بعد أسبُوعَيْن من انطلاق حملة الاعتقالات ضد عدد من قواعد حركة النهضة، قرّرت السلطات الشروع في الإفراج عنهم تِبَاعًا، وذلك وفق ما أفادنا به الناشط في مجال العدالة الانتقالية، بشير الخلفي. وكانت حركة النهضة قد أعلنت، في 13 سبتمبر 2024، عن اعتقال ثمانين عُنصرًا من منتسبيها في حملة إيقافات انطلقت منذ يوم 09 سبتمبر الماضي، وقد ارتفعت حصيلة الإيقافات لتصل إلى 109 إلى حدود يوم 16 سبتمبر، وفق ما ذكره المحامي سمير ديلو. طالت هذه الإيقافات بعض القيادات المحليّة للحركة، وعضوًا في مكتبها التنفيذي، وهم ناشطون في مجال العدالة الانتقالية، ومعظمهم تجاوز الستّين سنة، وتعهّدت كلّ من النيابة العمومية بالقطب القضائي لمكافحة الإرهاب وفرقة الأبحاث بالعوينة بالبحث والتقصّي في هذا الملفّ.
تأتي هذه الاعتقالات في فترة انتخابيّة مشحونة سياسيًّا، اتّسمت بالمضايقات ضدّ الخصوم السياسيّين بشكل عامّ والمنافسين المحتَمَلين على كرسي الرئاسة بشكل خاص. ويعود سببُها المباشر، وفق ما ذكره للمفكرة القانونية بشير الخلفي الناشط في مجال العدالة الانتقالية، إلى اجتماع افتراضي انعقد عن بُعْد حول العدالة الانتقاليّة، نظّمته جمعيّة الكرامة بشراكة مع منظّمة دوليّة تُعنى بمناهضة الإفلات من العقاب، بعد عقد ندوة حضورية في وقت سابق، انتظمت في أحد النّزل في العاصمة مع نفس الأطراف المُشاركة. وكان من المُقرَّر تنظيم ندوة لاحقة تُختَم بإصدار تقرير. “مُسِكَت قائمة المشاركين في النّدوة لدى أحد الأفراد وحُوِّلت وجهتها للأسف وأصبحت كأنّها مؤامرةٌ، وما أكثر المؤامرات. هذا ملفّ أعرج وفرقعة أمنية وسياسيّة لستر عورات السلطة. فكلّ من أُلقِيَ القبض عليهم هم مساجين سياسيّون سابقون مشمولون بتدابير العدالة الانتقاليّة، تمّ تصنيفهم كضحايا وتسلّمُوا مُقرِّرات جبر الضّرر، وما أؤكّده أنّهم لم يتمّ جبر ضرر أيّ ضحيّة منهم”، يُوضّح بشير الخلفي الناشط في مجال العدالة الانتقالية .
إثر انتهاء عهدة هيئة الحقيقة والكرامة المختصّة في متابعة مسار العدالة الانتقالية، تكوّن ائتلاف مدني منذ 2019 يهدف إلى متابعة التوصيات الصادرة عن الهيئة وعن استكمال المسار في جوانبه القضائية والمؤسساتية. “هذا الائتلاف اندثر بعد 25 جويلية 2021 بسبب اختلافات في تقييم تلك التدابير في صفوف الجمعيات المكوّنة له. ثمّ تساءلنا: على ماذا سنشتغل داخل هذا الائتلاف؟ الدوائر القضائية المختصّة في العدالة الانتقالية انتهت، وكانت لنا مواقف بخصوص بعض المحطات المحدّدة مثل الصلح الجزائي أو الحركة القضائية وما سيترتّب عنها من تعطيل الدوائر المختصّة في العدالة الانتقالية،وإيقاف الرئيسة السابقة لهيئة الحقيقة والكرامة، سهام بن سدرين”، يقول مصدر من الائتلاف المدني للعدالة الانتقالية في تصريح للمفكرة القانونية، مضيفًا أنّ “العمل داخل هذا الائتلاف ضاع في ظلّ مناخ مستبدّ ورافض لمسار العدالة الانتقالية”. أمّا بخصوص الإيقافات الأخيرة الحاصلة ضدّ ضحايا الاستبداد، فيقول مصدرنا إنّ الائتلاف الّذي لم يعد قائمًا بحُكم الظروف السياسية والحقوقية، لم يصدر عنه موقف أو قراءة لما حصل.
ضحايا كلّ الأزمنة
“هذه معركة سياسيّة قذرة وهرسلة للضحايا المطحونين أصلًا. هم في أغلبهم أشخاص مدمّرون اجتماعيًّا وسياسيًّا وحقوقيًّا وحتّى صحيًّا، منهم من يخضع للعلاج الكيميائي فيما يُعاني آخرون أمراض ارتفاع ضغط الدّم والسكر والقلب، فهم أشخاص تعرّضوا سابقًا للتعذيب في فترتَيْ بورقيبة وبن علي، محاصرون في رزقهم وخاضعون للرقابة الإدارية لأكثر من ثلاثين سنة. ولكنّ ضحايا الاستبداد تعوّدوا أن يكونوا هم الحلَقَة الأضعف وأن يدفعوا الضريبة في عهدَيْ بورقيبة وبن علي. توقّعنا أن تتحسّن الأوضاع بعد الثورة ولكنّ الأمور آلت إلى الأسوأ وصرنا نُستَخدم كحطب لمعارك سياسيّة”، يضيف محدّثنا.
يبدو أنّ ملفّ العدالة الانتقاليّة الّذي كان يسير بخطى متعثّرة في الفترة الماضية، رغم مجهودات الجمعيات والمنظمات غير الحكومية في استكمال أركان هذا المسار، بدءًا بكشف الحقيقة وصولًا إلى تحقيق العدالة والمصالحة، قد اضمحلّ مع المنظومة السياسيّة الحاليّة. حتّى أنّ الدوائر المختصّة في النّظر في ملفّات العدالة الانتقالية لم تستأنف نشاطها بحلول بداية السنة القضائية الجديدة. “ليس هناك حراكٌ لاستكمال مسار العدالة الانتقالية. وهي كلّ لا يتجزّأ، فيها جبر الضرر وأيضا المحاسبة. أنا شخصيًّا حوكمت بـ52 سنة سجنًا، قضيت منها 17 سنة وأنا إلى الآن لا أتمتّع بحقوقي كمواطن ولا يوجد ما يربطني بهذه البلاد، ولم أتلقَّ أنا ومن تمّ اعتقالهم، ملّيمًا واحِدًا في إطار جبر الضرر. الدوائر المختصّة في العدالة الانتقاليّة قضت سنة بيضاء ولم تعقد أيّ جلسة، والحال أنّ الجرائم المتعلّقة بحقوق الإنسان لا تسقط بالتّقادم”، يوضّح محدّثنا.
من جهته، يعتبر الناطق الرسمي باسم حركة النهضة، عماد الخميري، في تصريح للمفكرة القانونية أنّ الفئة المُستَهدَفة من حملة الاعتقالات هي فئة عُرفت بنشاطها ودفاعها عن مسار العدالة الانتقالية وعن كشف الحقيقة، وأنّ جبر الضرر المادّي هو آخر ما يمكن أن يكون في هذا المسار. “هم مواطنون متشبّثون بحقوقهم التي انتُهكت في ظلّ العهدَيْن الساّبقَيْن، واستهدافهم هو استهداف للفئة المناضلة ولقيمة النّضال وللعمق النضالي في البلاد. السلطة تعتقد أنّها بمثل هذه الاعتقالات ستُديم حُكمَها ولكنّ التّاريخ أثْبَتَ أنّ الظُّلمَ لا يُديم حُكْمًا” يقول الخميري.
عودة أشباح التصفية
تُضاف هذه الاعتقالات إلى سلسلة من التتبّعات ضدّ قياديّين وقواعد من حركة النهضة، تراوحت التّهم فيها بين التآمر على أمن الدّولة وغسيل الأموال وملفّ الاغتيالات السياسية وغيرها. إذ تمّ إلقاء القبض على رئيس الحركة راشد الغنوشي في 17 أفريل 2023 وإصدار حكم بسجنه ثلاث سنوات في قضيّة تلقّي الدّعم المالي الأجنبي في انتخابات 2019، وهو مشمول أيضًا بقضايا أخرى، حيث صدرت ضدّه بطاقة إيداع بالسجن في ملفّ “انستالينغو” وأخرى على خلفيّة شكاية من نقابي أمني بسبب استخدامه كلمة “طاغوت”. [1] كما تمّ اعتقال القيادي الصحبي عتيق في ماي 2023 لشبهات تبييض أموال، فيما يواجه نور الدّين البحيري تهمة التآمر على أمن الدّولة، وهو يقبع في السجن منذ 15 فيفري 2023.
كما تمّ إيداع منذر الونيسي الذي ترأس الحركة خَلَفًا لراشد الغنوشي السّجنَ في 30 سبتمبر 2023 بتهم تتعلّق بالتستر على جرائم إرهابية وربط الصلة مع أطراف أجنبية للإضرار بمصالح الدولة التونسية. وقد صدرت بطاقة إيداع بالسجن ضد الأمين العامّ لحركة النهضة، العجمي الوريمي، في 24 جويلية الفارط بتهمة “تكوين وفاق”. ولم تُقدّم السلطات التونسية إلى حد الآن تفاصيل كافية حول التهم الموجّهة لبعض قيادات حركة النهضة ومنتسبيها المعتقلين مؤخرا، ويجري تتبّعهم وملاحقتهم في ظل تكتم إعلامي وسياسي كبير. هذا ويذكر أن السلطات التونسية أعلنت إغلاق المقرّات المركزية والمحلية لحزب حركة النهضة في أفريل 2023 بعيد اعتقال زعيمها راشد الغنوشي.
في هذا السياق يقول عماد الخميري: “الأنظمة المستبدّة عادةً ما تلجأ إلى التضييق على الحريّات عبر إثارة مناخات الخوف وضرب الحقوق والحريّات واستهدافها. هناك تراجُع كبير في الحقوق والحريات منذ 25 جويلية 2021 استهدف كلّ العائلات السياسيّة، بشكل خلق “تمثيليّة واسعة” للمعتقَلين”، مضيفا بأنّ “هذه الاعتقالات التي شملت أكثر من 100 مناضل صلب الحركَة في فترة حساسة مثل فترة الانتخابات يكرّس فكرة زرع الخوف وقمع الحريّات، وهي تهدف إلى مراكمة هذه الحملة التي قام بها النظام ضدّ العائلات السياسيّة”.
[1] بالإمكان مراجعة العدد 26 من مجلة المفكرة القانونية تونس، انفوغرافيك حول الإيقافات والملاحقات السياسية، ص.12
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.