أزمة الكهرباء لا تنتهي. العتمة صارت هي القاعدة، حتى بات الإعلان عن 4 ساعات تغذية خبراً مفرحاً تتناقله المواقع الإخبارية. ولذلك لم يشكل الانقطاع الشامل للكهرباء الذي حصل في منتصف آب وطالت مفاعيله حتى مطار بيروت الدولي حدثاً استثنائياً لكنها كانت المرة الأولى التي يُسجل فيها نفاد أخر قطرة من الفيول في المعامل، بما فيها الاحتياطي.
لماذا وصل الحال إلى هذه المرحلة؟ بحسب محضر جلسة مجلس الوزراء التي عُقدت في 14/8/2024، تبيّن أن شركة “سومو” العراقية أبلغت الجانب اللبناني أن عملية التعبئة سوف تتأخر لغاية أواخر آب بسبب صعوبات لوجستية في عملية الإنتاج. وبما أن النفط العراقي هو المصدر الوحيد الذي يعتمد عليه لبنان للحصول على الفيول، “عمد المجلس إلى البحث عن خيارات بديلة تجنباً للدخول في العتمة الشاملة وتوقف القطاعات الحيوية في البلاد عن العمل”. تجدر الإشارة هنا إلى أن وزارة الطاقة سبق وأبلغت الحكومة أن الاحتياطي المتوفر من الغاز أويل في معامل الإنتاج يكفي لغاية 17/8/2024، إلا أن ذلك لم يستدع أي اجتماع عاجل لها. فمجلس الوزراء لم ينعقد إلا يوم الأربعاء في 14 آب لحل مشكلة ستقع بعد يومين، مع الإشارة إلى أن يوم الخميس كان يوم عطلة (عيد السيدة) فيما يوم الجمعة هو نصف يوم عمل والسبت هو بدوره يوم عطلة. وهذا يشير إلى أن العتمة كانت ستقع لا محالة بالرغم من صدور القرار المتأخر لمجلس الوزراء والذي تضمّن عدداً من الإجراءات، منها:
-الطلب من مؤسسة كهرباء لبنان الشروع بتسديد دفعات من كلفة 43 ألف طن من زيت الوقود العراقي قبل استحقاقها في 23/12/2014 مقابل الشحنات المستلمة (تقدّر كلفتها ب 20 مليون دولار)، على أن تتمّ عمليّة الدفع عن طريق تحويل مؤسسة الكهرباء أموال الجباية بالليرة، والمتأتية من تسديد الإدارات والمؤسسات العامة والمصالح المستقلة لفواتير الكهرباء، إلى حساب المصرف المركزي العراقي.
-الموافقة على إجراء وزارة الطاقة التلزيم النهائي لمناقصة “سبوت كارغو” لشراء كمية 30 ألف طن من الغاز أويل التي كانت الوزارة قد أطلقتها في 10/6/2024 ولزّمتها مؤقتاً في 3/7/2024 من دون أن تلزّمها نهائياً حتى تاريخ انعقاد الجلسة.
ارتباك حكومي يدخل لبنان في العتمة
يتّضح من القرارات المتّخذة أنه كان يمكن لو صدرت قبل ذلك التاريخ تجنّب العتمة، فمن يتحمّل مسؤولية هذا الإهمال؟
للإجابة على هذا السؤال، ينبغي العودة إلى جلسة مجلس الوزراء في 9/7/2024. حينها أشارت وزارة الطاقة إلى أن “توقف مصرف لبنان عن قيد شحنات الفيول العراقي يؤدي إلى تأخر شركة سومو عن تحميل شحنات الفيول العراقي المستقبلية لزوم كهرباء لبنان وبالتالي يؤدي إلى توقف معامل الإنتاج عن العمل”. كذلك تمّ عرض مسألة شراء شحنة “سبوت كارغو” نفسها والتي كان وزير الطاقة وليد فياض، كما سبق ذكره، قد لزّمها مؤقتاً قبل 6 أيام من الجلسة، مبرراً إجراء المناقصة بالسعي إلى زيادة الإنتاج، وبالتالي زيادة التغذية. خاصة أن كهرباء لبنان لم تكن قادرة على إنتاج أكثر من 550 ميغاواط كحد أقصى بالاعتماد على الفيول العراقي إذا توفّر.
ما ينبغي التوقف عنده أن مجلس الوزراء لم يبتّ بالصفقة حينها، لسببين:
-التشكيك بخلفياتها وما كان تردّد عن سمسرات مرتبطة بها وتمّت الإشارة لها بوضوح من قبل عدد من الوزراء ومن رئيس الحكومة شخصياً.
-ما نقله رئيس الحكومة نجيب ميقاتي عن انزعاج عراقي من الصفقة، التي توحي أن لبنان يلجأ إلى العراق للحصول على الفيول مجاناً من خلال عقود تبادل ويتجاهله عندما يريد أن يدفع نقداً.
انتهى النقاش حينها مع تعهّد ميقاتي حلّ المسألة مع العراقيين لناحية تفعيل الاتفاقية التي كانت تعثرت بسبب عدم تحويل مصرف لبنان للأموال المستحقة إلى الحساب الخاص بوزارة المالية العراقية في المصرف. وبالفعل، زار ميقاتي بغداد في منتصف تموز وعاد مطمْئناً إلى حلّ المشكلة. لكن ما حصل أن الحلّ اقتصر على الإفراج عن شحنة حزيران التي كانت وصلت إلى بيروت من دون تفريغها، ولم يظهر بعدها أيّ أثر لشحنة تموز. وهو ما أقلق مؤسسة كهرباء لبنان التي أبلغت اللجنة الوزارية المعنية بقطاع الكهرباء بذلك، ولم تجد إلا إصراراً على أن الأزمة قد حُلّت بالفعل، قبل أن يتبيّن أن “سومو” لا تزال منزعجة من عدم تحويل الأموال إلى الحساب الخاصّ بالعراق في مجلس الوزراء (خلافاً لإعلان مجلس الوزراء أن التأخير يعود إلى أسباب لوجستية). وهو ما يؤكده قرار المجلس نفسه الذي عاد وكلّف المؤسسة الدفع إلى “سومو” من أموالها الخاصة، متجاوزاً قراراً سابقاً له كان أشار إلى أن المؤسسة ستكون مسؤولة عن دفع ثمن الفيول الذي يزيد عن الألف طن، فيما أن الكمية الحالية لا تزال دون الألف طن. وهنا لا بد من الإشارة إلى ما يتردّد عن أن العين تنصبّ على الأموال التي جمعتها كهرباء لبنان والتي سبق أن تخطّت ال 100 مليون دولار، قبل أن تنخفض إلى نحو 80 مليون دولار بعد دفع ثمن الشحنة.
حلّ اللحظات الأخيرة وإجازة حايك
المراوغة الحكومية في التعامل مع ملف “سومو”، متبوعاً برفض الموافقة على شراء شحنة السبوت كارغو (بغض النظر إن كانت الأسباب وجيهة أم لا) جعل المؤسسة تشكّك بالتطمينات التي حصلت عليها والتي تؤكد أن مشكلة العراق قد حُلّت. عمدت احترازياً إذاك إلى إطفاء معاملها في 27 تموز والإبقاء على مجموعة واحدة في الزهراني لتغذية المنشآت الأساسية.
بعد عقد اللجنة الوزارية سلسلة اجتماعات من دون التوصّل إلى حلّ يضمن التغذية، وعلى هامش اجتماع عقد مع البنك الدولي في السراي، في 6 آب، عاد ميقاتي إلى طرح مسألة السبوت كارغو التي كان رفضها في 9 تموز مع المدير العام لكهرباء لبنان كمال حايك طالباً إيجاد آلية لإقرار الصفقة عبر المؤسسة، إلا أن الأخير رفض تنفيذ هذا الطلب من دون تغطية سياسية ربطاً بما كان سمعه في تلك الجلسة عن شبهات تحيط بها، فطلب أمراً من اثنين: إما إصدار قرار في مجلس الوزراء بذلك وإما على الأقل الحصول على كتاب من رئاسة الحكومة يطلب التنفيذ. لكن شيئاً من ذلك لم يحصل. وفي العاشر من آب، غادر حايك لبنان في إجازة عائلية (موافق عليها من وزير الوصاية) بعد أن فوضّ صلاحياته كمدير عام إلى العضو في المجلس حسين سلوم. وقد بقي النصاب في مجلس الإدارة مؤمناً على أن يترأسه الأكبر سناً. أما مسألة الصلاحيات المالية التي لا تجيّر فلم يكن يفترض أن تشكّل عائقاً في حال اتخذ القرار بالسير بصفقة السبوت كارغو، لأن الدفع لن يتم مباشرة. تفيد المعلومات هنا أن ميقاتي حاول مجدداً تمرير الصفقة من خلال مجلس إدارة الكهرباء فقط، عارضاً الأمر على عضو مجلس الإدارة طارق عبدالله خلال اجتماع عقدته اللجنة الوزارية في 12 آب، إلا أن الأخير رفض أيضاً. فتم الاتفاق مع وزير الطاقة على طرح الأمر مجدداً على مجلس الوزراء، وهو ما حصل فعلاً حيث وافق المجلس على الشحنة التي سبق أن رفضها في 9 تموز. كان ذلك في يوم الأربعاء في 14 آب، أي قبل يوم من عطلة عيد انتقال السيدة. لذلك كان مطلوباً أن يجتمع مجلس إدارة المؤسسة بعد ظهر اليوم نفسه للموافقة على تمويل الصفقة، بالرغم من أنّ القرار الحكومي لم يصدر بشكل رسمي، ولم يحوّل إليها.
في هذه الفترة، حصل الانقطاع الشامل للكهرباء، الذي طال أيضاً المرافق الرئيسية ومن ضمنها المطار. ولم يجتمع مجلس الإدارة يوم الجمعة ولا يوم السبت، فيما اجتمع استثنائياً يوم الأحد بناء على دعوة حايك الذي عاد من إجازته السبت.
ميقاتي يحوّل حايك إلى التحقيق
يوم الاثنين، ضجّت وسائل الإعلام بخبر إرسال ميقاتي كتاباً إلى التفتيش المركزي وإلى النيابة العامة التمييزية يطلب فيه التحقيق الفوري بموضوع الانقطاع الكلي للتيار الكهربائي، معتبراً أنه “بدلاً من تجاوز الأزمة بفعل التجاوب المطلق مع طلب وزارة الطاقة وكهرباء لبنان، تفاجأت بأن مجلس إدارة المؤسسة لم ينعقد بسبب غياب المدير العام الذي قطع التواصل مع الجميع ولم يفوض أي من أعضاء المجلس بالصلاحيات المالية، علماً أنه لا يمكن تنفيذ التدابير التي تم الاتفاق عليها بصورة طارئة تفادياً للوقوع في الظلمة الكاملة مع ما ينتج عن ذلك من أضرار مباشرة للمواطنين والمرافق العامة، إلا من خلال مقررات مجلس إدارة المؤسسة صاحبة الصلاحية”.
واعتبر الكتاب أنه “بعد أن تبيّن أن التقصير بعدم دعوة مجلس الإدارة أدى إلى وقوع أزمة كان من الممكن تفاديها ما يقتضي معه مساءلة المسؤولين عنها منعاً لتكرارها”.
اللافت هنا أن قرار الموافقة على السبوت كارغو صدر من وزير الطاقة قبل اجتماع مجلس إدارة كهرباء لبنان (يوم الخميس). واللافت أيضاً أن الوزير نفسه أخذ قرار شراء كمية من الفيول من منشآت النفط (5000 ليتر) واستهلاكها، من دون انتظار قرار وزير المالية الذي يفترض أن يوافق على القرار، بالرغم من أنه في الحالتين ستدفع المؤسسة الكلفة، ما يؤشر إلى أن الضجة التي أحيطت حول عدم انعقاد مجلس الإدارة هي ضجة تهدف فعلاً إلى تضييع المسؤوليات. وأكثر من ذلك، لا بد من الإشارة إلى أن مجلس الوزراء، الذي كان استمع إلى عرض قدّمه مدير عام كهرباء لبنان في جلسة 9/7/2024، وكان حذر فيه من انقطاع الكهرباء في حال عدم انتظام شحنات الفيول العراقي، أثنى في مقرراته “على الجهود التي تقوم بها مؤسسة كهرباء لبنان لجهة الحفاظ على استقرار التغذية بالتيار الكهربائي”. ويعود هذا الثناء إلى كون التقارير الفنية تشير إلى صعوبة الحفاظ على استقرار الشبكة في حال انخفض الإنتاج عن ألف ميغاواط فيما لا يتراوح الإنتاج الواقعي ما بين 400 و600 ميغاواط، وهو ما يزيد من التحديات على المؤسسة في ظل محدودية كميات الفيول.
لا حلّ جذريّ للخلاف مع العراق
بالنتيجة، وصلت شحنة السبوت كارغو التي بلغت كلفتها 25500 مليون دولار في الأسبوع الفائت، لكنها لن تساهم في تعديل جذري للتغذية. فإنتاج 600 ميغاواط (أي بما يسمح ب4 ساعات تغذية سيعني أن الشحنة لن تكفي لأكثر من 10 أيام وهو ما يمكن أن يؤدي إلى استهلاك الكمية كاملة قبل وصول باخرة الفيول العراقي المتوقع بين 6 و7 أيلول). لذلك، قررت المؤسسة تخفيض الإنتاج إلى 400 ميغاواط بما يضمن على الأقل تزويد المطار والمنشآت الرئيسية من مستشفيات حكومية ومضخات مياه وغيرها، إضافة إلى نحو ساعتين يومياً لنحو شهر، على أن تزاد هذه النسبة فور وصور الفيول العراقي.
الخبر الإيجابي إذاً أنه من المتوقع أن تصل باخرة تموز من النفط العراقي في 6 أيلول، بعد أن تم حلّ مشكلة الدفعة للعراق، لكن أحداً لا يضمن عدم تكرّر المشكلة مع الشحنات الأخرى، طالما أن 3 عقبات لا تزال تعترض تنفيذ الاتفاقية وانتظام الشحنات، وهي:
-لا يزال المصرف المركزي يصرّ على عدم تحويل الأموال إلى الحساب العراقي من دون إقرار تمديد الاتفاقية بقانون ومن دون لحظ الأموال في الموازنة، وهما أمران لا يبدو أنهما سيتحققان. فبخلاف الضغط على مؤسسة الكهرباء لا أحد يضغط على مصرف لبنان الذي سبق أن حوّل مبلغاً إلى الحساب من دون إثارة مسألة الحاجة إلى قانون. علماً أن العقد مع الجانب العراقي يشير إلى الدفع بالليرة وليس بالدولار. كما ينصّ العقد على أن الحكومة العراقية لا يمكنها السحب من الحساب قبل كانون الأول.
-لا تزال مؤسسة إيدال متأخرة في إنجاز المنصة التي اتُفق عليها مع الجانب العراقي والتي تسمح له باستعمال الأموال المجمّعة في حسابه لشراء الخدمات والمنتجات اللبنانية. وهو تأخير لم يُعرف سببه بعد، علماً أن المدير العام لإيدال كان من ضمن الوفد الذي زار بغداد.
– عدم تفهّم العراق لمسألة شراء الفيول من طرف آخر.
هبة جزائرية مقابل سحب دعوى سوناطراك؟
المستجدّ في هذه الأزمة كان بروز اسم الجزائر التي تحركت بُعيد الأزمة لتعرض على لبنان هبة 30 ألف طن من الفيول أويل بقيمة تقديرية تصل إلى 20 مليون دولار. لكن هذه الهبة اصطدمت بعقبتين أيضاًَ، الأولى تمثّلت بالحاجة إلى استبدال الفيول أويل بالغاز أويل لزوم معملي دير عمار والزهراني، والثانية تمثّلت برغبة الجزائر بوصول الهبة على متن باخرة تحمل العلم الجزائري إلى الساحل اللبناني، ما يعني عملياً عدم إمكانية استبدال الفيول في البحر مباشرة كما يحصل عادة. وهو ما كان يسعى إليه وزير الطاقة وليد فياض الذي استدعى إلى الوزارة عدداً من الشركات طالباً منها القيام بعملية الاستبدال، إلا هذا السعي توقّف بعد إصرار ميقاتي على إجراء عملية الاستبدال هذه عبر هيئة الشراء العام. وبناء عليه، صار هناك حاجة لاستقبال الشحنة وتفريغها في لبنان إلى حين استبدالها، بما يحقق رغبة الجزائر ويلبي طلب ميقاتي. وهو ما حصل في 27/8/2024، حيث وصلت الشحنة إلى منشآت النفط في طرابلس وكان في استقبالها السفير الجزائري وفياض الذي أعلن أنها ستسمح بزيادة التغذية إلى ما بين 4 و6 ساعات.لكن السؤال الأبرز الذي رافق هذه الهبة كان ولا يزال: هل هي مشروطة بسحب الدعوى القضائية المرفوعة في قضية سوناطراك؟ صحيح أن أحداً لم يربط في العلن بين الأمرين، لكن الضغوط التي سبق أن مورست على كهرباء لبنان لإنهاء القضية العالقة أمام محكمة الجنايات توحي أن الأمرين مترابطان. هذا مع العلم أن قرار الهيئة الاتهامية في هذه القضية يخلو من أي اتهام مباشر ضدّ شركة سوناطراك نفسها، إنما يكتفي باتهام بعض المتعاملين معها.