أصدر قاضي التحقيق الأول في بعبدا نقولا منصور في تاريخ 1/3/2023 القرار الظنّي في قضية الفساد في السجل العقاري بعبدا. وقد انتهى القرار إلى اعتبار أفعال 11 موظفًا من بينهم أمينة السجل العقاري مؤلّفة جناية التماس منفعة للقيام بأعمال منافية للوظيفة (المادة 352 من قانون العقوبات) والإثراء غير المشروع، إضافة إلى الظنّ بهم بجنح تتعلّق بجرائم الرشوة وصرف النفوذ وإساءة استعمال السلطة والإهمال الوظيفي (351 و357 و371 و373 عقوبات). وقد نحا منصور المنحى نفسه بالنسبة إلى 22 موظفًا آخر باستثناء اتّهامهم بجناية التماس منفعة للقيام بأعمال منافية للوظيفة. كما اعتبر القرار أنّ أفعال معقّبي معاملات تندرج أيضًا تحت جناية المادة 352 لكونهم أقدموا على رشوة موظفي السجلّ بهدف الحصول على خدمة غير مشروعة، إضافة إلى اعتبارهم متدخّلين في جرم الإثراء غير المشروع، والظنّ بهم بجرائم صرف النفوذ والرشوة. إلى ذلك، تمّ الظنّ بقريبة أمينة السجل العقاري بالتدخّل بعدد من الجرائم المذكورة أعلاه. ويتبدّى إذ ذاك أنّ القرار تناول موظفين من مختلف الرتب والفئات، ولم ينحصر بالموظفين الصغار بل طال الموظفة الأعلى رتبة هناك.
أمّا فيما يتعلّق بالادّعاء الوارد بحق 11 معقّب معاملات آخرين، فقد تمّ تفرقة ملفّهم عن الملف الراهن ومتابعة التحقيق فيه، وذلك بعد أن عطفت النيابة العامّة ادّعاءها عليهم على قانون حماية كاشفي الفساد. وهو ما سنتناوله لاحقًا في أقسام هذا التعليق.
ممارسات الفساد في عقارية بعبدا
يتبيّن من تحليل مضمون القرار الظنّي أنّ المحرّك الأساسي لعمليات الفساد في السجل العقاري في بعبدا كان شبكة علاقات نُسجت بين معقّبي المعاملات والسماسرة والموظّفين. فمن البيّن أنّ عددًا محصورًا من معقّبي المعاملات كانوا يحظون بمعاملة خاصّة من قبل الموظّفين، لقاء الحصول على رشاوى أو خدمات متفرقة أخرى. وقد ورد في القرار الظنّي تفويض أمينة السجل العقاري أحد معقّبي المعاملات بالقيام بإيداع وسحب الأموال من حساباتها المصرفية، أو تأمين حجوزات لها في المطاعم بمبالغ تصل إلى عشرات ملايين الليرات، أو تأمين الدواء المقطوع في الأسواق لها. وفي مقابل هذه الخدمات والرشاوى المعتادة، كان يحظى هؤلاء بمعاملة تفضيلية داخل السجل العقاري، وصلتْ إلى حدّ إطلاعهم على مستندات لا يُفترض أن يطّلع عليها سوى الموظفين، بل تمكينهم من استخدام أختام الموظفين وتختيم الأوراق في بعض الأحيان، أو أيضًا الاحتفاظ بمستندات تعود إلى السجل العقاري في منازلهم أو نقلها من مكان إلى آخر.
وفي حين أنّ الرشاوى ارتفعت قيمتها بشكل كبير بالعملة اللبنانية منذ ما قبل الأزمة ودخلت عليها الرشوة بالدولار، فإنّها لم تنحصر بمنافع حصل عليها الموظفون بأنفسهم، بل التمسوا لغيرهم هذه المنفعة، متّبعين نهج الزبائنية السياسية نفسه. فكان لافتًا على سبيل المثال تواجد قريبة أمينة السجل العقاري بشكل دائم في مركز السجل، لا بل استحداث مكان دائم لها للجلوس وصولًا إلى تمرير بعض المعاملات عبرها من دون أن يكون لها أيّ صفة وظيفية، كلّ ذلك تمكينًا لها من تحصيل الأموال عبر الرشاوى وغيرها من الطرق.
أمّا فيما يتعلّق بآليات طلب الرشوة وغيرها، فالطريقة الكلاسيكية المعهودة متّبعة لجهة تعطيل المعاملات إلى حين الحصول على الرشاوى. فقد تبيّن وفق مندرجات القرار الظنّي أنّ آلاف المعاملات لا تزال معلّقة لدى السجلّ العقاري بانتظار دفع رشاوى، في حين يتحجّج في هذا الصدد بعض الموظفين بالأعطال والإضرابات وكثرة المعاملات التي طُلب إنجازها قبل رفع سعر الصرف الرسمي. وقد دفع هذا الأمر إلى الظنّ بهؤلاء بجرائم تتعلّق باستعمال الموظفين لسلطتهم أو نفوذهم لإعاقة تطبيق القوانين أو جباية الرسوم (المادة 371 عقوبات) وبالإهمال الوظيفي (المادة 373 عقوبات). أكثر من ذلك، لم تقتصر الرشاوى على تسريع تمرير المعاملات القانونية، بل امتدّت إلى تمرير ما ينافي واجباتهم الوظيفية، أي تمرير معاملات غير قانونية وهو ما دفع إلى إسناد جناية الرشوة (المادة 352 عقوبات) إلى البعض منهم. وتقتضي الإشارة هنا إلى أنّ القرار لم يتضمّن المخالفات القانونية أو الأعمال المنافية للوظيفة التي ارتُكبت جرّاء الرشوة.
بقي أن نُشير إلى أنّ القاضي منصور قد منع المحاكمة عن بعض المدّعى عليهم بجريمة تبييض الأموال، لعلّة عدم وجود أي محاولة من المدّعى عليهم لإخفاء مصدر أموالهم الحقيقي أو محاولة لتبريره بطريقة كاذبة أو عدم ثبوت وجود حوالات أو عمليات تُفيد بتبييض الأموال، معتبرًا في هذا الصدد أنّ الشك يُفسّر لمصلحة المدّعى عليهم. هذا مع العلم أنّ رشاوى كثيرة تمّ إيداعها في الحسابات المصرفية التي كانت تتمتع آنذاك وقبل صدور قانون رفع السرّية المصرفية في تشرين الأول 2022 بسرّية مطلقة.
آليات ملاحقة جرائم الفساد في العقارية
تتزامن التحقيقات في جرائم الفساد في السجلّّ العقاريّ مع التحقيقات في جرائم مماثلة في هيئة إدارة السير المعروفة “بالنافعة”. وفي حين عمدنا من قبل إلى تحليل آليات مكافحة الفساد التي اتّبعتها المحامية العامة الاستئنافية في جبل لبنان القاضية نازك الخطيب، سنلجأ هنا إلى تحليل مشابه في هذه القضية.
استخدام قانون الإثراء غير المشروع لتخطّي الحصانات
ظنّ القاضي منصور بعدد من المدّعى عليهم بجرم الإثراء غير المشروع، والذي بات يُشكّل جريمة بحدّ ذاته بعد التعديلات الأخيرة له بموجب القانون رقم 189/2020. ويتبدّى أنّ قاضي التحقيق كما النيابة العامة عمدا إلى ملاحقة هذه الجريمة من دون الحصول على إذن أو ترخيص مسبق بالملاحقة، حيث نصّت المادة 11 من القانون على أنّه “خلافًا لأيّ نصّ آخر لا تحول دون الملاحقة الجزائية الأذونات أو التراخيص المسبقة الملحوظة في القوانين”. ويُستشفّ من القرار الظنّي أنّ الهيئات القضائية اعتبرتْ أنّ إسقاط حصانات الموظفين في قضايا الإثراء غير المشروع ينسحب على سائر الجرائم المتلازمة والتي قد يدّعى عليهم بشأنها، مثل جرائم الرشوة وصرف النفوذ وإساءة استعمال السلطة والإهمال الوظيفي، طالما أنّه تمّ الظنّ والادعاء بهذه الجرائم بحق هؤلاء من دون الحصول على أيّ إذن مسبق. ويجد هذا الأمر تفسيره في وجوب تطبيق قاعدة الحصول على إذن مسبق لملاحقة موظف بصورة ضيّقة لكون هذه المعاملة تشكّل استثناء على القاعدة العامة الدستورية (المساواة أمام القضاء) والتي لا تتطلّب أي إذن لملاحقة أي شخص. فعند وجود طريقة استثنائية وطريقة عادية للملاحقة، يقتضي تغليب الطريقة العادية وفق هذا التفسير.
ما هي الأدلة المستخدمة على حصول الإثراء؟
عرّف قانون الإثراء غير المشروع هذه الجريمة بأنّها “كل زيادة كبيرة تحصل في لبنان والخارج بعد تولّي الوظيفة العمومية على الذمّة المالية لأي موظف عمومي، سواء أكان خاضعًا للتصريح أو غير خاضع له، متى كانت هذه الزيادة لا يمكن تبريرها بصورة معقولة نسبةً لموارده المشروعة”. وفي حين يتبيّن أنّ قاضي التحقيق قد لجأ إلى الاطّلاع على نفي الملكية و”كشوفات الذمّة المالية والرواتب” للوصول إلى خلاصاته، إلّا أنّ أيّ تحليل لهذه الكشوفات والفوارق لم يتمّ إظهاره في القرار الظنّي. وفي حين أنّ استعمال الأدوات التي أتاحها القانون رقم 189/2020 يُعدّ أمرًا إيجابيًا، يُفهم أنّ القاضي منصور قد اطّلع على تصاريح الذمّة المالية من دون أن يبرزها في متن قراره لسبب أو لآخر لم يتسنّ لنا التحقّق منه.
ولكن القاضي منصور لم يستعمل وسيلة أخرى متاحة له تتمثّل بقانون رفع السرّية المصرفية رقم 306/2022 الذي أكّدت الفقرة -ب- من المادة الثانية منه أنّ السرّية المصرفية لا تطبّق على الموظفين العموميين الملزمين بتقديم تصريح الذمّة المالية المنصوص عليه في قانون الإثراء غير المشروع. كما نصّت المادة السابعة على أنّه لا يُمكن أن تتذرّع المصارف بالسرّية عندما يطلب القضاء المختص معلومات مصرفية في جرائم الفساد والجرائم الواقعة على الأموال وغيرها. ويعكس عدم الاستفادة من هذا القانون في هذه القضية وغيرها من القضايا استحياءً غير مبرّر من قبل القضاة على استعماله، في حين أنّه يوفّر لهم وسيلة على قدر عالٍ من الأهمّية لكشف الجرائم.
وفي حين كان خضوع موظّفي عقارية بعبدا لأحكام الإثراء غير المشروع محسومًا في هذا الشأن، كان التساؤل ممكنًا بما يتّصل بمعقّبي المعاملات لديها. هنا يلحظ أنّ قاضي التحقيق ادّعى على اثنين من معقبي المعاملات على خلفية تدخّلهم في جريمة الإثراء غير المشروع.
تطبيق نادر لقانون حماية كاشفي الفساد؟
يجدر لفت النظر إلى أمر هام آخر وهو أنّ قاضي التحقيق اتّخذ قرارًا بتفريق ملف 11 معقّب معاملات عن ملف سائر المدعى عليهم في هذه القضية. ويمكن تفسير قيامه بذلك بأنّه يعود إلى نيّته تطبيق مفاعيل أحكام المادة 10 من قانون مكافحة الفساد عليهم، وهي المادة التي تنصّ على استفادة الكاشف عن أفعال فساد شارك فيها من أسباب تخفيفية في حال كشفه بعد بدء إجراءات الملاحقة بشأنها، ومن عذر محلّ في حال كشفه عنها من تلقاء نفسه بصورة سابقة لأي ملاحقة. ويستشفّ من فصل ملفات هؤلاء من دون منع المحاكمة عنهم اتجاهًا لمنحهم أسبابًا تخفيفية فيما قد يشكل أول تطبيق لقانون حماية كاشفي الفساد لهذه الجهة، تطبيق يؤمل منه أن يحفّز العديد من المشاركين في أفعال فساد أو الشهود عليه إلى التعاون مع الهيئات القضائية للكشف عنها.
اضغطوا هنا للاطلاع على القرار الظني