فشل المجلس الوطني التأسيسي سنة 2013 في تحقيق ما تعهد به أعضاؤه صلب الفصل 22 من القانون التأسيسي عدد06 لسنة 2011 المتعلق بالتنظيم المؤقت للسلطة خلال المرحلة الانتقالية من سن قوانين أساسية تعيد تنظيم القضاء وتعيد هيكلة المجالس القضائية العليا الإدارية والمالية وتضبط أسس إصلاح المنظومة القضائية الادارية والمالية طبق المعايير الدولية لاستقلال القضاء. ولم يسجل في هذا السياق تقديم اي عمل تشريعي سواء من الحكومة او من نواب المجلس الوطني التأسيسي جهات الاقتراح التشريعي يهدف الى إصلاح الهيئات القضائية الادارية والمالية، بما يؤكد التوجه التشريعي الذي برز سنة 2012 وآل الى ترحيل الاستحقاقات المذكورة لما بعد نهاية المرحلة الانتقالية.
الا أن المجلس الوطني التأسيسي توفق خلال ذات السنة في اصدار قانونين هامين على اتصال مباشر بالقضاء، أولهما القانون الأساسي عدد 13 لسنة 2013 المؤرخ في 02 ماي 2013 المحدث للهيئة الوقتية للإشراف على القضاء العدلي والذي أفضى الى ارساء نموذج جديد للمجلس الاعلى لقضاء العدلي يقوم على مبدأ التمثيلية وثانيهما القانون الأساسي المتعلق بإرساء العدالة الانتقالية وتنظيمها الذي تمت المصادقة على احكامه بتاريخ 15/12/2013 وتضمنت بنوده احكاما لها تأثير على تنظيم القضاء خصوصا وانه يرسي منظومة عدالة خاصةتشمل القضاء في موضوعها.
تجاوز المجلس الوطني التأسيسي حالة العقم التشريعي التي ميزت أعماله خلال سنة 2012 في مجال الاصلاح التشريعي لجزء من منظومة القضاء توج بتوصل السلطة التأسيسية على مستوى لجانها الفنية لصياغة النسخة النهائية من مشروع دستور الجمهورية التونسية الثانية بتاريخ غرة جوان 2013 والذي ينتظر منه فيما يتعلق بالقضاء رسم ملامح السلطة القضائية في تونس مستقبلا. ورغم أن النسخة الاخيرة من مشروع الدستور كانت ثمرة لمراجعات وتشاورات حول ما سبقها من مشاريع ونصوص الا أن عددا من أحكامها كان موضع انتقاد من خبراء القانون وناشطي المجتمع المدني وجزء من الطيف السياسي. وكانت الأحكام التي تتعلق بالقضاء جزءا من المسائل الخلافية التي عجز مشروع الدستور عن حسمها. وفي سياق قد يكون من مميزات التجربة التأسيسية التونسية، اتفقت الاطراف السياسية الممثلة بالمجلس الوطني التأسيسي بمبادرة من رئيس المجلس على حسم المسائل الخلافية الهامة في مشروع الدستور وإيجاد التعديلات التوافقية لها من خلال لجنة التوافقات[1] وانتهت اللجنة من مراجعة باب السلطة القضائية والمحكمة الدستورية بشكل بين ما يمكن أن يكون ملامح مقومات القضاء في الجمهورية الثانية.وفي مقابل التغييرات التشريعية ومشاريع النص الدستوري امتنعت السلطة التنفيذية عن مباشرة مراجعة النصوص الترتيبية التي تتعلق بالقضاء ومؤسساته رغم المطالبات القضائية بها مما ادى لإعاقة مسار الاصلاح في بعض وجوهه.
القانون الأساسي عدد 13 لسنة 2013 المؤرخ في 02 ماي 2013 المحدث للهيئة الوقتية للإشراف على القضاء العدلي:
كانت مصادقة المجلس التأسيسي يوم 24 افريل 2013 على القانون الأساسي المتعلق ببعث الهيئة الوقتية للإشراف على القضاء العدلي من النتائج المباشرة لتحركات جمعية القضاة التونسيين التي توصلت الى احياء الاستحقاق التشريعي بعد ان اعتقد جانب من صانعي القرار في استحالة تجدد المطالبة بالهيئة بعد السقوط المدوي لمشروع قانونها الاول يوم 02/08/2012. ورغم أن النص القانوني كان من ثمار عمل لجنة التشريع العام بالمجلس الوطني التأسيسي الا أن هياكل القضاة ساهمت في تطويره بأساليب متعددة تراوحت بين اقتراح مشاريع النصوص القانونية والعمل النقدي على المشروع وانتهت الى فرض تعديلات جوهرية عليه بالتحركات الاحتجاجية الضاغطة.
ورغم الدور الهام لهياكل القضاة في تحقيق الانجاز التشريعي، فقد اختلف القضاة في تقييم القانون الأساسي المحدث للهيئة الوقتية للقضاء العدلي. ففيما اعتبرته جمعية القضاة التونسيين “خطوة هامة في مسار اصلاح القضاء بالشروع في ارساء الشروط الدنيا للاستقلال الهيكلي والتسيير الذاتي للشأن القضائي”[2]، عدته نقابة القضاة التونسيين عملا كشف عن النوايا في احتواء السلطة القضائية وتدجين القضاة من خلال اقراره لمشاركة غير القضاة في المسار المهني للقضاة[3]. ودون التفات للتقييمات المتضاربة وتبريراتها، يتبين من الرجوع لنص القانون انه أرسى مبادئ هامة على مستوى الضمانات التشريعية لاستقلالية القضاء تعلقت اساسا بتركيبة الهيئة وصلاحياتها وبمبدأ عدم نقلة القاضي دون رضاه.
هيئة القضاء كمجلس أعلى للقضاء ذات صلاحيات حقيقية مكون من اغلبية منتخبة تضمن تمثيلية القضاة:
نص الفصل الاول من القانون المحدث للهيئة الوقتية للإشراف على القضاء العدلي على انه “تحدثهيئة وقتية مستقلة تتمتع بالاستقلالية الإدارية والمالية تشرف على شؤون القضاء العدلي تحل محل المجلس الأعلى للقضاء تسمى “الهيئة الوقتية للقضاء العدلي”. وأسند الفصل الثاني من ذات القانون للهيئة صلاحية “النظر في المسار المهني للقضاة من تسمية وترقية ونقلة تأديب” وهي “تبدي رأيا استشاريا في مشاريع القوانين المتعلقة بسير العمل القضائي وأساليب اصلاح منظومة القضاء ولها ان تقدم من تلقاء نفسها الاقتراحات والتوصيات التي تراها ملائمة في كل ما من شأنه تطوير العمل القضائي”.
ويتضح من نص القانون اتجاه النية التشريعية للقطع الكامل مع تصور المجلس الاعلى للقضاء العدلي الموروث عن القانون عدد 29 لسنة 1967 المتعلق بالمجلس الاعلى للقضاء. فقد ضمن القانون الاستقلالية الهيكلية الكاملة للهيئة عن السلطة التنفيذية من خلال الاقرار بالاستقلالية الادارية والمالية للهيئة بما يؤدي لتحررها عضويا من سيطرة وزارة العدل. كما أنه أنهى تواجد ممثلي السلطة التنفيذية بالمجلس بعد ان كان رئيس الجمهورية يرأس مجلس القضاء ووزير العدل يشغل خطة نائب له[4] فلا تكون الهيئة امتدادا للسلطة التنفيذية أو مرتبطة بها. وقد أضاف القانون الى ميزات الهيئة ميزتين أساسيتين كانت غائبتين تماما سابقا: الأولى أنها هيئة تمثيلية، نصف أعضائها ممثلون ينتخبهم القضاة في مجموعات وفق رتبهم (عشرة)؛ والثانية، أنها هيئة تقوم على مبدأ الانفتاح على غير القضاة من خلال ضمان عضوية خمسة أساتذة جامعيين، اثنين منهما يجمعان بين التدريس الجامعي والمحاماة، ينتخبهم المجلس التأسيسي وفق آليات محددة ضمانا لاستقلاليتهم.
وبذلك باتت الهيئة مكونة من ثلاث كتل:
الأولى، كتلة سامي القضاة وتكون عضويتهم بحكم صفاتهم (وعددهم خمسة)،
الثانية، كتلة ممثلي القضاة (وعددهم عشرة)، ينتخب أربعة منهم من قبل قضاة الرتبة الأولى، فيما ينتخب كلا من قضاة الرتبتين الثانية والثالثة ثلاثة منهم،
الثالثة، كتلة مؤلفة من غير القضاة وفقا لما تقدم، ينتخبهم المجلس التأسيسي (وعددهم خمسة).
كما استجاب المجلس التشريعي لمطالب هياكل القضاة وأقر باستقلالية مجلس التأديب وقصر تركيبته على القضاة من اعضاء الهيئة مع اسناد القضاة المنتخبين نصف مقاعده[5].
غير ان التوجه نحو ارساء هيئة مستقلة للقضاء العدلي شابته نقائص من أهمها أن القانون احتفظ بتبعية مصالح ادارة المصالح العدلية والتفقدية العامة للمصالح المركزية لوزارة العدل وجعل الاحالة على مجلس التأديب من اختصاص وزير العدل. كما امتنع المشرع عن اسناد صلاحية ترتيبية للهيئة وأبقى على تأجير القضاة وموازنة المحاكم في إطار الموازنة العامة لوزارة العدل. وهي امور تؤكد امتناعه عن اسناد الاستقلالية الكاملة للهيئة عن السلطة التنفيذية وفق المعايير الدولية. ويبرر التحفظ في الاقرار بالاستقلالية الكاملة لهيئة القضاء العدلي اعتراضات جانب من القضاة على الهيئة وتقديرهم سلبيا لقانونها، خصوصا وان النقائص المسجلة مكنت وزير العدل التونسي ومن خلفه السلطة التنفيذية التي سعت للالتفاف على المنجز التشريعي من ايجاد منافذ لمحاربة الهيئة في عامها الاول في مسعى لإفشال التجربة.
ويسجل لقانون الهيئة في جانب آخر انه ضمن حقوق القضاة في مواجهة الهيئة التي تشرف على مسارهم المهني، بان قيد صلاحياتها في نقلهم بأن اخضعها لمبدأ عدم نقلة القاضي بدون رضاه[6] كما اجاز صراحة الطعن في قراراتها امام المحكمة الادارية.[7]
ويشكل ارساء مبدأ عدم نقلة القاضي بدون رضاه مكسبا هاما للقضاء التونسي ناضلت اجيال من القضاة من اجل ارسائه. ويقطع تكريسه تشريعيا مع سوء الاستخدام الحاصل سابقا الحركة القضائية كوسيلة للعقوبة المقنعة واداة لشراء الذمم بشكل أثر سلبيا على استقلالية القضاء. كما أن إلزام الهيئة باحترامه في صيغة الوجوب وتحديد استثناءاته مع حصرها بسقف زمني يؤدي لإخضاع هيئة القضاء لضوابط موضوعية في عملها. وتشكل آليتا التظلم والتقاضي وسيلتا رقابة فعالتين على حسن تطبيقه.
وبينت التجربة بعد ارساء الهيئة فعليا عقب انتخاب اعضائها ومباشرتها لعملها أن الاعتراضات والتحفظات التي كانت تساق ضد مبدأي انتخاب أعضاء مجالس القضاء من القضاة وعدم نقلة القاضي بدون رضاه لما قد يتولد عنهما من سلبيات، كانت مجرد تبريرات يراد منها تبرير رغبة السلطة التنفيذية في مواصلة تحكمها في القضاء من خلال استعمال مجالس القضاء. كما كشفت التجربة أن خشية القضاة من فتح مجالسهم لعضوية غير القضاة بحجة أن القضاء سلطة ولا يجوز مشاركة غير القضاة في تسييره، انما يمثل موقفا فئويا مسبقا لا ينبني على معطيات موضوعية.
فقد تمكنت هيئة القضاء العدلي في أول تجربة عمل لها بمناسبة الحركة القضائية لسنة 2013-2014 رغم صعوبة ظروف انجازها ومحدودية الحيز الزمني لذلك من تحقيق حركة قضائية احترمت الى حد كبير مبدأ عدم نقلة القاضي بدون رضاه وضمنت في المقابل تلبية حاجيات مختلف المحاكم، بما فيها المحاكم الواقعة في مناطق بعيدة عن العاصمة، من التعيينات. كما ان الاعضاء من غير القضاة شكلوا عامل دعم للهيئة. وبينت ذات التجربة ان السلطة التنفيذية كانت تعول على إمكانية استتباع الهيئة أو فشلها بدليل أنها سعت فور نجاح الهيئة في أداء مهامها باستقلالية الى مواجهتها بهدف الاستيلاء على صلاحياتها. وقد بلغت المواجهة أوجها مع رفض السلطة التنفيذية تفعيل الحركة القضائية الجزئية التي انجزتها الهيئة بتاريخ 10/12/2013 بما يكشف بوضوح على ان النصوص القانونية وان كانت من الدعامات الاساسية لاستقلال القضاء الا انها تظل في غياب الالتزام الحقيقي لكل الاطراف بمبدأ استقلالية القضاء أمرا غير كاف لتحقيقها[8].
قانون العدالة الانتقالية:
صادق المجلس الوطني التأسيسي بتاريخ 15 ديسمبر 2013 على قانون العدالة الانتقالية بعد اخذ ورد في شأنه استمر طويلا وكاد ينتهي بإرجائه لأجل غير مسمى مقابل تعويضه فعليا بقوانين عزل سياسي[9] واتفاقيات مصالحة مع رجال الاعمال المشتبه في ضلوعهم في الفساد[10].
وعرّف المشرع التونسي صلب الفصل الاول من القانون العدالة الانتقالية بأنها “مسار متكامل من الآليات والوسائل المعتمدة لفهم ومعالجة ماضي انتهاكات حقوق الإنسان بكشف حقيقتها ومساءلة ومحاسبة المسؤولين عنها وجبر ضرر الضحايا وردّ الاعتبار لهم بما يحقق المصالحة الوطنية ويحفظ الذاكرة الجماعية ويوثقها ويرسي ضمانات عدم تكرار الانتهاكات والانتقال من حالة الاستبداد إلى نظام ديمقراطي يساهم في تكريس منظومة حقوق الإنسان”.ويستفاد من هذا التعريف أن العدالة الانتقالية لا تشكل آلية قضائية صرفة، الا أن اشتمال منظومة العدالة الانتقالية على التتبعات القضائية وتعاطيها مع المؤسسة القضائية يجعلان من قانونها موضوعا قضائيا في احد ابعاده ومن احكامه اداة لمعالجة ملف المحاسبة في القضاء.
قانون العدالة الانتقالية وتنظيم القضاء:
أرسى الفصل السابع من قانون العدالة الانتقالية مبدأ احترام الاختصاص الاصلي للقضاء في المساءلة والمحاسبة اذ نص الفصل الثامن منه على أن “المساءلة والمحاسبة من اختصاص الهيئات والسلطات القضائية والإدارية حسب التشريعات الجاري بها العمل”، الا ان الفصل الثامن منه أسند اختصاص النظر في قضايا الانتهاكات التي يشملها القانون سواء باعتبار المدة الزمنية المحددة صلبه[11] أو باعتبار موضوعها[12] “لدوائر قضائية متخصصة بالمحاكم الابتدائية المنتصبة بمقار محاكم الاستئناف[13]“.
قضاء العدالة الانتقالية، قضاء استثنائي؟
وكان مشروع قانون العدالة الانتقالية طبق صياغته التي اقترحتها لجنتا التشريع العام ولجنة الحقوق والحريات ينص في فصله الثامن على ان “تنظر المحاكم كل حسب اختصاصها بواسطة قضاة يقع اختيارهم وتكوينهم للغرض في القضايا المتعلقة بالانتهاكات الجسيمة لحقوق الانسان”. إلا ان نواب المجلس الوطني التأسيسي بالجلسة العامة ليوم 13/12/2013 أبدوا اعتراضا على مجمل احكام مشروع الفصل الثامن فتولى رؤساء الكتل النيابية التقدم بمقترح تعديلي له حاز على مصادقة المجلس وأفضى الى إسناد اختصاص النظر في قضايا الانتهاكات الجسيمة “لدوائر قضائية متخصصة بالمحاكم الابتدائية المنتصبة بمقار محاكم الاستئناف” اشترط في القضاة العاملين بها ان يكونوا من قضاة يقع اختيارهم “من بين من لم يشاركوا في محاكمات ذات صبغة سياسية ويتم تكوينهم تكوينا خصوصيا في مجال العدالة الانتقالية”.
وبتدخلها على هذا الوجه، أدخلت الجلسة العامة لبسا على مقتضيات الفصل الثامن أضر بتناسق الاحكام التشريعية بشكل قد يفضي لعدم احترام قانون العدالة الانتقالية لاختصاص القاضي الطبيعي ويمس فعليا بمبدأ الولاية العامة للقضاء. فضلا عن ذلك، فقد خلا النص من أي إشارة الى استحداث دوائر متخصصة تناظرها بمحاكم الاستئناف ومحكمة التعقيب، مما قد يفتح الباب أمام تأويلات تلتزم بحرفية النص وتحرم أطراف التداعي من حقهم في ممارسة التقاضي على درجتين ومن استعمال وسائل الطعن في الاحكام بمقولة ان الاختصاص في نظر الدعاوي اسند حصرا للدوائر المنتصبة بالمحاكم الابتدائية وبالتالي فلا مجال للطعن في احكامها. وهو امر يؤدي في حال حصوله الى إيجاد بلبلة في العمل القضائي والى تحويل الدوائر المتخصصة الى محاكم استثنائية بشكل كامل بما ينتهك قواعد المحاكمة العادلة امامها.
بالمقابل، يسجل إيجابا أن الفصل الثامن آل الى اقصاء اختصاص القضاء العسكري بالقضايا المذكورة والاقرار بالولاية الكاملة للقضاء العدلي بها. ويشمل ذلك جملة القضايا بما فيها تلك التي تتعلق بشهداء وجرحى الثورة التي لا زالت جارية وقضايا الانتهاكات التي تعلقت بعسكريين او تلك التي تنسب للمؤسسة العسكرية[14].
الانتهاكات الخطيرة ضمن صنفين وفق قابليتها للمصالحة:
ومن الأمور القابلة للنقد أيضا، ما تضمنه نص القانون من حصر صلاحيات هذه الدوائر فيما يتعلق بعدد من الانتهاكات الخطيرة، بالملفات التي تحال اليها من ” هيئة الحقيقة والكرامة” دون سواها[15]. وهذا الحصر انما يشكل فعليا اعتداء على الولاية العامة للقضاء ومسا بمبدأ المساواة بين المتقاضين ويؤكد الصبغة الاستثنائية لمحاكمات الانتهاكات وفق قانون العدالة الانتقالية.
وبالفعل، قد ميز قانون العدالة الانتقالية بين صنفين من الانتهاكات الخطيرة أي الجرائم التي اقترفت باستعمال وسائل السلطة ونفوذها:
الصنف الاول يتصل بانتهاكات حقوق الانسان، وهو يشمل جرائم التعذيب والممارسات المهينة للذات البشرية والاغتصاب والقتل والاختفاء القسري وكل شكل من اشكال العنف الجسدي، ويعني بالدرجة الأولى موظفي الدولة المكلفين بإنفاذ القانون والذين تعمدوا في مواجهة تحركات اجتماعية او في اطار ادارة الصراعات السياسية للسلطة مع خصومها من معارضيها أو بمناسبة مباشرتهم للأبحاث العدلية تسليط ضغط مادي ونفسي على الضحايا مس بكرامتهم البشرية أو أدى للإضرار بهم بدنيا ونفسيا أو انتهى الى هلاكهم تحت تأثير التعذيب أو القتل المتعمد،
أما الصنف الثاني فيتصل بجرائم الفساد المالي والإداري وهو يشمل عمليات نهب الثروة العامة واستغلال النفوذ لتحقيق مصلحة شخصية أو للغير والرشوة والارتشاء من قبل سامي موظفي الدولة، وهو يعني بالدرجة الأولى “رجال المال والأعمال” الذين استغلوا وجودهم بدوائر القرار السياسي أو استفادوا من قربهم وصلاتهم بدوائر السلطة والقرار لينهبوا المال العام وجرائم تدليس الانتخابات والدفع للهجرة لأسباب سياسية والتي تعني اساسا رجال السياسة ممن تولوا مناصب في الدولة التونسية.
ارسى المشرع التونسي قاعدة “عدم القابلية للسقوط بمرور الزمن”[16] لجميع الانتهاكات من دون تمييز، كما اعتبر ان المحاكمات السابقة لا تمنع من اعادة التتبعات بما يمنع من تمت محاكمتهم من اجل افعال تعد انتهاكات حسب منطوق قانون العدالة الانتقالية من التمسك بقرينة اتصال القضاء في صورة اعادة تتبعهم قضائيا”[17] ضمانا لتحقيق شعار” المحاسبة التي تحول دون الافلات من العقاب او تجنب المساءلة”[18]، الا انه عاد ليميز بين الجرائم باعتبار مقترفيها فاشترط الا تتعهد المحاكم بجرائم الصنف الثاني الا بناء على احالة من ” هيئة الحقيقة والكرامة” وعاد ليمارس ذات التمييز صلب الصنف الثاني من الانتهاكات فكرس الصلح كسبب لانقراض الدعوى العمومية او ايقاف المحاكمة او ايقاف تنفيذ العقوبة بالنسبة لجرائم الفساد المالي فيما اعتبر الصلح في غيرها من الجرائم مجرد معطى تستند له المحكمة في تقدير العقاب.
ويتبين من الرجوع الى ملابسات ارساء قواعد التمييز أن الدافع لسنها لم يكن يستند لمعيار خطورتها بقدر ما كان الدافع اليه الرغبة في تحقيق سرعة المصالحة مع دوائر المال والأطراف السياسية وذلك دون اعتبار حقيقي للآثار التي نجمت عنها أو لدورها في صناعة الاستبداد واستدامته. ويؤدي التوجه التشريعي الى ارساء قواعد تمييزية في تفعيل المحاسبة والمصالحة، وذلك لصالح من تمكنوا بفضل ما لهم من نفوذ مالي وسياسي في تقديم مبدأ المصالحة على مبدأ المحاسبة، فيما بقي مبدأ المحاسبة مطلقا بالنسبة الى الآخرين.
القضاء كموضوع للمحاسبة والاصلاح ضمن معايير العدالة الانتقالية:
يطرح قانون العدالة الانتقالية اصلاح المؤسسات كسبيل ل”تفكيك منظومة الفساد والقمع والاستبداد ومعالجتها بشكل يضمن عدم تكرار الانتهاكات واحترام حقوق الإنسان وإرساء دولة القانون”[19]واستعاض المشرع صلبه عن مقولة التطهير التي كانت تختزل تصور الاصلاح المؤسساتي خلال الفترة الاولى من الثورة ليستبدلها بتصور يقوم على “مراجعة التشريعات وغربلة مؤسسات الدولة ومرافقها ممن ثبتت مسؤوليته في الفساد والانتهاكات وتحديث مناهجها وإعادة هيكلتها وتأهيل أعوانها”[20]. وقد نص القانون صراحة على المؤسسة القضائية والقضاة كموضوع لمشروع الاصلاح وكقطاع يحتاج الى الغربلة.
وفي سياق تحديد الآليات التي سيتم من خلالها تحقيق مشروع الاصلاح والغربلة، أسند القانون لهيئة الحقيقة والكرامة صلاحيات موسعة في البحث والتقصي مسقطا مجمل الحصانات التي قد تعيق بحثها في هذا الصدد، كما مكن الهيئة من حق الاطلاع على الملفات القضائية حتى تلك التي لازالت على بساط النشر[21]. وفي سياق فحص المؤسسات، انتهى القانون الى تصور بعث لجنة صلبة هيئة الحقيقة والكرامة هي “لجنة الفحص الوظيفي وإصلاح المؤسسات” [22] التي تتولى صياغة مقترحات عملية اصلاح المؤسسات المتورطة في الفساد والانتهاكات كما تتولى” تقديم مقترحات لغربلة الإدارة وكل القطاعات التي تستوجب ذلك” وذلك من خلال اصدارها توصيات بالإعفاء أو الإقالة أو الإحالة على التقاعد الوجوبي في حق كل شخص يشغل إحدى الوظائف العليا للدولة بما في ذلك الوظائف القضائية”[23].
ويلاحظ في سياق تعاطي قانون العدالة الانتقالية مع القضاء كموضوع للإصلاح والمحاسبة اغفال التعرض لمؤسسات القضاء التي تولدت عن مسار الاصلاح التشريعي، وفي مقدمها الهيئة الوقتية للقضاء العدلي او مجلس القضاء الاعلى الذي سيخلفها بعد سن الدستور. ومن شأن ذلك أن يؤدي الى سحب اختصاص المحاسبة والإصلاح من هذه الهيئات ليسندها” للجان” دون اعتبار لاختصاصها أو لخصوصية العمل القضائي. وما يزيد هذا الأمر قابلية للنقد هو أن القانون منح اللجنة التي استحدثها صلاحية الاقتراح في سياق الغربلة فقط، من دون أي صلاحية تقريرية، مما يؤدي الى طرح السؤال حول الزامية اتباع توصياتها من الهيئات التقريرية وحول الجهة التي سيسند لها النظر في تفعيل توصياتها.
غياب التوجه الاصلاحي في العمل الحكومي:
لم تبادر الحكومة التونسية الى تطوير النصوص الترتيبية التي تتعلق بالعمل القضائي رغم وعودها السابقة في هذا المجال. وفي مقابل ذلك، اتخذت الحكومة قرارات عطلت مسيرة الاصلاح وكشفت عن رغبتها في مواصلة التحكم في القضاء، كما توسعنا في تبيانه بخصوص التعرض الذي قامت به الوزارة في مواجهة الهيئة المؤقتة للإشراف على القضاء (القسم الأول).
وزارة العدل تحافظ على النصوص الترتيبية وتمارس اجراءات تؤكد تمسكها بامتيازاتها:
امتنعت وزارة العدل التونسية ومن خلفها الحكومة عن اعادة صياغة الأمر عدد 436 لسنة 1973 المؤرخ في 21/09/1973 والمتعلق بضبط الوظائف التي يباشرها القضاة العدليون رغم أن الأمر المذكور يكرس الهرمية القضائية ويعيق مجهود الهيئة الوقتية للقضاء العدلي لإعادة تشكيل المشهد القضائي في اتجاه توفير فرص أمام عموم القضاة لتولي الخطط القضائية. كما امتنعت السلطة التنفيذية عن رفع وصايتها على تعاونية القضاة ولم تبادر لتنقيح الامر عدد 553 لسنة 1997 المؤرخ في 31 مارس 1997 المتعلق بإدارة تعاونية القضاة، رغم أن الامر المذكور ادى اعماله لغياب الشفافية في ادارة مستحقات القضاة[24].
وفي مقابل امتناع الحكومة عن الإصلاح، تمسكت بمباشرة قرارات تكرس سعيها لفرض ولايتها على القضاء وكان من اهم القرارات التي أصدرتها الحكومة التونسية ونجحت في تمريرها سنة 2013 مباشرتها تمديد مدة العمل القضائي انتقائيا لقضاة بلغوا سن التقاعد.وبذلك، أعادت وزارة العدل انتاج نظام تفاضلي بين القضاة يمنح الامتياز لمن كان أقرب موقعا وفكرا منها[25].
[1] تعد لجنة التوافقات استحداثا غير منصوص عليه بالنظام الداخلي للمجلس الوطني التأسيسي تولى رئيس المجلس الوطني التاسيسي الدكتور مصطفى بن جعفر استحداثها بموافقة من نواب المجلس الوطني التأسيسي .اذ وعلى اثر الخلافات التي نجمت بين اعضاء المجلس بمجرد ايداع لجنة الصياغة لمشروع النص الدستوريالمؤرخ في 01/06/2013 تبين ان مناقشة المشروع بالجلسة العامة يهدد باسقاطه مع ما يعنيه ذلك من لجوء للاستفتاء و ما يطرحه الامر من مخاطر على الانتقال الديموقراطي .بادر رئيس المجلس الى اقتراح ارساء لجنة توافقات تجمع الكتل النيابية وممثلين عن النواب غير المنتمين تتولى صياغة توافقات واسعة حول المسائل الخلافية بالتشاور مع الخبراء و بالتنسيق مع فعاليات المجتمع المدني . وباشرت فعليا اللجنة عملها منذ شهر جويلية 2013 ورغم التقطعات التي عرفها عملها بسبب الازمات السياسية و ما يرافق مصير ما توصلت له من غموض على مستوى الزاميته القانونية فقد توفقت اللجان التي دعم الحوار الوطني مكانتها الى صياغة توافقات هامة حول مشروع الدستور اثرت في احكامه بشكل جذري.
[2]لائحة المجلس الوطني لجمعية القضاة التونسيين بتاريخ 28/04/2013
[3]بيان نقابة القضاة التونسيين المؤرخ في 24/04/2013
[4]يتركب المجلس الاعلى للقضاء وفق القانون الاساسي عدد 29 لسنة 1967 كما ينص على ذلك الفصل 06 منه “من–رئيس الجمهورية الذي ترأسه ومن :وزير العدل: نائب الرئيس، الرئيس الأول لمحكمة التعقيب: عضو،وكيل الدولة العام لدى العدل: عضو،وكيل الدولة العام مدير المصالح العدلية : عضو،المتفقد العام بوزارة العدل : عضو،رئيس المحكمة العقارية: عضو،الرئيس الاول لمحكمة الاستئناف بتونس:عضو ،الوكيل العام لدى محكمة الاستئناف بتونس : عضو،رئيس أوّل لمحكمة استئناف بغير تونس يقع انتخابه من زملائه الذينيشغلون خطة رئيس أوّل لمحكمة استئناف بغير تونس لمدة ثلاث سنوات ويعوّضهعند الاقتضاء نظيره في الخطة منتخب: عضو،وكيل عام لمحكمةاستئناف بغير تونس يقع انتخابه من قبل القضاة الذين يشغلون خطة وكيل عاملدى محكمة استئناف بغير تونس لمدة ثلاث سنوات ويعوّضه عند الاقتضاء نظيرهفي الخطة منتخب: عضو،قاضيتين تعيّنان بأمر باقتراح من وزير العدل لمدة ثلاث سنوات : عضوان،قاضيين عن كل رتبة يقع انتخابهما من قبل زملائهم لمدة ثلاث سنوات ويعوّضهما عند الاقتضاء قاضيان منتخبان: عضوا ويكون وكيل الدولة العام مدير المصالح العدليّة عضوا مقرّرا للمجلس كما يتولّى تهيئة أشغاله وحفظ وثائقه.
[5]يتركب مجلس التأديب من الرئيس الاول لمحكمة التعقيب رئيس الهيئة بصفته رئيس مجلس التاديب و ووكيل الدولة العام لدى محكمة التعقيب و ووكيل الدولة العام مدير المصالح العدلية وثلاثة قضاة من اعضاء الهيئة المنتخبين بوصفهم اعضاء يضاف لهم المتفقد العام لوزارة العدل بوصفه مقررا عاما لمجلس التاديب دون ان يكون له حق التداول والتصويت
[6]نص الفصل 12 من القانون عدد 13 لسنة 2013 على مبدأ عدم نقلة القاضي بدون رضاه واتى به”لا يمكن نقلة القاضي خارج مركز عمله ولو في إطار ترقية أو تسمية في خطة وظيفية، إلا برضاه المعبر عنه كتابة ولا تحول أحكام الفقرة السابقة دون نقلة القاضي مراعاة لما تقتضيه مصلحة العمليقصد بمصلحة العمل المصلحة الناشئة عن ضرورة تسديد شغور أو التسمية بخطط قضائية جديدة أو مواجهة ارتفاع بيّن في حجم العمل بإحدى المحاكم أو توفير الإطار القضائي عند إحداث محاكم جديدة
. ويتساوى جميع القضاة في تلبية مقتضيات مصلحة العمل ولا يمكن دعوة القاضي إلى تغيير مركز عمله تلبية لمقتضيات مصلحة العمل إلا بعد ثبوت عدم وجود راغبين في الالتحاق بمركز العمل المعني ويدعى للغرض القضاة المباشرون بأقرب دائرة قضائية مع اعتماد التناوب وعند الاقتضاء يتم إجراء القرعة
. وفي هذه الصورة لا يمكن أن تتجاوز مدة المباشرة تلبية لمقتضيات مصلحة العمل سنة واحدة ما لم يعبر القاضي عن رغبة صريحة في البقاء بالمركز الواقع نقلته أو تعيينه به
[7]نص الفصل 15 من قانون الهيئة على انه ـ يرفع التظلم من قرارات الترقية والنقلة والتسمية بالخطط الوظيفية إلى الهيئة في أجل أقصاه سبعة أيام من تاريخ نشر الأمر المتعلق بها بالرائد الرسمي للجمهورية التونسية وتبت الهيئة في مطالب التظلم في أجل أقصاه سبعة أيام من تاريخ تقديم المطلب . ويمكن الطعن في هذه الأوامر أمام المحكمة الإدارية وفقا لمقتضيات القانون عدد 40 لسنة 1972 المؤرخ في غرة جوان 1972 والمتعلق بالمحكمة الإدارية على أن يتم البت في النزاع في أجل لا يتجاوز ستة أشهر . كما اتى بالفصل 16 المتعلق بالتاديب يكون الطعن في القرارات التأديبية طبق أحكام الفقرة الرابعة من الفصل 3. وتحال القرارات على وزير العدل لتنفيذها حال استيفاء آجال الطعون أو صيرورة القرار باتا
[8]انهت استقالة حكومة السيد علي العريض بداية سنة 2014 وتولي الحكومة التوافقية للسيد مهدي جمعة حالة الصراع بين الحكومة التونسية وهيئة الاشراف على القضاء العدلي بعد ان تعهد وزير العدل الجديد الاستاذ حافظ بن صالح بالتراجع عن رفض تفعيل الحركة القضائية وبعد ان اصدرت المحكمة الادارية التونسية قرارا قضائيا يؤكد عدم شرعية رفض التصديق على الحركة القضائية الجزئية.