القاضية صليبا تفضح تواطؤ السياسة والإعلام: هل يتم التحقيق مع الياس بو صعب في جرم “التدخّل في القضاء”؟


2024-05-15    |   

القاضية صليبا تفضح تواطؤ السياسة والإعلام: هل يتم التحقيق مع الياس بو صعب في جرم “التدخّل في القضاء”؟

صدر في تاريخ 13 أيار 2024 بيان عن المكتب الإعلامي لمجلس القضاء الأعلى اقتصر على نقل ردّ القاضية ستيفاني صليبا على خبر تناولها على موقع ليبانون ديبايت قبل أيام بعنوان: “قاضية غير مكترثة… ما مصير العدالة؟!” (9 أيار). واللافت أن القاضية (وهي تشغل مركز قاضيّة الأمور المستعجلة في جديدة المتن) لم تتتوقّف في ردّها عند مضمون الخبر الذي اكتفت باعتباره عاريا عن الصحّة، إنما ركزتْ على تبيان ما اعتبرته سبب نشره وهو استكمال تدخل أحد السياسيين البارزين في عملها القضائي. فقد أوضحت القاضية صليبا وبوضوح كلّي أن نشر الخبر العاري عن الصحة جرى “بعد ساعات قليلة من تلقّيها اتصالين هاتفيين متزامنين ومتتاليين، الأول من نائب حالي ووزير سابق، حاول التدخّل من خلاله بطريقة غير مسؤولة ومستفزّة بملف شخصيّ لأحد أقاربه” والثاني من وزير سابق لم أجِب على اتّصاله اقتناعا منّي أنّه عائد للموضوع عينه. والملفت أن مضمون الخبر شبيه بموضوع التدخل”. ولم تكتفِ القاضية بربط نشر الخبر بالتّدخلات السافرة في عملها، بل أسفتْ في بيانها على “أن يعمد عدد من المواقع الإلكترونية إلى نشر أخبار لا تتوافق مع الحقيقة ولا مع المبادئ التي ترعى دولة القانون ومسؤولية الإعلام”، مؤكدة في الختام على أنها ستتقدم بالمراجعات القانونية المناسبة أمام المراجع المختصّة. وقد ترافق صدور هذا البيان مع صدور بيانٍ ثانٍ عن نادي القضاة، ندّد بالتدخّلات السياسية في أعمال القضاة وبالحملات الإعلامية المشبوهة بحقّهم. وطالب النادي المراجع المختصة “بتحقيق فوري في ملابسات الخبر تبيانا للحقيقة وكشف مَن هو وراءه واتخاذ التدابير الرادعة لمنع أيّ ممارسات مشبوهة في حقّ أيّ قاضٍ، وحماية لأيّ قاضٍ شجاع شكّل سدّا منيعا في مواجهة التدخّلات”. لم يشِر أيّ من البيانين إلى هوية الأشخاص المتدخّلين، لكن علمت “المفكرة القانونية” من مصادر موثوقة أنّ المسؤول الأول هو نائب رئيس مجلس النواب والوزير السابق إلياس بو صعب وأن المسؤول الثاني المذكور في توضيح القاضية صليبا والذي رفضت إجابة اتصاله هو وزير العدل السابق سليم جريصاتي. 

تكتسي هذه الحادثة أهمية خاصة في الظروف الحاضرة من زوايا ثلاث:  

أولا، إنه يشكّل شاهدا على بعض أشكال التدخّل السياسيّ في أعمال القضاء. فعدا عن الوقاحة الاعتياديّة للاتّصال المباشر أو اللجوء إلى مساعدة صديق (وزير عدل سابق)، تُظهر هذه الحادثة سهولةً في تسخير وسائل الإعلام في ترهيب أيّ قاضٍ لا يستجيب للتدخل السياسي وتشويه سمعته. ومن المهمّ هنا التذكير بما ورد في مقال ليبانون ديبايت لإدراك مدى خطورته: فهو لم يتناولْ أيّ قضيّة بعينها ولم يشرْ إلى أيّ مصلحة عامّة محددة بل بدا وكأنه مجرد صفصفة كلامية هدفها تحقير القاضية التي تشكل وفق ما جاء فيه مثلا صارخا عن القضاة الذين لا يكترثون. فهي “تتعجّل بإصدار الأحكام التي قد لا تكون عادلة” علما أنها قاضية أمور مستعجلة وهي لا تحضر “إلى مكتبها بشكل منتظم حيث يقتصر هذا الحضور على ساعات قليلة كل شهر” وصولا إلى توصيف أحكامها ب “العشوائية”. لا بل أن الموقع لم يجد حرجا في تقريظ القاضيّة بأنها ترفض الاستعطاف والتدخل بداعي استقلالية القضاء معتبرا أنها بذلك “تتذرّع باستقلالية القضاء عند مراجعتها من أي مظلوم أو ضحية لقراراتها الصادرة”، معتبرا موقفها ذاك بمثابة حرمان لصاحب القضية من فرصة الدفاع عن نفسه ومشرّعا بذلك كل أشكال التدخّل في القضاء. وعليه، ينتهي الخبر بدعوة القاضية بأسلوب يقارب التهديد ب “أن تلازم منزلها رأفة بمن وضع القدر مصيره بين يديها”، قبل دعوتها إلى أن “تعود إلى منطق العدالة والقانون..” (ويفهم من ذلك دعوتها للإنصات مجددا إلى أصوات المتدخّلين والانصياع لهم). 

وبالطبع، لا يقتصر أسلوب التهجّم على القضاة خدمة لأصحاب النفوذ على لبيانون ديبايت إنما تكثر الشواهد على تدخلات إعلامية مماثلة، بلغت درجة عالية من العنف الكلامي والتنمّر ضد القضاة الذين نجحوا في الحفاظ على استقلاليتهم في مواجهة التدخلات السياسية، ولا سيما في قضايا المصارف وحاكم مصرف لبنان والمرفأ. ومن البيّن أن العديد من وسائل الإعلام عمدتْ من خلال ذلك إلى تضليل الرأي العام على نحو غالبا ما أدّى إلى قلب المسؤولية وإجهاض العمل القضائي وبالنتيجة سواد نظام الإفلات من العقاب، كل ذلك بغياب أيّ رقابة إدارية أو تحرّك من النيابة العامة. ومؤدى التساهل مع هذه التصرفات تحويل العديد من وسائل الإعلام مما يفترض بها أن تكون (كلاب حراسة للدفاع عن الصالح العام والحقيقة) إلى كلاب حراسة للنظام السياسي والحقائق المزيفة التي يودّ من خلال فرضها السطو على الرأي العام ومصالح المجتمع (الاستعارة مأخوذة من مقال لموقع صفر).        

ثانيا، فيما تعكس شهادة القاضية صليبا مرة أخرى تدهور البيئة السياسية والاجتماعية التي يعمل ضمنها القضاء وتؤثر على أعمالهم، فهي تؤشّر بالمقابل إلى أنّ العديد من القضاة ما زالوا يتمسّكون باستقلاليتهم ويحاربون بشجاعة من أجلها رغم تدهور شروط عملهم والمرفق القضائي ككلّ. فهي لم تكتفِ بصدّ التدخل ضدها، بل عمدتْ أيضا إلى إبلاغ مجلس القضاء الأعلى والاحتكام إلى الرأي العام بشأنه، وصولا إلى التأكيد على أنها ستقدّم المراجعات القانونية المناسبة، والتي سيكون محورها بالتأكيد المادة 419 من قانون العقوبات التي تعاقب بعقوبة تصل إلى 3 سنوات حبس التدخل في أعمال القضاء. وبذلك، تكون صليبا قد نجحت في دفع مجلس القضاء الأعلى إلى التخلّي عن اللغة الخشبية المعهودة في اتّجاه التنديد بشبكات التدخّل التي تحاصر القضاء وتسمية الأشياء بأسمائها وإن خلا البيان من تحديد هوية الأشخاص المعنيين. وبالطبع، يتلاقى موقف صليبا هنا مع موقف نادي قضاة لبنان الذي كان سبّاقا في كسر اللغة الخشبية في مخاطبة الرأي العام.      

ثالثا، ما لا يقل أهمية من نشر البيان، هو رصد ما ستقوم به الجهات المعنيّة من بعده. فهل ستباشر النيابة العامة فورا تحقيقاتها للتثبت من تورط أي من المسؤولين المشار إلى أسمائهم أعلاه (وفي مقدمتهم النائب الياس بو صعب) وموقع ليبانون ديبايت في التدخّل في القضاء على أساس المادة 419 من قانون العقوبات أم أنها ستنحاز كما فعلتْ في قضية المرفأ وقضايا المصارف لأصحاب النفوذ ممتنعةً عن أي تحقيق جدّي؟ والأهم، ما هي التدابير التي ستتخذها وزارة العدل من أجل ضمان حق القضاة ببيئة عمل سليمة تخولهم القيام بأعمالهم باستقلالية من دون تدخل أو خوف؟ ما هي التدابير التي ستتخذها في اتجاه وسائل الإعلام والأجهزة الرقابية المشرفة عليها أو أيضا في اتجاه مجلس النواب؟ ومن المهم هنا أن نقارن ما سيكون عليه موقف وزير العدل هنري خوري في هذه القضية مع موقفه المتشدّد حيال الانتقادات التي وجهها النائب فراس حمدان إلى أداء القاضية منى حنقير والمحكمة العسكرية في سياق مناقشة اقتراح قانون القضاء العسكري وصولا إلى تعطيل ورش إصلاح القضاء للأسبوع السابع على التوالي. وما يزيد من إلحاح هذه المقارنة هو  أنّ لا شيء يبرر التدخل في القضاء، فيما أن انتقادات النائب في ممارسة عمله التشريعي تجد ما يبررها في هذه العمل وفي المادة 40 من الدستور. السؤال نفسه يوجه إلى مجلس القضاء الأعلى الذي انوجد أصلا من أجل السهر على استقلالية القضاء,   

بقي أخيرا أن نذكر بأن رئيس مجلس النواب نبيه برّي كان صرّح في أثناء مناقشة تعديل المادة 419 من قانون العقوبات أن من شأن المادة الجديدة أن “تضعنا كلنا إلى الحبس”، تصريح انتهى بضحك كثيف وتصفيق حارّ من النواب آنذاك. على أمل أن تطبق هذه المادة في هذه القضية. 

انشر المقال

متوفر من خلال:

المرصد القضائي ، مؤسسات إعلامية ، قرارات قضائية ، استقلال القضاء ، لبنان ، مقالات ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني