حريق المكب ودخانه الذي ما زال يتصاعد من مكب سرار ويمرض ناس القرى المحيطة وخصوصًا القشلق وشير حمارين
على سريرها في بيتها في بلدة القشلق العكارية، تستقبلنا صبحية وهي جالسة تتنفس عبر جهاز مثبّت في أنفها، عاجزة عن التمدّد بسبب ضيق التنفّس الذي يربض على صدرها، فيما لا يخرج صوتها من بين شفتيها اللتين تتحركان بصمت. كانت السيدة الخمسينيّة قد خضعت لعملية وجلسة علاج كيميائي نتيجة إصابتها بالسرطان، وتزامنت عودتها إلى منزلها مع اشتعال مكبّ سرار المحاذي للقشلق، فسبقها الدخان الأسود المسموم إلى غرفتها، بعدما تغلغل في أحياء البلدة وفي رئات بناتها. تسبّب اشتعال المكب العشوائي منذ 14 يومًا بنقل العشرات من الأطفال والمسنّين إلى مستشفيات عكار في نوبات اختناق وارتفاع ضغط دم وغيبوبة، وصبحية من بينهم. يومها أمر الطبيب المعالج عائلتها بإبعادها عن البلدة ريثما يهدأ حريق المكبّ “وإلّا صبحية بتروح من بين إيديكم”.
مع صبحيّة ونحو 25% ممّن هجّرهم اشتعال مكبّ سرار من منازلهم في القشلق، التهمت النيران الممتدّة من سرار، حيث المكبّ، إلى أراضي البلدة، مئات كعوب الزيتون، وعشرات دونمات القمح المحصود مع الشعير، ومعظم مساحات رعي المواشي، ومعها نحو 5000 طير من مزارع الدواجن، إضافة إلى خلايا النحل التي أخرجها أصحابها من القفران على أمل تهوئتها، بعدما نفقت الملكات مع العاملات، وهم يستعدّون لقطف موسم العسل الصيفي. وتجنّبًا للنيران المستعرّة، أُجلي سكان بعض البيوت تحسّبًا لوصول الحريق إليها، بينما شكّلت طرقات الإسفلت وأجساد شبان القرية مسلحين بأغصان الأشجار وعبوات المياه، مع عناصر الدفاع المدني حاجزًا أمام تمدّدها إلى بعض الوحدات السكنية، ومنها منزل منال المصيطف، وأطفالها الثلاثة.
طالت أضرار اشتعال المكب منذ 14 يومًا نحو 63.5 هكتارًا، وفق تقدير جمعية “درب عكار” التي تهتمّ ببيئة المحافظة وإخماد حرائق غاباتها، ليقضي على 50 هكتارًا من الغطاء النباتي في المنطقة، وهي “المساحة الأكبر المُسجّلة لغاية اليوم للحرائق في عكار”، وفق تأكيد الجمعية نفسها لـ “المفكرة”. ولغاية الساعة ما زال الدّخان المسموم يجتاح القشلق عندما تتّجه الريح غربًا، أما ليلًا، وحين يميل الهواء باتجاه الشرق، يحين دور قرية شير حمارين، جارة مكبّ سرار لناحية سهل عكار ليبدأ نقل المرضى وأصحاب الحالات الهشّة من بينهم إلى المستشفيات اختناقًا، وإثر نوبات سعال حادّ. وحصل أن اتفقت بعض العائلات في البلدتيْن خلال هيجان نيران المكب على تناوب الزيارات “منروح لعندهم بالنهار، وبيجوا لعنا بالليل”، لكي يتعاونوا في مواجهة الكارثة التي حلّت بهم، طالما أن أحدًا من السلطات والإدارات الرسمية لم يسأل عنهم، أو حتى زارهم. دأبهم أنّهم من أهل عكار، التي ليس نسيانها هناك في أقصى شمال لبنان مع ناسها مجرّد تعبير “كليشيه” يستعمله الناس للحديث عن حرمانها، وإسقاطها عن خريطة الإنماء والاهتمام.
ويكفي أن نذكر أنّه بعد 14 يومًا على استمرار احتراق المكبّ، وبعد إثارة القضية في الإعلام بأيام، كلّف رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي الأمين العام للهيئة العليا للإغاثة اللواء محمد الخير بتفقّد المنطقة. وإثر جولة له أمس الجمعة (5 تموز) في القشلق، أكّد الخير أنّه سينقل إلى ميقاتي تقريرًا شفهيًا عن وضع البلدات ليبني عليه في جلسة مجلس الوزراء، واعدًا الأهالي بقرب حلّ مشكلة المكبّ، ليحمّل المسؤولية إلى “صاحب المكّب”، من دون أن يسمّيه: “هيدا مكب خاصّ ولدى صاحبه عقود خاصة مع البلديات وفق ترخيص واضح وضمن تقنيات محدّدة، وهو يتحمّل مسؤولية عشوائية رمي النفايات، وكلّ ما يحدث نتيجة ذلك، وأنا لا أرى أنّه يتمّ تطبيق أي شيء ممّا اتفق عليه لدى السماح له بالعمل”.
ولغاية الساعة، لا يزال سكان عشر بلدات يتمركز مكب سرار بينها يعيشون مأساة احتراق المكب، وإن بدرجات أقلّ من القشلق وشير حمارين المجاورتين مباشرة للمكّب العشوائي، يتأثر أهلها باستمرار انبعاث الغازات السامة مع دخان الحريق المستمر منذ 14 يومًا لغاية كتابة هذه السطور، من العبودية على الحدود السورية، إلى الشيخ عيّاش، فـ دارين وهيّتلا والتليل والمزاحمة ووادي الحور وعمار البيكات.
وردًا على شكوى الأهالي من استمرار اشتعال المكبّ، قال الخير محاطًا بعدد من سكان محيطه، وبعد اتصاله مباشرة بميقاتي من الميدان: “نحن أتيْنا متأخرين وهذه زيارة استطلاعية، ولكن لازم كل إطفائيات لبنان وكل لعندهم صهاريج مي يتفضلوا يجوا يطفوا المكب لأنّه خطر على البيئة ويهدّد بانفجار بيئي ونحن معكم والرئيس ميقاتي معكم وكلّنا معكم، والمفروض إنّو أصحاب المكبّ هم من يطفئون الحريق وإلّا سنأخذ إجراءات قانونية في حقهم”.
وعلّق ناشط بيئي من منطقة المكبّ بالقول لـ “المفكرة”: “طلعت الدولة بأمّها وأبيها لتطالب معنا، مش لتمدّ لنا يد المساعدة فورًا وتستنفر لتخمد نيران المكب المشتعل للآن”، مضيفًا أنّ اللواء الخير اتصل بوزير الصحة فراس الأبيض وكذلك برئيس الحكومة، و”لكن يبدو أن إخماد حريق يقتل دخانه أهل عكار ويسمّمهم يحتاج إلى جلسة مجلس وزراء في هذه الدولة الفارطة”، يختم ساخرًا. ويقول مواطن عكاري آخر “دولة فارطة أم قضاء معطّل وكذلك الإدارات الرسمية، نحن كأهالي عكار ضحايا كل هذا وسط خلافات بين مُشغّل مكب سرار خلدون الياسين من جهة وأشقائه من جهة ثانية، وإطلاق النار الحاصل بين الطرفين، من دون إصدار قرارات قضائية فاصلة في الخلافات، بينما يستمر الرمي العشوائي للنفايات و انبعاثاتها وحرائقها المتكرّرة وعصارتها السامة في إمراضنا وتلويث مياهنا وهوائنا وتهجيرنا من قرانا”.
وفي اتصال مع “المفكرة” يحمّل محافظ عكار عماد لبكي مسؤولية إحراق المكبّ لصاحبه “الذي أخذ المعمل وأوقفه ولـ عم يكب بالمكّب عشوائيًا، ولو كان عم يطمر صح ما كان احترق المعمل”، من دون أن يسمّيه أيضًا. ويؤكد لبكي أنه تم تلزيم تشغيل معمل فرز النفايات والمطمر الصحي لـ “شركة الأمانة العربية بـ 2016-2017” (صاحبها خلدون الياسين). ولم يرغب محافظ عكار في الردّ عن أي أسئلة إضافية.
في خضم حريق مكب سرار وأضراره البالغة على البيئة والناس، لم ينس هؤلاء الحديث عن عصارة مياه المكب التي تجتاح مجرى أكثر من 10 ينابيع في “وادي الدلّب” وتسمّم مياه ري مزروعات منطقة الدريب وصولًا إلى سهل عكار، ومعها المياه الجوفية والحوض المائي للنهر الكبير على الحدود مع سوريا. وقد عاينت “المفكرة” بالعين المجرّدة مجرى المياه والعصارة التي حوّلته إلى مياه سوداء بروائح قاتلة.
وفي حين سبق لـ “المفكرة” أن نشرت تقريرًا مصوّرًا عن مأساة الناس في البلدات المحيطة بالمكب، علمنا أنّ لا قرار قضائيًا صدر لغاية الساعة بشأن المسؤولية عن حريق المكّب، برغم تقديم الأهالي المنكوبين شكاوى قضائية ضد المتسببين بالكارثة التي أصابتهم، تحاول “المفكرة” في هذا التحقيق العودة إلى قصة مكب سرار منذ بدايتها والأسباب التي أدّت إلى هذه الكارثة وما تسبّبت من معاناة لأهالي قرى منسية، كما تتوقّف عند الخطوات المتخذة ردًّا على هذه الكارثة. يبقى أنّ أكثر ما يلفت النظر في هذه القضية هو أولًا تأخّر مختلف مؤسّسات الدولة وأجهزتها وحتى وسائل الإعلام التقليدية عن التفاعل مع الكارثة وكأنّ عكار لا تقع على خارطة اهتماماتها وثانيًا خلو خطاب المسؤولين من أيّ إشارة أو إعلان نوايا بإجراء تحقيقات قضائية وصولًا إلى محاسبة المسؤولين عن هذه الكارثة أو فسخ العقود المبرمة مع صاحب المكبّ خلدون الياسين عند الاقتضاء. وقد عكس ذلك إمّا سوء تقدير حجم الكارثة أو تطبيعًا مع المخالفات مهما تسببت فيه من كوارث ومعاناة لأهالي المناطق.
حكاية مكب سرار
نُسب اسم مكب سرار إلى بلدة سرار، إحدى بلدات الدريب الأوسط التي تتربّع على مجموعة من التلال وتبعد مسافة 1.4 كيلومترًا عن الحدود السورية التي تفصلها عنها العبّودية والنهر الكبير، وتعود ملكيّتها إلى أسعد رشيد المرعبي، أحد بكوات عكار، وهو جد ملّاكها الحاليين خلدون الياسين (المرعبي) وأشقائه ووالدته (كوارثة عن أبيه، زوجها).
بدأ خلدون الياسين، بكر العائلة، عمله في النفايات على حافلة متواضعة، يجمع فيها نفايات البيوت، ويرميها في أرضه. مع تطوّر أعماله وتحسّن أحواله، اقتنى آليات إضافية وبدأ برمي النفايات في أرض العائلة في سرار، بعد أن اتفق مع عدد من بلديات المنطقة، وكان ذلك قبل ربع قرن من اليوم.
عند اندلاع أزمة النفايات في 2015 وحراكها الاحتجاجي والمطلبي في بيروت والمناطق، تمّ التسويق لمكب سرار لاستيعاب نفايات بيروت، ممّا أدى إلى إطلاق حراك “عكار منّا مزبلة” رفضًا لتحويل المحافظة إلى مكب للنفايات من عكار إلى بيروت. ويومها تعرّض الناشطون والناشطات الذين اعتصموا قرب المكبّ في المسافة الفاصلة بينه وبين قرية شير حمارين إلى إطلاق نار قالوا إنّه من حراس المكّب وبأمر من الياسين الذي اشتدّ عوده، وكان قد أسس شركة “الأمانة العربية” التي أبرمت عقودًا مع معظم بلديات عكار في غياب أيّ خطة رسمية للمحافظة ونفاياتها.
وعلى وقع استقبال عكار النسبة الأعلى من اللاجئين السوريين مع البقاع الغربي، ومن ضمن المساعدات الأوروبية تحت عنوان المجتمع المضيف، خصّص الاتّحاد الأوروبي تمويلًا لإنشاء مطمرين صحيّين ومعمل فرز ومعالجة في سرار، بإشراف مكتب وزير الدولة لشؤون التنمية الإدارية، وفي إثر موافقة مجلس الوزراء ضمن خطة الوزير السابق أكرم شهيب في 9 أيلول 2015.
وعلى صفحته على الإنترنت، تقول معلومات “برنامج إدارة النفايات الصلبة” في مكتب وزير الدولة لشؤون التنمية الإدارية (SWMP) إنّ معمل سرار، الذي بدأ العمل بإنشائه في 2017 وانتهى في 2020، يعالج النفايات الصلبة والتخلّص منها الناتجة من كلّ بلديات عكار، ومجموعها 300 طن في اليوم الواحد، بالاعتماد على تقنيتي: المعالجة الميكانيكية والمعالجة البيولوجية.
ورست مناقصة بناء المعمل على شركة حمّود، والمطمر على شركة معمار، وفق ما أكد رئيس اتحاد بلديات ساحل ووسط القيطع أحمد المير لـ “المفكرة”، مشيرًا إلى أنّ كلفة المعمل وتجهيزاته لامست عتبة 6 إلى 7 ملايين دولار في حينه (2017-2019)، وأنّ مناقصة التشغيل رست على شركة “الأمانة العربية” لصاحبها خلدون الياسين، صاحب الأرض، وأنّ اتحاد البلديات استأجر نحو 600 ألف متر مربع (60 هكتارًا) منه (من الياسين) مقابل 600 مليون ليرة لبنانية، دفعها الاتحاد على سعر 1500 ليرة للدولار في حينه، أي قبل الأزمة.
ويردّ المير عدم تشغيل الياسين معمل الفرز والمطمر الصحي إلى الأزمة الاقتصادية التي عصفت بلبنان في خريف 2019 “كان الاتّفاق على أساس دولار 1500، على أن تدفع الدولة 25 دولارًا على طن النفايات، وهي (الدولة) أصرّت على سعر 1500 ليرة مقابل الدولار، فيما رفض الياسين العمل بهذا السعر لأنّه ما بتوفّي معه طبعًا”، وفق المير. وأكد رئيس اتحاد بلديات وسط وساحل القيطع أنّ خلدون الياسين هو الذي سيتولّى تشغيل المعمل والمطمر بعد تأمين التمويل اليوم، كونه الفائز بالمناقصة.
بالنسبة للمطمر الصحي، أوضحت مصادر متابعة لـ “المفكرة” أنّ شركة معمار، متعهّدة المطمر، لم تستكمل الالتزام الذي رسى عليها بعد أن أدرجتها الولايات المتحدة على قائمة لائحة العقوبات.
الخلافات العائلية تفاقم أزمة المكبّ
على مدى ربع قرن، استمرّ خلدون الياسين وشركاؤه من أشقائه في ملكية الأرض، وتحت اسم شركة “الأمانة العربية” في جني الأرباح من جمع واستقبال نفايات نحو 180 بلدة عكارية، حيث أكد أحد رؤساء إحدى البلدات العكارية الصغيرة لـ “المفكرة” أنّ بلديته الصغيرة، على سبيل البيان وليس الحصر، تدفع مئة دولار كمعدل وسطي يوميًا على نفاياتها لياسين. وأكد العديد من أهالي القرى المحيطة بالمكّب لـ “المفكرة”، أنّ الشركة تستقبل نفايات من كلّ الأنواع “ومن بينها براميل لا نعرف محتواها، وطبعًا نفايات طبّية من العديد من مستشفيات عكار وغيرها من المحافظات، وهذا ما رأيناه بأعيننا، وكذلك تأتي كميونات من طرابلس والكورة أيضًا خلال الليل”. ونفى المير هذا الكلام، معتبرًا أنّ “الياسين استمر في إدارة المكب عبر الفرز اليدوي لتجنيب عكار أزمة النفايات”. وتبيّن لدى تدقيق “المفكرة” في كلام الأخير، أنّ الفرز هنا يحصل عبر تجار الخردة لما يمكن بيعه من حديد وبلاستيك وزجاج صالح لإعادة التدوير، بينما تُرمى بقية النفايات، وعلى رأسها العضوية، وتشكل ما نسبته 60% من النفايات ومعها أنواع النفايات الأخرى، عشوائيًا في سرار.
وانفجرت أزمة مكبّ سرار التي توّجت بحرق المكبّ في 13 حزيران الماضي، مع تفاقم الخلافات بين خلدون الياسين وأشقائه. فقد نجح خلدون، وفق أهالي المنطقة، في إقناع أشقائه ووالدته، وهم شركاؤه في وراثة بلدة سرار، في منحه إدارة أراضي العائلة لصالح شركة “الأمانة” على أن تكون للعائلة ككل، لاستثمار الأرض كمكب للنفايات. وبذلك تمكّن خلدون الياسين، وهو بكر العائلة من الاستحواذ على 90% من أراضي سرار. وبعد وفاة والدته واستحواذه على حصتها، وخلافاته حتى مع أبنائه من زواجه الأول وإرغام اثنين من ثلاثة على توقيع تنازل لصالحه عن حصصهما في شركة “الأمانة العربية”، حوّل الأخيرة إلى شركة “الأمانة الدولية” لإضعاف مطالب أشقائه قضائيًا.
وأثرت الخلافات ضمن عائلة الياسين على سير العمل في مكبّ سرار حيث حصلت حوادث إطلاق نار على الشاحنات المتوجهة نحو المكب وهو ما أدّى إلى توقفه أكثر من مرّة، وبالتالي إلى تراكم النفايات في شوارع البلدات العكارية، ومنها عاصمة عكار حلبا، التي لا تقل كلفة نفاياتها يوميًا عن 350 دولارًا تدفع لمكب سرار.
ويتحدّث الأهالي عن اصطفافات لفعاليات ونواب من عكار على ضفتي الخلاف، خصوصًا أنّ خلدون الياسين، ونتيجة توسّع مملكته المادية يتمتّع بعلاقات قويّة مع العديد من هؤلاء، فيما دخل مع أشقائه عدد من فعاليات المنطقة في شراكة عبر شركة جديدة تسمى “شركة الشمال للبيئة المستدامة”. وحصلت “المفكرة” على مستند يؤكّد أنّ ملكيّتها تعود إلى كل من محمد رشيد خالد الياسين والنائب محمد طارق طلال المرعبي (ابن النائب السابق طارق المرعبي، وحفيد النائب السابق طلال المرعبي) وخالد فوزي المرعبي، ومعن خالد الياسين، وحذيفة خالد المرعبي وسحر خالد المرعبي، على أساس 125 سهمًا لكلّ منهم، باستثناء معن خالد المرعبي الذي يملك 375 سهمًا من ألف سهم. ورصدت “المفكرة” خلال زيارتها المكب بعد الحريق آليات أشقاء خلدون الياسين وهي تحفر في الأرض التي ما زالوا يملكونها والمحاذية للمكّب الرئيسي، وهي بحسب المير لا تتخطى 10% من مساحة سرار، وذلك لإنشاء مكب جديد. ويعتبر محافظ عكار عماد لبكي أنّ افتتاح طرف ثان لمكب في سرار “يخدم بلديات المنطقة التي تحصل على أسعار تنافسية”، مؤكدًا أنّ هذا الواقع “خفّض كلفة النفايات 50% على القرى والبلدات”. وحصل خفض كلفة نقل واستقبال النفايات بعد فتح أشقاء خلدون الياسين مكبًا ثانيًا في سرار على ما يملكونه من أرضها، ونجح خلدون في وقفهم عن العمل أكثر من مرّة. وبقي عمل شركة “الشمال للبيئة المستدامة” رهن الخلافات العائلية وعدم بتّ القضاء في هذا الخلاف وسط ادعاء خلدون الياسين من جهة وأشقائه من جهة ثانية امتلاك الحصة الأكبر من أرض سرار، تزامنًا مع اصطفافات داعمة من مؤثرين في المحافظة مع طرف ضد الآخر وبالعكس.
تمويل لتشغيل معمل الفرز والمعالجةوإنشاء مطمر صحي
أدّى الحريق الأخير في مكبّ سرار إلى مفاقمة تفجّر الأزمة، وسط اتهامات بتعمّد إحراقه من دون بتّ القضاء في الأمر رغم مرور 14 يومًا على الحادثة، إلى الإعلان عن خطوات لتسريع العمل على تشغيل معمل الفرز وإنشاء المطمر الصحي. وفي هذا الإطار يؤكد وزير البيئة في حكومة تصريف الأعمال ناصر ياسين لـ “المفكرة” أنّ هناك تمويلًا من المرفق البيئي العالمي عبر البنك الدولي لإعادة تشغيل معمل الفرز والمعالجة في منطقة سرار، حيث يوجد المكبّ الحالي، وأنّ العمل سيبدأ قريبًا بإشراف وزارة البيئة (بعد اتخاذ مجلس الوزراء قرارًا بنقل الصلاحية إليها من مكتب وزير الدولة لشؤون التنمية الإدارية)، وعبر اتحاد بلديات ساحل ووسط القيطع العكاري”. ويبلغ تمويل البنك الدولي 8.8 مليون دولار، وفق الوزير ياسين، منها ستة ملايين مخصّصة لعكار وإقليم التفاح مناصفة، إضافة إلى مليوني دولار لمحطّات رصد نوعيّة الهواء في كل لبنان.
ولكن ماذا عن المكب الحالي الذي يحوي مئات آلاف الأطنان من النفايات العشوائية؟ يردّ ياسين أنه سيتمّ تجهيز مطمر صحي وفق معايير بيئية تزامنًا مع تشغيل معمل الفرز. وعن وضع معمل الفرز بعد خمس سنوات على عدم تشغيله بعد انتهاء تجهيزه في 2019، يؤكد ياسين أن تقييم فريق وزارة البيئة للمعمل يؤكد أنه بحاجة لصيانة طفيفة غير مكلفة وأن الآلات ما زالت تعمل، مشيرًا إلى أنّ التمويل “سيُصرف على تشغيل المعمل وخلية الطمر الصحي ومحطة معالجة عصارة المكب وكذلك معالجة المكب القديم”. وعما إذا كانت شركة الشمال للبيئة المستدامة ستشارك في مجمل هذه العملية؟ يجيب ياسين أنّ “إحدى الشركات (مش متذكر اسمها) طلبت ذلك، وقلنا لهم قدّموا دراسة أثر بيئي ومعه موافقة من اتحاد بلديات المنطقة مع كل أوراقكم لنبتّ في الأمر”، مؤكدًا أنّه يحقّ لهم “إنشاء مطمر صحّي طالما التزموا بالقوانين”. ويؤكّد وزير البيئة أنّ خلدون الياسين ما زال لديه تسع سنوات في إدارة مكب سرار وفق العقد الذي حاز عليه قبل ست سنوات لمدة 15 عامًا.
البنك الدولي
وردّاً على أسئلة “المفكرة”، يردّ فريق عمل البنك الدولي، وإثر تقييم وضع معمل الفرز في سرار، أنّ المعمل لا يزال بحالة جيدة وهو ما تمّ التثبّت منه من خلال الزيارات التي قام بها فريق البنك الدولي، علمًا أنّه يحتاج إلى إعادة تأهيل طفيفة قبل مباشرة العمل. وكان جواب فريق البنك الدولي بشأن قدرة المعمل الاستيعابية واضحًا لجهة خدمته “قضاء عكار فقط، حيث تبلغ قدرته الاستيعابية 300 طن يوميًا، ولا يمكنه أن يخدم أي أقضيّة أخرى”، وأن مشروع UPOPs، المموّل بمنحة من مرفق البيئة العالمية (GEF) والذي تنفّذه وزارة البيئة، سيساهم في تمويل إنجاز بناء مطمر النفايات الصحّي في سرار – الذي تم حفره أصلًا في عام 2019 بتمويل من الاتحاد الأوروبي. وسيدعم المشروع أيضًا عمليات إعادة التأهيل البسيطة التي يحتاجها معمل الفرز. وستُنظّم الوكالة المنفّذة لمشروع UPOPS – مكتب الأمم المتحدة لخدمات المشاريع، مناقصة لاختيار مقاول لاستكمال بناء المطمر الصحي. وتبلغ الميزانية التقديرية اللازمة للمطمر حوالي مليوني دولار أميركي.
ويؤكد فريق البنك الدوليّ أنّه ستتمّ إدارة تشغيل معمل الفرز والمطمر الصحي تحت إشراف اتحاد البلديات، وستدعمه وزارة البيئة (تدعم اتحاد البلديات) لتعيين خبير استشاري للإشراف على العمليات، متوقعا (أي فريق البنك الدولي) أن يبدأ تشغيل معمل الفرز في نهاية العام 2025.
ووفق أجوبة البنك الدولي، “يمتد المشروع من شباط 2023 إلى كانون الأول 2026. ولن يقوم البنك بتمويل تشغيل مرفق المعالجة والمطمر الصحي بعد هذا التاريخ، إذ سيكون ذلك ضمن مسؤولية اتحاد البلديات، إذ يجب على الأخيرة (البلديات) دفع كلفة تشغيل معمل الفرز والمطمر الصحي. كما، ودائما وفق أجوبة البنك الدولي، “ستطلب وزارة البيئة من البلديات جمع رسوم الخدمة من المؤسسات التجارية والأسر لتتمكن من تغطية تكلفة تقديم هذه الخدمة”. وينتظر اقتراح القانون الذي يتيح للبلديات تأمين التكاليف التشغيلية، من فرض رسوم على النفايات، مصادقة مجلس النواب اللبناني. وإلى أن تتمّ الموافقة على القانون، تدعم الحكومة البلديات من خلال الموازنة المركزية.
واللافت أنّ البنك الدولي يحدد مدة المشروع من شباط 2023 ولغاية كانون الأول 2026، أي مضى من زمنه حتى الآن سنة و4 أشهر لغاية الساعة، فيما لم يبدأ بعد العمل في معمل الفرز ولا المطمر الصحي.
مكب سرار: قنبلة موقوتة أم متفجرة قاتلة؟
يعتبر الخبير البيئي الدكتور ناجي قديح الذي سبق أن أعدّ تقريرًا علميًا عن مكب سرار في 2015، أنّ الأخير، كما كلّ المكبّات غير المراقبة في كل لبنان، معرّض للحرائق، سواء افتُعلت هذه الحرائق أم اشتعلت تلقائيًا. وهذا الاحتراق التلقائي يمكن أن يحدث كل عشرة أيام نتيجة اختلاط كافة أنواع النفايات خلال الرمي العشوائي، مشيرًا إلى أنّ النفايات العضوية تشكل 60% من مجمل النفايات في لبنان. ويؤدي تراكم هذه النفايات على ارتفاع مترين أو عشرة أمتار أو عشرات الأمتار إلى التفكك اللاهوائي للنفايات العضوية وتخمرها، وهو ما يولّد غاز الميثان، وهو غاز يكوّن، تحت ضغط ثقل النفايات، مئات الغرف الصغيرة ليتراكم فيها. ومع تسرّب الهواء من خارج هذه الغرف، وإنْ بنسبة 10 إلى 15% ليختلط مع الميثان يتشّكل خليط متفجّر، وتصبح الحرائق تلقائية ويشتعل وينبعث منه دخان، وهو، أي الحريق، محاط من حوله بمواد قابلة للاشتعال.
ويحتوي دخان حرائق المكبّات العشوائية، وسرار واحد منها، على كل أنواع الملوّثات الخطرة على الصحة من غازات ونفايات مختلطة رُميت عشوائيًا، ممّا ينتج آلاف الأنواع من الغازات. كما تتكوّن جزيئات صلبة تحمل موادّ خطرة وسمّية وعالية الضرر على الصحة البشرية، مما يجعلها كوارث مستمرة. وتسبّب هذه الغازات الناتجة عن حرائق المكبات العشوائية أمراضًا كالسرطان وأمراض القلب وضغط الدم المرتفع وأمراض الجهاز التنفسيّ، وتخفّض مناعة جسم الإنسان وتنشر كل أنواع المخاطر والأمراض المميتة، وكلّها بسبب الخلطة العجيبة من الغازات السامة الناتجة عن احتراق النفايات: “يعني كأننا أمام مصانع خطرة أكثر من النفايات الكيميائية، إذ أنّنا نرمي في سلّة النفايات البطاريات وعلب الدواء ونفايات المصانع ومزارع الدواجن والملاحم وفرش الإسفنج التي تحوي مادة Polyurethane التي تنتج الديوكسين عند احتراقها، وهو غاز من أخطر المواد السامة على جسم الإنسان والتعرّض لنسب بسيطة منها تشكّل خطرًا كبيرًا للإصابة بأمراض السرطانات كافة”.
من هنا يؤكد د. قديح أنّ المزابل “هي كارثة لبنان وسوء إدارة النفايات هو الكارثة الصحية والبيئية الأولى في البلاد، ومعها سوء إدارة الصرف الصحي الذي يلوّث المياه السطحية من ينابيع وأنهار ومعها المياه الجوفية”. ويشير إلى أنّ الهواء يحمل هذه الغازات السامة لأكثر من 50 كيلومترًا، وأنّه من الخطأ الاعتقاد أنّ تمدّدها على هذه المساحة يخفف علميًا من نسبة تركيزها، ليقولوا إنّ إبعاد المكبّات العشوائية عن الأماكن السكنية يبرّر إنشاءها، حيث تستمر بعض هذه الغازات السامّة بالدوران بين الهواء والتربة والمياه ونجدها في بيض الدواجن ولحوم المواشي التي ترعى وتشرب في محيط ملوّث بها، ممّا يجعل من دورة الملوّثات هذه ثابتة وخطيرة وتمتد على سنوات طويلة. ويرى أن لا حلّ سوى بإدارة سليمة وبيئية للنفايات، وهي أقلّ كلفة من المكبّات العشوائية القاتلة على الصعد المادية والصحية والبيئية وعلى المجتمع ومجمل الحياة والاقتصاد.
وبالنسبة لعصارة مكبّ سرار، يؤكّد د. قديح أنّها تحتوي على كلّ المواد الكيميائية التي تحتويها أنواع النفايات العشوائية المرمية في المكب من مواد عضوية وغير عضوية وهي تتسبب إضافة إلى تلويثها للمياه الجوفية والمزروعات بالأمراض نفسها التي تتسبب بها انبعاثات الغازات السامة من احتراق المكبّات: “العصارة شبيهة بتركيبتها بالمياه المبتذلة وفيها تلوث عضوي وغير عضوي ومع نفايات المستشفيات الكيميائية، تكتمل خلطة السموم”.
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.