مركز الدفاع المدني الهيئة الصحية الذي دمرته إسرائيل واستشهد فيه 6 عناصر
في الأوّل من تشرين الثاني 2024 أغار الطيران الحربي الإسرائيلي على أحد أحياء بلدة مشغرّة في البقاع الغربي، وكان العنصر المتطوّع في الدفاع المدني محمد نصّار قد عاد لتوّه من عملية إنقاذ لثلاثة جرحى. من موقع الغارة الذي حدّده نداء الاستغاثة، علم رئيس مركز الدفاع المدني التابع للهيئة الصحية في سحمر (القطاع الشرقي من البقاع الغربي) علي عقل، أنّ الغارة استهدفت منزل شقيق العنصر نصّار وأنّ ولديه (ولدي الأخير) موجودان فيه. طلب عقل من العناصر ألّا يخبروا نصّار بموقع الغارة وأن يخرجوا من دونه. وبعد نحو عشر دقائق من انطلاق سيارات الإنقاذ من المركز، علم نصّار بموقع الغارة. لم يكن هناك سيارة في المكان ليقودها ويلحق بهم، ولم يتمكّن زملاؤه من ثنيه عن الذهاب. وسحمر تبعد عن مكان الغارة في مشغرة 15 كليومترًا، إلّا أنّ ذلك لم يمنع نصّار من الركض كلّ تلك المسافة محاولًا سلوك طرقات في الوعر. هناك وعلى ركام المنزل المدمّر لم يقف منتظرًا الآلات التي كانت تعمل على رفع الأنقاض، بدأ يحفر بيديه وينادي على ولديه، من دون جدوى إلى أن وصلت عملية رفع الركام إليهما لينتشلهما بيديه نفسها شهيدين.
قصة فقدان نصّار لولديه وانتشاله كعنصر إنقاذ لهما ليست سوى فصل من معاناة عناصر الدفاع المدني التابع للهيئة الصحية في القطاعين الشرقي والغربي في البقاع الغربي وتحديدًا في المنطقة التي شملها العدوان الإسرائيلي والواقعة ما بعد بحيرة القرعون على كتف الحد بين البقاع والجنوب. استشهد ابنا العنصر نصّار، وخسر أيضًا 12 عنصرًا من زملائه في المركز سقطوا شهداء الاستهداف الممنهج لهم، ستّة منهم استشهدوا خلال تدمير مركزهم في سحمر في 30 أيلول 2024، فيما سقط الستة الآخرون في استهدافهم بغارات خلال تنفيذهم عمليات إنقاذ، ومع هؤلاء أصيب 15 عنصرًا آخر بجروح بعضها خطير.
يوثق التقرير الموجز الذي أصدره المجلس الوطني للبحوث العلمية حول الاعتداءات الإسرائيلية والأضرار القطاعيّة للعدوان الإسرائيلي المستمر حتى هذه اللحظة على لبنان برغم سريان اتفاق وقف إطلاق النار منذ 27 تشرين الثاني 2024، أنّ خسائر القطاع الصحّي البشرية في لبنان لغاية 27 تشرين الثاني 2024 بلغت 222 شهيدًا و330 جريحًا نتيجة الاستهداف الإسرائيلي الممنهج التدميري لهذا القطاع. ومع سعي إسرائيل، من ضمن هذا الاستهداف، إلى منع عمليات إنقاذ المصابين والجرحى وإسعافهم وانتشال الشهداء، بلغت الاعتداءات التي طالت القطاع الإنقاذي والإسعافي 230 اعتداءً طال 94 مركزًا إسعافيًا وإنقاذيًا و250 سيارة إسعاف وإنقاذ، وطالت الهيئات والجمعية الإنقاذية والإسعافية في لبنان كافة.
توثيق المجلس الوطني للبحوث العلمية للعدوان الإسرائيلي على القطاع الطبي والإنقاذي
في خضمّ هذا الاستهداف الممنهج لقطاع محميّ بموجب القانون الدولي والاتفاقيات والقوانين التي ترعى الحرب، وثقت “المفكرة” ووسائل إعلام أخرى الاستهداف المباشر لمركز الدفاع المدني اللبناني وتدميره في بعلبك واستشهاد 14 عنصرًا كانوا بداخله، وكذلك استهداف مركز الدفاع المدني التابع للهيئة الصحية الإسلامية في الباشورة بيروت استشهد نتيجته سبعة عناصر ومدنيان كانا يمرّان بالقرب منه، وكذلك قصف مركز الإنقاذ والطوارئ التابع لجمعية الإسعاف اللبناني في الهبارية مما أدى إلى استشهاد 7 عناصر، ومركز الدفاع المدني التابع لاتحاد بلديات بنت جبيل في برعشيت حيث استشهد 14 عنصرًا منعت إسرائيل انتشال أربعة من بينهم علقوا تحت الركام لأكثر من شهر، إضافة إلى حوادث استشهاد عناصر ومنقذين في حالات متفرّقة أخرى.
مجزرة الإسعاف المنسيّة في سحمر
لكن جريمة استهداف مركز الدفاع المدني التابع للهيئة الصحية الإسلامية في سحمر عند الواحدة و32 دقيقة من فجر 30 أيلول 2024 واستشهاد ستة من عناصره فورًا وإصابة 8 عناصر بجراح متوسطة وخفيفة وعنصر بجراح خطيرة أدت لاحقًا إلى استشهاده، بقيت طي النسيان إلى أن وصلت “المفكرة” إلى بلدة سحمر، والأهمّ لتلمّس المعاناة الكبيرة التي عاشها المنقذون والمسعفون التابعون للمركز في المنطقة ومنها استشهاد ثلاثة مسعفين ووقوع ثلاثة جرحى في صفوفهم في ثلاث غارات استهدفت ثلاث عمليات إنقاذ من بلدة القطراني في 22 تشرين الثاني 2024. واستشهد أيضًا ثلاثة عناصر آخرين في استهدافات فردية خلال تنفيذهم عمليات إنقاذ وإسعاف مما رفع حصيلة خسائر المركز البشرية إلى 12 شهيدًا وأكثر من 15 جريحًا.
والمركز الذي عاينته “المفكرة” خلال تفقدها سحمر وأهلها، ثُبّتت عليه لافتة تؤكّد هويّته الإنقاذية والإسعافية، فيما كان شعار الدفاع المدني ما زال واضحًا على بقايا السيارات الـ 12 المدمّرة أمامه.
يقول مدير المركز علي عقل لـ “المفكرة”: “كنّا 14 عنصرًا في المركز متأهّبين لخدمة الناس الصامدة في القطاعين الشرقي والغربي في القطاعين الغربي والشرقي بعد بحيرة القرعون، والذي يضمّ سحمر ويحمر ولبايا وزلايا وقليا (شرقي) ومشغرة وعين التينة وميدون والقطراني (غربي)، والمركز مضاء وواضح المهمة والهوية”. يتابع عقل: “فجأة استهدف الطيران الحربي الإسرائيلي المركز بمن فيه وما فيه بصاروخين أدّيا إلى تدميره وإشعال قوارير الأوكسيجين التي يتزوّد بها المسعفون خلال عمليات الإنقاذ، ممّا أدى إلى انتشار النيران في كلّ المركز ورفع نسب الإصابات، بعدما استشهد 6 عناصر”.
أطلق الجرحى من عناصر المركز نداءات استغاثة إلى الهيئات الإسعافية في المنطقة والبقاع الغربي، لكنّهم وسط النيران التي استشرت بشراسة، نتيجة تفجّر قوارير الأوكسيجين، كان عليهم وهم جرحى أن ينقذوا بعضهم البعض بمعاونة من أسرع لنجدتهم من المواطنين الصامدين في سحمر. “صرنا ننقل بعضنا ع المستشفى ونحن جرحى”، يقول عقل. وكان من حظّ العناصر المصابين في استهداف المركز وجود سيارة في مهمة إسعافية خارجًا، وكان عناصرها في طريق عودتهم إليه قبل استهدافه، فقاموا بالمساعدة في نقل من تبقى من الجرحى إلى مستشفى البقاع الغربي في سحمر والتابع لجمعية الهيئة الصحية التي أرسلت مسعفيها من المستشفى أيضًا لنجدتهم.
أكثر ما أحزن رئيس المركز علي عقل أن يرى رفاقه الذين يسرعون لإنقاذ المصابين وانتشال الشهداء وقد تحوّلوا إلى مستهدفين مصابين بين شهيد وجريح، ومضطرّين في الوقت نفسه للعضّ على جراحهم وتجاهل دمائهم التي تسيل وأوجاعهم والخطر على حياتهم والإسراع لنجدة بعضهم البعض. “نحن المحميون وفق القانون الدولي، العاملون في إسعاف الناس وإنقاذهم، كنّا مجردين من الحماية القانونية والمستباحة من العدوان الإسرائيلي المدعوم دوليًا”، يضيف. والأصعب على عقل، إضافة إلى فقدانه من كان يعيش معهم “أكثر من عائلاتنا نبقى معًا”، هي الكلمات التي كان عليه أن يجيب بها على اتصالات أهالي وأسر العناصر الشهداء خصوصًا، وكذلك المصابين، عندما يتّصلون للاطمئنان عنهم.
وكانت “المفكرة” قد أعدّت إخبارات عن جرائم حرب تخصّ استهداف الطواقم الطبية والإنقاذية والإغاثية، مستندة إلى “تمتع الطواقم الطبية والإغاثية بحماية خاصة” تمنع أستهدافها خلال العمليات العدائية. وأكدت أنّ “الحماية تطال وسائل النقل الطبية (العسكرية والمدنية) وجهات الإغاثة المرتبطة بأحد أطراف النزاع طالما أنها مخصصة للأغراض الطبية والإغاثية حصرًا”. كذلك تفرض قوانين الحرب أن يتم “احترام وحماية الأجهزة المدنية للدفاع المدني وأفرادها، ويجب السماح لهم بأداء مهام الدفاع المدني المنوطة بهم، إلّا في حالة الضرورة العسكرية الملحّة”. وأشارت “المفكرة” استنادًا إلى القانون الدولي إلى أنّ المدنيين والطواقم الطبية “لا يفقدون هذه الحماية بمجرّد انتمائهم إلى هيئات مدنية تابعة لمجموعة مسلّحة منظّمة”.
سيارات الدفاع المدني التي جددوها بعد تدمير سياراتهم خلال العدوان على مركزهم
عدوان ممنهج على عناصر المركز
لم يقف العدوان الإسرائيلي عند تدمير المركز على من فيه وبما فيه، بل استكمل استهدافه الممنهج لعناصر المركز، وبعد أربعة أيام من تدمير مركز سحمر نفّذ غارة على منزل أحد المسعفين في قليا الذي تمركز هناك ليكون قريبًا من المتبقين في البلدة المستهدفة أيضًا. فدمّر بيته ليستشهد تحت ركامه. وبعد يومين، استهدفت إسرائيل عنصرين آخرين من الدفاع المدني عينه واستشهدا خلال خروجهما في عملية إنقاذ.
إجرام استهداف عناصر الدفاع المدني لم يقتصر على سقوط شهداء وجرحى من بينهم وتدمير سياراتهم ومركزهم فقط، بل صار الناس يخافون منهم ومن وجودهم بينهم “إذا فتنا ع دكّان لنشتري اللي ما يزعبنا نشوف بعيونه خوفه من استهدافنا ونحن عنده، محطات بنزين ما عادت تقبل نصفّ سياراتنا لنزوّدها بالوقود من خراطيمها خوفًا من استهدافها وتدميرها، فصرنا نبعت مدنيين يعبّوا لنا بالغالونات من المحطات ونرجع نفرّغهم بالسيارات”. حتى عائلاتهم توقفوا عن زياراتها “صرنا نخاف نحن كمان نؤذي عائلاتنا ونتسبّب باستهداف أماكن تواجدهم بسببنا، كانت إيّام كتير صعبة”.
يعود مدير المركز علي عقل إلى يوم حصول استهداف مباشر وممنهج لثلاث عمليات إسعاف لعناصر المركز خلال ساعة وعشر دقائق فقط في 22 تشرين الثاني. يومها وعند الساعة 11 و38 دقيقة من قبل الظهر، وصل نداء استغاثة إلى مركز سحمر إثر غارة للطيران الحربي على مبنى في بلدة القطراني أدّت إلى سقوط شهداء وجرحى. عندما وصلت سيارة الإسعاف وعليها شعار الدفاع المدني-الهيئة الصحية تمّ استهدافها بغارة من مسيّرة فاستشهد عنصر وأصيب آخر بجروح. على الفور أرسل المركز نفسه عنصرين في سيارة ثانية لإسعاف زملائهم وعند وصولها تمّ استهدافها أيضًا فسقط الإثنان شهيدًا وجريحًا. وفور وصول السيارة الثالثة التي انطلقت لإسعاف عناصر السيارة الثانية تم استهدافها وسقط شهيد وجريح آخرين. ثلاثة شهداء وثلاثة جرحى من عناصر الدفاع المدني في ثلاث استهدافات متتالية خلال ساعة وعشرة دقائق، استشهد نتيجتها أيضًا مواطن مدني حاول مساعدتهم.
ولكن رغم كلّ هذه المعاناة، حصلت قصص جميلة تبلسم القلوب الدامية من كل ما يحصل: “بحرب مماثلة بتتلمّسي المعدن الحقيقي للناس وجوهرها” يقول عقل. ويضيف: “وهذا ما حصل معنا في الفريق الذي أبدى تفانيًا مدهشًا”. كان العناصر الجرحى يضمّدون جراحهم سريعًا ويعودون إلى الخدمة ليساهموا حسب قدراتهم في استمرار عمليات الإنقاذ والإسعاف “أحد العناصر جادل الطبيب الذي سطّر له تقريرًا طبيًا ليرتاح من إصابته، فرفض وقال له ‘ما بني شي يا حكيم مش محتاج أقعد بالبيت'”، يتابع عقل. يحصل هذا بينما هم مستهدفون من إسرائيل “يعني أي حدا بيقدر يعتبر التقرير الطبي ذريعة مش بس ليرتاح وإنّما ليكون أيضًا خارج دائرة الاستهدافـ، ومع ذلك كان يرفض. وهذا أمر عظيم وكبير ومهم يثبت مناقبية هؤلاء”، يقول عقل ولا يضيف، ليختم بالجزء الجميل من الحكاية المرّة.
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.