لم يكن ينقص جلسة إقرار الموازنة، مع كل ما شابها من فضائح ومخالفات، سوى التلاعب بنصها النهائي. “أسوأ جلسة في التاريخ” كما وصفها أحد موظفي المجلس، زادت سوءاً بعد تحويل القانون إلى مجلس الوزراء لتصديقه ونشره، وكالة عن رئيس الجمهورية. ببساطة تبيّن أن النص الذي وقّعه رئيس مجلس النواب نبيه بري مخالف لما أُقرّ في الجلسة العامة التي عقدت بين 24 و26 كانون الثاني الماضي. وهذا فتح شهية عدد من النواب للإسراع في تحضير طعون لتقديمها إلى المجلس الدستوري.
إبقاء الضريبة على شركات الأموال 25% خلافاً لقرار المجلس
بعد أن تأخر تحويل الموازنة إلى مجلس الوزراء، على خلفية الخلاف على الصيغة النهائية للمشروع، تبيّن أن تعديلاً طال صيغة البند الخاص بزيادة الضريبة على شركات الأموال من 17 إلى 25%، الذي كان شكّل ضربة قاسية وغير متوقعة للوبي المصارف والمال في المجلس.
وبحجة الفوضى التي رافقت الجلسة، شكّك عدد من النواب بتعديل هذه المادة وطلب الاطلاع عليها قبل إنجازها وإرسالها إلى الحكومة، ومن هؤلاء النائبة غادة أيوب التي أكدت عدم حصول التعديل. وهو ما حسمه النص النهائي للقانون الذي جاء ليضمن مصلحة شركات الأموال، ويبقي على الضريبة كما كانت، أي 17%.
وكانت المادة 47 من المشروع الذي أقرته لجنة المال والموازنة (المادة 46 في القانون المحوّل إلى الحكومة) قد شهدت معارضة شرسة من النواب: غادة أيوب، ألان عون، نعمة افرام، ابراهيم كنعان، ومروان حمادة، الذين تكتلوا بشكل استثنائي في محاولة إلغاء التعديل المقترح من النائبة بولا يعقوبيان.
لكن في المقابل، كانت يعقوبيان والنائب فراس حمدان وآخرون يصرّون على رفعها، رافضين الاستمرار في محاباة رؤوس الأموال على حساب الناس. وفي ظل فوضى عارمة أعلن بري تصديق المادة برفع النسبة إلى 25%، وسط حالة من الصدمة لدى المؤيّدين والمُعترضين، انطلاقاً من أن هكذا مادة لا تمرّ عادة في مجلس النواب اللبناني الموصوف بنادي حماية رؤوس الأموال. علماً أنه منعاً للتأويل أعاد النائب حسن فضل الله التثبّت مما إذا صارت النسبة 25%، فجاءه التأكيد من رئاسة المجلس.
هذا التعديل، بالرغم من إقراره والانتقال إلى المادة التي تعقبه، لم ينهِ حالة الغضب ومحاولات الإيحاء أنّ التعديل لم يحصل وأن المادة بقيت على حالها، خلافاً لما حصل فعلاً في حضور ممثلي وسائل الإعلام والضيوف والموظفين. وهؤلاء نجحوا فعلاً في مسعاهم. لكن على ما يؤكد نائب من الرافضين لتعديل النسبة، فإنه “بغض النظر عن موقفي الشخصي”، كان واضحاً أن المجلس رفع النسبة إلى 25%، وبالتالي فإن التلاعب بالنص النهائي يعرضّ القانون للطعن.
مادتان جديدتان بصياغة ملغومة
التأخير في تحويل القانون يعود أيضاً إلى حسم نص المادتين اللتين زيدتا على المشروع بعد مطالبة من النائب وائل أبو فاعور وإصرار من النواب حسن فضل الله وفراس حمدان وبولا يعقوبيان وموافقة من نواب آخرين وتفرضان ضريبة، أو غرامة، على المستفيدين من منصة صيرفة ومن سياسة الدعم.
وبحسب النص النهائي تبيّن أن المادتين صارتا على الشكل التالي:
- المادة 93: “خلافاً لأي نص آخر، تخضع الأرباح التي حققها الأشخاص الطبيعيون والمعنويون نتيجة العمليات التي نفذوها على منصة صيرفة استناداً إلى تعميم مصرف لبنان بهذا الشأن والتي تفوق مبلغ 15 ألف دولار لضريبة استثنائية إضافية نسبتها 17% وتعتبر هذه الضريبة من الأعباء القابلة للتنزيل بالنسبة للمكلفين على أساس الربح الحقيقي”.
- المادة 94: خلافاً لأي نص آخر، تخضع المؤسسات والشركات التي استفادت من الدعم الذي أمّنه مصرف لبنان لتغذية فروقات سعر صرف الدولار لضريبة استثنائية إضافية مقدارها 10% على المبلغ الذي يفوق عشرة آلاف دولار، وتحدد دقائق تطبيقها بقرار يصدر عن وزير المالية.
في ما سبق استعملت صيغة “ضريبة استثنائية” بالرغم من أن هذا الأمر خضع لكثير من النقاش في الجلسة، بين من يرفض تسميتها بالضريبة لأنه لا يمكن إقرار ضريبة بمفعول رجعي، وبين من يرفض استعمال صيغة غرامة لأن الغرامة تنتج عن مخالفة، ومن استفادوا من صيرفة لم يخالفوا. لكن في نهاية النقاش مالت الدفة إلى صيغة “غرامة استثنائية” قبل أن تعتمد عبارة “ضريبة استثنائية” في النص النهائي، وهو ما يمكن أن يعرضّ هذه المادة للطعن أيضاً.
في المادة التالية استعملت أيضاً عبارة “ضريبة استثنائية”، إلا أن الأبرز كان تضمنها جملة إضافية لم تطرح في المجلس هي: “تُحدّد دقائق تطبيقها بقرار يصدر عن وزير المالية”. وهي جملة قد تؤدي إلى الحدّ من فعالية المادة، وفتح الباب أمام الابتعاد عن الهدف منها إذا ما لجأت وزارة المالية إلى إقرار قرار تطبيقي ملغوم. كذلك كانت الصيغة المقترحة من أبي فاعور تقضي بفرض ضريبة 7% تذهب عائداتها إلى صندوق استرداد الودائع، إلا أن الصيغة النهائية أغفلت مسألة الصندوق كما اعتمدت نسبة 10% للضريبة.
“إيجار أملاك الدولة” عدّلت… لم تعدّل
من المواد التي ضاعت كيفية تعديلها في ظل الفوضى العارمة في الجلسة، كانت المادة 56 من القانون، والمتعلقة بإدارة وبيع أملاك الدولة الخصوصية. تلك المادة تنصّ على إمكانية تأجير هذه الأملاك من خلال مزايدة عمومية يتم تنظيمها وفقاً لقانون الشراء العام لفترات حدها الأقصى أربع سنوات بالنسبة للعقارات غير المبنية التي يتضمن عقد الإيجار إقامة إنشاءات عليها، ويقتصر على الصيانة العادية والاستثمار، وتسع سنوات قابلة للتجديد لمرة واحدة بالنسبة للعقارات غير المبنية التي يتضمن عقد الإيجار أعمال صيانة رأسمالية واستثمارية تزيد قيمتها عن إيجار سنتين.
خلال النقاش كان النائب وضاح الصادق أبرز المدافعين عن المادة، فيما برز اعتراض نيابي على عقد الإيجار الذي يمكن أن يصل إلى 18 سنة، مطالباً بتقصير المدة أو بإلغاء إمكانية التمديد، خاصة للعقارات التي تتضمن أعمال صيانة رأسمالية. وإذ أوضح النائب علي حسن خليل أن خلفية هذه المادة تتعلق تحديداً بالمدينة الرياضية، حيث لا يمكن للدولة أن تعيد ترميمها، فقد اعتبر الصادق أن كلفتها العالية تفرض زيادة مدة الاستثمار بما يسمح للشركات بالتقدم لتأهيلها. وبنتيجة النقاش الذي اختلط أيضاً مع الصراخ والكلام من دون إذن، مالت الدفة إلى الإبقاء على مدة الأربع سنوات مع إمكانية تمديدها مرة واحدة مقابل إلغاء إمكانية التمديد عن مدة الـ9 سنوات. وهو أمر وافق عليه الصادق، بالرغم من إشارته إلى أن التمديد ليس حتمياً ويخضع لموافقة الطرفين. ومع ضياع النقاش بين التصويت على التعديل من عدمه، ضاعت الحقيقة أيضاً، قبل أن يتبين أن المادة بقيت من دون تعديل. وهي مسألة يؤكد نواب أنها مخالفة لما أقر في الجلسة، فيما يقر آخرون بعدم معرفتهم بما أقر فعلياً بنتيجة الفوضى.
إسقاط مادتين من الموازنة
الفوضى كانت أيضاً سبباً أو حجة لإسقاط مادتين كاملتين من الموازنة هما المادتان 56 و57 اللتان تتعلقان بإعادة تخمين الأصول الخاصة بالمؤسسات الخاضعة للتكليف بالربح الحقيقي، وإعادة تقييم استثنائية للأصول والمخزون للمكلّفين بضريبة الدخل وإجراء معالجة استثنائية لفروقات الصرف. فالنص النهائي للقانون لم يلحظ المادتين نهائياً، بالرغم من أن النواب لم يصوّتوا عليهما أصلاً. وبالتالي لم يقرروا مصيرهما، إن كان إلغاء أو تعديلاً أو إقراراً من دون تعديل. وبالرغم من أن ذلك وضع الأمانة العامة للمجلس في موقف لا تحسد عليه، إلا أن التغاضي التام عنهما لا يعبّر عن إرادة المجلس، إنما عن إرادة رئيسه الذي فضّل إنهاء الجلسة قبل إنهاء درس كل المواد. فعندما طرحت المادة 56 جرى نقاش مطول بشأنها أنهاه رئيس المجلس بتأجيل البحث بها وبالمادة التي تليها، لترابطهما، ريثما يتم الاتفاق جانبياً عليهما، إلا أن الجلسة انتهت من دون العودة إليهما، بالرغم من الصراخ المطالب بمناقشتهما.
الإيرادات والنفقات المتوقعة ترتفع من 295 إلى 308 آلاف مليار ليرة
كل هذه الفوضى كان يمكن تلافيها لو أن إدارة الجلسة لم تصرّ على حرق المراحل وإنهاء مناقشة الموازنة في جلسة واحدة. وهي فوضى لم تنعكس على مواد الموازنة فحسب، بل على أرقامها أيضاً. والأخطر أنها ساهمت في التغاضي عن موجبات قانونية كأن يتم التصويت على الإيرادات بعد التصويت على النفقات وعلى مواد الموازنة.
هكذا انتهت الجلسة من دون معرفة قيمة الإيرادات أو النفقات المقدّرة، فبعد تأجيل المادتين 2 و3 حتى نهايتها، تحسّباً لتعديلات يمكن أن تطرأ أثناء درس المواد، إلّا أنّ العودة إليهما تمّت من دون نقاش الأرقام النهائية ومن دون معرفتها حتى، بالرغم من أن التعديلات التي أجريت، مثل إقرار رسوم على العمالة الأجنبية وعلى الشاحنات الأجنبية، يُفترض أن تزيد الإيرادات. كما لم يُعرف ما إذا كان المجلس قد أقرّ زيادة اعتمادات وزارة الأشغال، كما طالب النائب فضل الله. وحتى عندما حاول النائب رازي الحاج، بالصراخ أيضاً، السؤال عن الأرقام التي صُوّت عليها وكيف أصبحت، لم يهتم رئيس المجلس بالإجابة.
وإذ بقيت الأرقام غامضة بالنسبة لجميع النواب، فقد تبين بعد تحويل القانون إلى رئاسة مجلس الوزراء أن مجموع الاعتمادات ارتفع في الجزء الأول من 269.177 ألف مليار ليرة إلى 276.498 ألف مليار ليرة. وفي الجزء الثاني من 25.936 ألف مليار ليرة إلي 31.936 ألف مليار ليرة، ليرتفع مجموع الإيرادات، بالنتيجة، من 295.133 ألف مليار ليرة إلى 308.435 ألف مليار ليرة.
وفي المقابل، ارتفعت الواردات أيضاً من 295.113 ألف مليار ليرة إلى 308.435 ألف مليار ليرة مع الإبقاء على تصفير بند الواردات الاستثنائية (القروض)، بالرغم من أن النواب، كانوا أكدوا أن أرقام الموازنة غير واقعية وغير صحيح أنها لا تتضمن عجزاً.
للاطلاع على قانون الموازنة الجديد