نقاط عدّة فيما يلي، وهي نقاط نجدها في أساس مقاربتنا المنهجية، ومقاربة “المفكرة القانونية” العلمية والفكرية منذ سنوات عديدة.
أوّلًا، ومنذ انطلاق “المفكرة القانونية” عام 2010، قاربنا الوضع القضائي عبر مستويين متوازيين يسيران معًا دائمًا ويتغذّيان من بعضهما البعض. المستوى المبدئي والقيمي (من الأعلى إلى الأسفل) الذي خصّصنا له عبر السنوات مئات المقالات والدراسات حول المبادئ والمقارنات الدولية والدستورية والقانونية والتنفيذية التي تعني العدالة ومؤسّساتها بشكل عام، والقضاء بشكل خاص، ما سمح لـ “المفكرة” أنْ تصبح أحد المراجع المهمّة حول هذه المواضيع. أمّا المستوى الثاني، فهو وصفي تحليلي تفسيري (من الأسفل إلى الأعلى) يرتكز على منهجيات الدراسات الميدانية، ويسمح لنا بفهم الحياة القضائية بعيدًا عن النصوص، كما هي بتفاصيلها ومجرياتها العملية الإيجابية والسلبية، بنجاحاتها وإخفاقاتها، من دون إصدار الأحكام القيمية على ما نراقب، فلا نكتفي بتكرار المبادئ القانونية المجرّدة. إنّ الأوراق التي ستقرؤونها فيما يلي تنتمي طبعًا إلى المستوى الثاني، والذي يسمح وحده حسب رأينا بتشخيص دقيق وعلمي لواقع القضاء اللبناني في الأزمة أو بعدها، عبر منهجيات العلوم الاجتماعية والبحث الميداني الموثّق. كما أنّ هذا التشخيص وحده يسمح بالتفكير الجدّي بمشروع واقعي وطموح لبناء سلطة قضائية فعّالة في البلد، على الأنقاض التي تخلّفها الأزمة اليوم. إنّ مقاربة القضاء المنهار في الأزمة لا يشذّ عن هذه القاعدة، لا بل يؤكّدها ويؤكّد ضرورتها وأهميتها من أجل التمهيد لأيّ عملية إصلاحية، حاضرًا أو مستقبلًا، تسمح للقضاء بالخروج من مستنقع أزمة يبدو اليوم أنّه ليس له أي قدرة على التحرّر منها، كما ليس له أي سلطة على أسبابها ومسبّبيها، أو على نتائجها. فتمامًا كما كان بحثنا الميداني والقانوني حول أوضاع القضاء قبل الأزمة، أساسًا لورشتنا الفكرية الإصلاحية حول القضاء بين 2010 و2019، والتي أنتجت طروحات تشريعية وسياسية قدّمت، للمرة الأولى في النقاش العام في لبنان، مجموعة مبادئ حقوقية وحلولًا واقعية أساسية لحماية استقلالية القضاء وفعاليّته، فإنّ مقاربتنا البحثية والميدانية اليوم تشكّل استمرارًا وتطويرًا لهذا النهج، من أجل فهم أفضل وأدقّ لمشاكل وتحوّلات القضاء في الأزمة، تمهيدًا للخروج منها في مستقبل نأمل أن يكون قريبًا.
ثانيًا، إنّ دراسة يوميّات القضاة والقضاء في أصعب أزمة اقتصادية واجتماعية يمرّ بها لبنان المعاصر له أهمية أرشيفية وتوثيقية فائقة. فكما نوثّق يوميّات الفقر والبؤس في لبنان ما بعد 2019، في خضمّ أزمة عمّقت اللامساواة بين المقيمين في لبنان بشكل غير مسبوق، وقلبت أوضاع معظم الناس والفئات الاجتماعية، أردنا نحن توثيق ما تفعله الأزمة بمؤسّسات العدالة وفاعليها، لما للعدالة – وغيابها – من أهمية كبرى في فترات الاضطرابات كالتي نمرّ بها، حيث الضحايا بالملايين يتعايشون مع وضع لا يترك للمحاسبة أيّ فرصة. وللمؤسّسات القضائية، ومعها القضاة طبعًا، مسؤوليّة مباشرة في هذا الإنكار المعمّم للعدالة والإفلات التامّ من العقاب، اللذين طوّرتهما الطبقة السياسية – المالية – وأحيانًا القضائية – في لبنان لدرجة أصبحا نظامًا مكتمل المعالم تشكّل الأزمة المتمادية أفضل بيئة له. وللتوثيق هنا أهمّية سياسية لا مجال لتجاهلها. ففي غياب أيّ أفق للمساءلة على المدى المنظور، قد يسمح توثيق الارتكابات والتعدّيات، وضمنًا الممارسات والتحوّلات، داخل المهن والقطاعات اليوم في لبنان، بتقديم وقائع للمساءلة والإصلاح ولربّما القطع مع الممارسات السائدة والثورة عليها في مستقبل قريب أو بعيد، يوم تسمح موازين القوى المحلّية والدولية ببلورة مشروع سياسي يُبنَى على وقائع نوثّقها جميعًا اليوم في مختلف المجالات الاقتصادية، والمالية، والأمنية، وهنا القضائية. نحن نشكّل عبر هذا المجهود اليوم جزءًا من أرشيف لمستقبل لم يأت بعد، قد يكون ممكنًا فيه بناء مؤسّسة قضائية فعّالة في خدمة المصلحة العامّة بدل المصالح الخاصّة المهيمنة حاليًا. والبناء هذا لن يكون ممكنًا من دون الاستفادة من تجارب ومعاناة وأخطاء الجسم القضائي في الأزمة الحالية، والتي فضحت العديد من نقاط الضعف التي كانت مستترة أيام الاستقرار الاقتصادي النسبي قبل 2019، عندما كانت تغطّي القدرة الشرائية الجيدة نسبيًا لرواتب القضاة، كما التجاوزات المالية للسلطة السياسية، الكثير من المشاكل التي انفجرت بعد 2020 في وجه جميع الفاعلين القضائيين.
ثالثًا، إنّ لهذا المجهود قيمة مضافة علمية أكيدة، نظرًا لندرة عمليات التوثيق والتحليل المماثلة لعواقب أزمة اقتصادية طاحنة على يوميّات القضاة والمحاكم، في المنشورات العلمية والأكاديمية المتاحة في مجال العلوم القانونية والاجتماعية. فبالرّغم من رصدنا للمنشورات العلمية باللغات العربية والإنكليزية والفرنسية في السنوات والعقود الأخيرة، لم نتمكّن من إيجاد ما يعوَّل عليه من المراجع العلمية الجدّية، تحاول فهم آثار الأزمات الاقتصادية والاجتماعية الحادّة على حياة وعمل مهنيي القانون. فقد تمّ درس دور القضاء في الأنظمة الاستبدادية، وكان لـ “المفكرة” إضافة في هذا المجال حول التجربتين التونسية والمصرية زمن الاستبداد. كما تمّ البحث سابقًا في دور القضاء في الفترات الثورية أو الانتقالية، كما في العلاقات بين الطبقات الاجتماعية أو في خدمة رأس المال أو التحوّلات النيوليبرالية. إلّا أنّنا لم نجد ما نحتاجه حول آثار الأزمات المالية والاقتصادية الطاحنة على عمل القانونيين في مساحاتهم. وجزء من هذا الواقع تفسّره بالطبع خصوصية الأزمة اللبنانية منذ 2019، وهي أزمة متعدّدة الفصول والأبعاد سبق وتمّ تصنيفها من ضمن أسوأ وأقسى الأزمات الاقتصادية في قرنين من التوثيق الاقتصادي. لذا وجدنا أنفسنا في وحدة علمية صعبة إنّما خلّاقة، لمقاربة الوضع القضائي الاستثنائي في لبنان اليوم، وفهم آثار الانهيار العام على الممارسات القانونية والقضائية اليومية. فيكون لهذا العمل المتواضع قيمة مضافة، ليس فقط على صعيد إنتاج المعرفة حول القضاء اللبناني، إنّما أيضًا في المساهمة بفهم أكبر لأوضاع المؤسّسات القضائية وفاعليها في زمن الانهيارات الاقتصادية والاجتماعية بشكل عام.
أمّا رابعًا، فلهذا العمل البحثي دور في نقل صوت ونظرة القاضيات وتجاربهنّ الشخصية والمهنية في هذا الزمن الصعب. فبقدر ما تكثر المواقف والتحليلات حول القضاء اللبناني قبل الأزمة وبعدها، إلّا أنّ صمت القضاة في المساحة العامّة يبقى مُهيمنًا على هذا الخطاب العام، سواء بسبب تضخّم موجب التحفّظ أو بسبب التقاليد القضائية الأخرى التي تفرض على القاضي – أو هكذا يُطلَب منه من سلطة ترتاح متى يصمت القضاة – ألّا يشارك الرأي العام همومه ومشاكله وتضحياته مهما عظمت. وإذا كان لنادي القضاة دور مهمّ خلال السنوات الأخيرة في تغيير هذا الواقع، والتعبير عن بعض آراء القضاة ومزاج العدلية، إلّا أنّ بيانات النادي على أهمّيتها تبقى على درجة كبيرة من العمومية، بعيدة عن تفاصيل التجارب اليومية، الشخصية أو النفسية لقضاة لبنان، وعن تحليلها ووضعها في إطارها السياسي والاجتماعي والتاريخي، إذ أنّها ليست معدّة لذلك. لذلك، أعطى هذا العمل الأولويّة لكلمات القضاة وأفكارهم وتجاربهم وتطلّعاتهم، كما أعطى مساحة معيّنة لأفكار وكلمات المحامين والمساعدين القضائيين، لكي يتمكّن القارئ من تشكيل فكرة واضحة عن الحياة داخل المحاكم والمكاتب وفي أروقة قصور العدل خلال سنوات الانهيار العام. وهي مساحات اعتاد القانونيون تقليديًا على تجاهلها، واعتبارها غير موجودة، فيهتمّ معظمهم فقط بما يكتبه القضاة من أحكام وقرارات وبيانات رسمية. إلّا أنّه من قناعاتنا المنهجية أنّ لقلق القاضي على استحقاق أقساط مدرسة أولاده، أو انزعاج القاضية من وضع المحاكم والمكاتب اللوجستي، أو تراجع ثقة فاعلي العدالة في المؤسّسات القضائية، وغيرها من العوامل المادية والنفسية والسياقية التي لا تمتّ للنص القانوني بصلة، مفاعيل مباشرة وكبيرة على العدالة القضائية التي نحصل عليها اليوم وغدًا، كمًّا ونوعًا.
يبقى أن نوضح نقطتين منهجيتين قبل البدء بعرض مختلف أوراق بحثنا. أوّلًا، لا بد أنْ نحدّد ماذا نعني بمفهوم “الأزمة” في هذا البحث، من دون الدخول في النقاشات التي تعبر العلوم الإنسانية والاجتماعية حول مصطلح الأزمة ومعانيه. لقد قاربنا “الأزمة” في لبنان حسب الفهم والتصوّرات السائدة في المجتمع اللبناني، وهي الفترة التي بدأت مع الحراك الكبير في تشرين الأوّل 2019، ومعه تعثّر المصارف اللبنانية عن تسديد ودائع المودعين لديها، وبداية انهيار العملة الوطنية ومعها قيمة رواتب القضاة وميزانية العدلية. وإذا كان علماء الاقتصاد يحدّدون بداية أزمة لبنان أشهرًا لا بل سنوات قبل ذلك الموعد، فيما علماء السياسة قد يعتبرون أنّ كلّ تاريخ لبنان المعاصر، على الأقل منذ نهاية الستينيات، هو كناية عن أزمة مديدة عرفت فترات تعقيد وفترات هدوء، إلّا أنّنا ارتأينا الالتزام بالحدس الشعبي الذي ذهب عمومًا إلى اعتبار نهاية 2019 كبداية للفترة السوداء التي يطلق عليها العموم تسمية “الأزمة”. ولم نحدّد نهاية لفترة الأزمة هذه، بما أنّ لبنان والمقيمين فيه، ومن بينهم القضاة، ما زالوا يعانون من معظم الظواهر السلبية التي بدأوا يعيشونها انطلاقًا من نهاية العام 2019، على الصعيد المالي والنقدي والاجتماعي، إلّا أنّ عملنا الميداني لم يَطَل مباشرة تطوّرات النصف الأوّل من العام 2024، حتى ولو بقينا نتابع عن كثب أحداث الساحة القضائية خلال هذه الفترة. ومن خصائص الأزمة اللبنانية الفريدة أنّها متعدّدة الرؤوس، فهي في الوقت عينه أزمة مالية ونقدية ومصرفية واجتماعية ومعيشية وسياسية وأمنية وعسكرية، بشكل يصعب إيجاده في تجارب أخرى حديثة كما سبق وقلنا. وقد حاصرت هذه الأزمة المتشعّبة القاضيات والمحاميات والموظفات من جميع نواحي حياتهنّ الشخصية والمهنية، كما حاصرت المؤسّسات القضائية من الناحية المالية واللوجستية والتقنية بشكل غير مسبوق، وعطّلت معظم وسائل عملها. والجميع يعرف أنّ فترة الأزمة الكبيرة هذه تخلّلتها عدة فصول لكلّ واحد منها خصائصه، بعضها مرتبط بالصحّة العامّة مع أزمة كورونا التي أقفلت المحاكم وعقّدت عمل القضاة لفترات طويلة بين عامي 2020 و2022، وبعضها مرتبط بانفجار مرفأ بيروت في 4 آب 2020 وعواقبه المادية والمعنوية وأيضًا القضائية، لما شكّله التعطيل القضائي في هذا الملفّ من صدمة كبيرة للعديد من القاضيات. كما أنّ تسارع انهيار الليرة اللبنانية بعد عام 2021 شكّل محطة أخرى مفصلية من ضمن هذه الأزمة الكبرى، بالإضافة طبعًا إلى استمرار احتجاز المصارف لأموال المودعين ومن بينهم القضاة (أقلّه غير النافذين) بشكل غير قانوني. وإذا كان علينا أن نختار نقطة تقاطع أو استمرارية تربط بين كلّ هذه الفصول المختلفة في الأزمة، فلا بدّ أن نرى في جميعها انهيارًا مستمرًّا لمعظم مقوّمات الحياة في لبنان، ومنها مقوّمات العمل القضائي، بشكل فرض على الجميع التأقلم مع أوضاع وصعوبات كانت غربية عن حياتهم وعملهم، وابتكار طرق جديدة لتأمين حاجاتهم وتسيير أعمالهم. ومن غير الضروري، على الأقلّ بالنسبة لقرّائنا في لبنان، أن نعطي أمثلة كثيرة لهذه التغيّرات في حياتنا وحياة القضاة، إن كان على صعيد المدخول، أو المصاريف، أو الكهرباء، وغيرها من المسائل العملية التي لا نجد لها مكانًا في المعاجم القانونية والحقوقية، إلّا أنّ أثرها على القانون وممارساته، وعلى الحقوق وواقعها، قد يكون أكبر من العديد من التشريعات أو النظريات القانونية، وهذه نقطة ستبقى في صلب مقاربتنا طوال الأوراق البحثية اللاحقة.
وسوف يلاحظ القارئ أنّنا لم نعطِ في هذه الأوراق مساحة كبيرة للأبعاد السياسية المباشرة لأزمة لبنان وقضائه، ليس لأنّها غير مهمّة، بل لأنّ “المفكرة القانونية” تناولت في أماكن أخرى، في الماضي كما في الحاضر، مختلف المشاكل السياسية (بالمعنى الضيّق)، والتحديات المرتبطة بطبيعة نظام لبنان السياسي الطائفي وتأثيراتها على القضاء كلّ يوم. لذلك ركّزنا هنا على النواحي الاقتصادية والمالية والاجتماعية للأزمة بنطاق تأثيراتها على حياة القضاة والمحامين الشخصية والمهنية والفكرية، وعلى معنوياتهم وعلاقاتهم ببعضهم البعض ومع الناس. وقد أعطينا أهمية خاصّة لانهيار قيمة رواتب القضاة والمساعدين القضائيين، كما مداخيل العديد من المحامين، بخاصّة في السنوات الأولى للأزمة، وعلى النتائج الاجتماعية والرمزية لهذه التغيّرات. كلّ ذلك سمح لنا بأن نذكّر أنّ القضاء ليس فقط قوانين وأحكامًا، إنّما هو أيضًا كهرباء وأوراق، كما هو هموم معيشية ومعنوية تحتلّ أذهان القضاة وتنافس بل تفوق عند اشتدادها همَ إصدار الأحكام كما الأعمال القضائية الأخرى. إنّ الأزمة اللبنانية قد ضخّمت هذه الأشياء التي يتناساها علم القانون، والتي يخجل القضاة عادة من التكلّم عنها، ووضعتها في الواجهة القضائية وفي أعلى أولويّات الفاعلين القضائيين، لتذكّر الجميع بما قد نسوه ربما منذ أزمة بداية التسعينيات، وهو أنّ قاضيًا لا يتمكّن من دفع قسط مدرسة أولاده لا يمكن أن يجتهد، أو أن يكون مستقلًّا وفعّالًا. أمّا العامل الثاني الذي يطبع جميع هذه الأزمات التي تعصف بعالم القضاة منذ أربع سنوات، فهو غياب أيّ أمل لديهم في تحسّن جدّي لأوضاعهم في المدى المنظور. ولا شك أنّ مسألة غياب أو تراجع الأمل هذه، قد تكون من أهمّ ميزات أزمة لبنان الحالية بالنسبة لأزمات أخرى في بداية التسعينيات أو خلال الحرب، وتجعل الأزمة الحالية أكثر خطورة من كل أخواتها: إنّ لغياب الأمل مفاعيل مدمّرة على عمل القضاة اليوم، وعلى تعلّقهم بمهنتهم ومؤسّساتهم وعلى نظرتهم لمستقبل القضاء والبلد، ولمسألة الحقوق والعدالة في لبنان بشكل عام.
وبفعل الأهمية التي أعطيناها لنظرة القضاة إلى الأزمة وإلى أوضاعهم فيها، كان للمقابلات النصف موجّهة معهم، ومع سائر الفاعلين القضائيين، أهميّة خاصّة في هذا البحث، وتلك هي النقطة المنهجية الثانية والأخيرة التي نودّ التوقّف عندها في هذه المقدّمة. وكنّا قد طوّرنا، داخل الفريق البحثي في “المفكرة القانونية”، مجموعة أسئلة حول مختلف جوانب مسار وحياة القاضية كما غيّرتها الأزمة اللبنانية، في مختلف محطّاتها. وقد تحوّلت طبعًا هذه الأسئلة بين مقابلة وأخرى، لكي نبني على ما سمعناه من أجل تطوير مقاربات أكثر دقة وتعمّقًا في استكشاف واقع القضاة ومشاكلهم المستجدّة. وقد حاولنا ترك القضاة يتكلّمون كما يريدون قدر المستطاع بخصوص كلّ مسألة طرحناها، يشرحون معاناتهم وتجاربهم وتوقّعاتهم كما يتمنّون، من دون أن نقطع حبل أفكارهم بأسئلتنا العديدة، بشكلٍ سمح لهم برسم صورة كبيرة، كثيرة الأشكال والألوان والأبعاد، لواقع المؤسّسة القضائية وفاعليها منذ أربع سنوات كما يرونها هم، وإن أتت أسئلتنا من وقت إلى آخر لطلب بعض التفاصيل، أو لفتح ملف جديد لم نتطرّق إليه بعد في المقابلة. وسمحت لنا هذه المنهجية بتشييد بحثنا، وإشكاليّاتنا ومواضيع أوراقنا وتصميمها، انطلاقًا من أفكار وتصوّرات القضاة والمحامين والموظفين هذه كما وثّقناها، والتي أتت لتؤكّد أو لتنفي فرضيّاتنا التي كنّا قد طوّرناها في مراحل البحث الأوّلية كما لاحقًا. وبفعل هذه المقاربة المنهجية، فإنّ الهواجس والمشاكل التي نتطرّق إليها في الأوراق التالية ليست وليدة قناعاتنا أو أفكارنا نحن، بل هي مشاكل وهواجس فرضها الميدان القضائي كما عايشناه واستكشفناه خلال أشهر طويلة منذ 2021.
إلّا أنّ الاستماع إلى القضاة والمحامين لا يعني طبعًا الاكتفاء بنقل ما يقولونه كما هو، من دون ربط الأمور بعضها ببعض أو وضع كلماتهم وأفكارهم ضمن السياق القضائي اللبناني والعربي الذي راكمت “المفكرة” بخصوصه معرفة مهمّة في السنوات الماضية. ففي الوقت الذي نُبدي فيه كلّ التفهّم لتجارب القضاة، نسهر دائمًا على وضعها في سياق اجتماعي ومهني وتاريخي أوسع، وتحليلها من خلال الأدوات المعرفية والنظرية والنقدية المناسبة، ما سمح لنا بالتمييز بين ما هو شكوى شخصية لقاضٍ في مكان ما وزمان ما، وما يشكّل مشكلة جماعية تعني أعدادًا كبيرة من القضاة، وتساهم في تعطيل عمل مؤسّسات بكاملها. وقد استمعنا أيضًا إلى محامين ومساعدين قضائيين من خلال مقابلات معمّقة معهم، لتوثيق تجاربهم في الأزمة أوّلًا، وهي تختلف عن تجارب القضاة، إنّما أيضًا لننظر إلى أوضاع القضاة من زوايا ووجهات نظر مختلفة، وساهم اختلافها في تكوين فرضيّاتنا ونتائجنا البحثية بشكل معقّد وغني. كما أضفنا للمقابلات أرشيفات صحافية وإعلامية، ومنشورات قضائية قديمة وجديدة، سمحت لنا بإغناء نظرتنا لوضع القضاء من منظار القطاعات الأخرى في المجتمع، والسرديّات الإعلامية بما تحمله أحيانًا من آراء مسبقة سياسية واجتماعية تعلّمنا الكثير حول تطوّر مكانة القضاء في مجتمعنا. وقد سمح لنا هذا التنوّع المنهجي بطبيعة الحال بتوسيع قراءتنا لواقع القضاء وتعميقها وتشبيكها مع إشكاليات أخرى.
نتمنّى أن تساهم الأوراق التالية المجموعة هنا، والتي نشرت بعضها “المفكرة” تباعًا كمقالات منفصلة على موقعها الإلكتروني منذ نهاية 2023 حتى صيف 2024، بتوثيق ما يعيشه القضاة منذ 2019، بشكل يسمح بفهم أكبر للأزمة اللبنانية ولمفاعيلها المتشعّبة، كما للمؤسّسة القضائية ومعاناتها. وسوف نستمرّ مستقبلًا في توثيق ودراسة تجارب القضاة والمحامين والموظّفين والمتقاضين بعد نشر هذا البحث، لأنّ الأزمة اللبنانية لم تقترب حتى من نهايتها، وما زلنا حتى اليوم نكتشف عواقب جديدة لها في مختلف المجالات، ما يجعل موضوع بحثنا يستمرّ ويتحوّل ويتطوّر في الأشهر والسنوات المقبلة، مع آثار جديدة على القضاء ومؤسّساته وفاعليه. كما أنّ عام 2024 أضاف أبعادًا دموية لأزمة لبنان المعقّدة، عبر الإبادة المستمرّة في فلسطين، لحظة طبع هذه الصفحات، وعبر الحرب القائمة على جنوب لبنان. فبالإضافة لأثر الحرب المباشر على المحاكم والمتقاضين في الجنوب وأجزاء من البقاع، فإنّ عواقب الإبادة في غزة ستطال عاجلًا أم آجلًا علاقتنا بمنظومة الحقوق الأساسية والإنسانية في لبنان والمنطقة، حيث يتقرّر مصير هذه المنظومة المهدّدة بالغرق في دماء غزة. وكلّها عوامل ستؤثّر حكمًا على فهم القضاة دورهم في حماية هذه الحقوق وتاليًا على أعمالهم، هنا كما هناك. إنّ أيامًا صعبة تنتظرنا وتنتظر قضاة لبنان وحقوقيّيه. ونأمل، وقد أظهرنا في أوراقنا كيف أصبح الأمل عملة نادرة في القضاء كما في كل لبنان، أن نتمكّن جميعًا من تجنّب السيناريوهات الأكثر تشاؤمًا حول مستقبل المؤسّسات القضائية، والتي استشرفنا بعض ملامحها في هذه الأوراق هنا. تتمثل هذه السيناريوهات في مستقبل يخلي فيه القضاء المنهار كلّ المساحة لفعاليات سياسية وأمنية ودينية تأخذ على عاتقها فصل النزاعات بين الناس، فيما تضمحلّ الحقوق والحرّيات التي لم يعد هناك من يحميها. وقد تصبح هذه السيناريوهات الصعبة حقيقة في حال لم نتعلّم دروس الأزمة الحالية العديدة، كما دروس فترة ما بعد الطائف، وإذا لم نجر إصلاحات كبيرة على أوضاع المؤسّسة القضائية وعلاقتها بالمجتمع وبالطبقة السياسية. على هذا الخطّ الرفيع بين التشاؤم والتفاؤل نسير ونتقدّم، على طريق نأمل أن يكون طريق الخروج من الأزمة، لبناء قضاء مختلف في دولة مختلفة في لبنان، يومًا ما، قريبًا.
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.