الفلسطينيّون في تونس: عن نكبة الحرب وحُلم العودة


2024-09-02    |   

الفلسطينيّون في تونس: عن نكبة الحرب وحُلم العودة

يَعود آخر خبر نقلته وسائل الإعلام  التونسية بخصوص الجرحى الفلسطينيّين القادمين من غزّة، إلى 19 ديسمبر 2023، عندما استقبلت تونس ثاني دفعة من الجرحى ومرافقيهم. كانت زاوية التعاطي مع الخبر  مُرجَّحَة أكثر لصالح مساندة تونس الدائمة للقضية الفلسطينية ووقوفها في صفّ الشعب الفلسطيني، أكثر من الحديث عن الجرحى وقصصهم ورحلة معاناتهم. والحال أنّ وصولهم إلى تونس في ظلّ البعد عن الأهل وكثرة الأوجاع والخطوب يمكن أن يكون عبئا ثقيلا لا يمكن تحمّله، ولكنّ “رُوز” تفطّنت إليهم وشاركتهم تفاصيل حياتهم وخفّفت عنهم، خصوصا عن النّساء.

روز فتاة ثلاثينية، فلسطينيّة الأصل مقيمة بعمّان وعاشت لفترة في سوريا. انتقلت إلى تونس قبل شهرين من بداية العدوان على غزّة، وهي تدرّس اللهجة الفلسطينيّة لغير الناطقين بالعربية. شكّلت الحرب بالنسبة إليها فرصة للتعريف بفلسطين والحديث مع طلّابها الأجانب، خصوصًا الألمان منهم، عن تواطؤ حكوماتهم مع الإبادة الحاصلة. لم يكن هدفها تغيير أفكارهم بقدر ما كان رغبة في إبراز مساهمتهم في تمويل الحرب عبر الضرائب التي يدفعونها لحكوماتهم. اعتذرت في البداية عن تأمين الدروس لمن لم يعبّر عن موقف صريح مساند للقضية الفلسطينيّة، فيما سعت إلى الحديث معهم بموضوعيّة عن الاحتلال وجرائمه، بعيدًا عن استدرار العواطف، واستطاعت تغيير موقف البعض من طلّابها، الّذين خرجوا في مسيرة مساندة لفلسطين.

بعد جولة في المخيّمات والعمل الإنساني خلال الانتفاضة الشعبية في سوريا بين مضايا واليرموك والزعتري وغازي عنتاب، حدّدت روز بوصلتها بشكل جيّد، حيث عملت هناك كمتطوّعة وصيدلانيّة في مخيّمات اللاجئين بتركيا والأردن، وساهمت أيضًا في تدريس الأطفال اللغتين العربية والانكليزية. وتقول إنّ تلك التجربة “غيّرتها كثيرًا” وجعلتها تدرك أنّنا “لا نعيش بالخبز وحده”، خاصّةً مع تواتر الانتفاضات الشعبية في المنطقة للمطالبة بالحريّة والكرامة. قَبل العدوان على غزّة، كانت روز تخوض “معارك شخصيّة”، جسّدتها في وشم “مقاومة” الّذي تضعه على معصمها الأيسر. تقول للمفكرة القانونية إنّها كانت تحاول أن تعيش قيم الحرية والكرامة والمقاومة على المستوى الشخصي وخرجت من “البلاد” في إطار “الخلاص الفردي” لتعيش حياتها بشكل يَتنَاسب مع مبادئها. المعارك الذاتية بالنسبة إليها تتقاطع مع مشروع الحرية ومقاومة الاحتلال التي نشأت وكبُرت في عائلة تُدافع عنها، إذ كان جدّها من مؤسّسي حركة فتح في الأردن وكان والدها لا ينفكّ يُحدّثها عن الثقافة والتقاليد وخارطة فلسطين ومحمود درويش و”أبو عرب” ويُلقّنها أغاني من التراث مثل “وين؟ ع رام الله”. وترى أنّ الحرب لا يُمكن أن تُختَزل في القصف والتقتيل، ولكن أيضًا في قصص الحبّ والفراق، والدراسة والطموحات الموءودة ورسائل الماجستير الّتي لم تكتمل بسبب الحرب، وغيرها من التفاصيل اليوميّة.

شاركت رُوز في المظاهرات والندوات السياسيّة الّتي انعقدت في تونس مع بداية العدوان، وتحدّثت عن القضيّة ومآلها، مدفوعة بشعور الغضب والعجز الّلذَيْن “شلَّا حركة حياتها” بالكامل. واستطاعت التشبيك مع النساء الجريحات الفلسطينيّات بتونس عبر منظّمات نسوية في الأردن، ومع الطّلبة الفلسطينيّين عن طريق أصدقاء لها من تونس. تُحاول روز مساعدة الجريحات والمتضرّرات مادّيًا وتزورهنّ وتجلس معهنّ وتقضي وقتًا برفقتهم لشرب قهوة وتجاذب أطراف الحديث عن الطقس والبحر والأكل. 

“أستطيع فتح الحديث معهن، فأنا امرأة وفلسطينيّة مثلهنّ، ويَشعرن بالارتياح معي وأنا كذلك. أشعر أنّ كلّ واحدة منهنّ هي أمّي، وأحضنهنّ بصدق”. وبالتنسيق مع أصدقائها وصديقاتها هنا في تونس، اصطحبت روز عددًا من النساء الجريحات ومرافِقاتهنّ في رحلة إلى إحدى الضيعات في منطقة سيدي ثابت في العاصمة التونسية. “هناك رقصنا وغنّينا ولكنّهنّ مصابات فكنّ يتحرّكن بصعوبة. طبَخت لهنّ المقلوبة الفلسطينيّة وفرحن بها كثيرًا لأنهنّ لم يتذوّقن الأكل الفلسطيني منذ فترة”، تقول روز للمفكرة.

نساء فلسطين في تونس: عيّنة من الغُربة والألم

تُكِنّ روز تعاطفًا خاصًّا مع النساء لأنّهنّ في نظرها “الحلقة الأضعف” في الحرب، ولأنّ التّعامل معهنّ أسهل من التعامل مع الرّجال، الذين يُعتَبَرون أقدر منهنّ على تدبير شؤونهم. تروي روز للمفكرة القانونيّة موقفًا تعرّضت له إحدى الجريحات القادمات من غزّة التقتهَا هنا في تونس. هي امرأة مطلّقة تُقيم مع أفراد أسرتها في “بيت العِيلة”. قُصفَ منزلهم وانهال عليهم جميعًا رُكام البيت. استطاعَ والدها وإخوتها الذّكور العثور على زوجاتهم من تحت الأنقاض، فيما ظلّت هي لوحدها تحت الرّكام، دون أن يفتقدها أحد أو ينتبه لغيابها أيّ من أفراد عائلتها، إلى حين قدوم متطوّعي الهلال الأحمر الّذين تفطّنوا لوجودها، لتشعر أنّها منسيّة حتّى عند اشتداد خطوب الحرب، ليُضاف ألم الوحدة والنسيان إلى هول القصف والتشريد.  

ساعدتنا روز على لقاء عائلات فلسطينيّة مقيمة بتونس. كان الاستعداد لذلك اللقاء ثقيلا جدّا، فلا يمكن تخيّل نفسيّة العائلات المكلومة في عائلاتها وأموالها وأبدانها ووطنها. رحّبت بنا “أمّ عبير” (اسم مستعار بطلب منها) في شقّتها بجهة بن عروس، بحفاوة مشوبة بشيء من الحذر. كان جهاز التلفزيون في غرفة الجلوس يبثّ مقطعًا لأبو عبيدة على قناة الجزيرة، فنظرت إليه ابنتها عبير الجريحة وقالت “أرجو أن تكون هذه كلمتك الأخيرة قبل إعلان النّصر”، فترتفع الأصوات من حولها “آمين! “

فقدت “أمّ عبير” التي تَبلغ من العمر تسعا وأربعين سنة أربعةً من أحفادها، وأُصيبت ابنتها “عبير” العشرينيّة في منطقة الحوض خلال قصف على مخيّم المغازي بدير البلح وسط قطاع غزّة، ممّا استوجب نقلها إلى مصر ومن ثمّ إلى تونس. تروي “أمّ عبير” رحلة قدومها وابنتها من مصر إلى تونس بشيء من الحسرة والنّقمة على ما آل إليه الوضع، وعلى سوء تعامل السفارة الفلسطينيّة في تونس مع مواطنيها . حيث نُقلت هي وابنتها من “العريش” بمصر إلى سوسة بالوسط الشرقي لتلقّي العلاج بمستشفى “سهلول” الجامعي، ومنها إلى نابل بالشمال الشرقي ومن ثمّ إلى العاصمة تونس، لتتكفّل منظّمة الهلال الأحمر التونسي بمصاريف مَسكنها وملبسها وإقامتها، مع بقيّة العائلات الوافدة. “سفارتنا لم تفعل شيئا من أجلنا. بقينا في المستشفى ننتظر مآلنا إلى حين تكفّل الهلال الأحمر بنا. سفارتنا لا تعلم حتّى عدد الجرحى الفلسطينيّين ومرافقيهم، ولا تسأل إلاّ عن أحوال الجالية التونسية في غزّة”، هكذا قالت أمّ عبير للمفكرة القانونية.

لم تستوعب أمّ عبير أنّها غادرت الأهل والدّيار، وتُحاول أن تتواصل بشكل يوميّ مع ما تبقّى من أفراد أسرتها، زوجها وابنها، وتطمئنّ على أحوال البيت. “الحمد لله، قُصِفَ البيت ولكن مازال الجدار وبعض الأركان قائمة. كلّما أحدّث زوجي أو ابني بالكاميرا عندما تتوفّر شبكة الأنترنت هناك أطلب منهما تمكيني من رؤية البيت حتّى أطمئنّ أنّ معالمه مازالت ثابتة بعد، على أمل أن نعود إليه يومًا ما”.

لا تبدو أمّ عبير وجَاراتها الفلسطينيّات اللائي التحقن بشقّة أم عبير بطلب من روز مُتحمّسات لموضوع الاندماج وسط المجتمع التونسي، فكلّهنّ يأملن في انتهاء الحرب والعودة سريعًا إلى الديار. يتحدّثن بشغف عن الأكل الفلسطيني والتجمّعات العائليّة في “البلاد”. نحاول أن نشعرهنّ بأنّهنّ وَسط أهلهنّ فلا يَعبأن بهذا القول. فهنّ يدركن جيّدًا أنّ حلولهنّ بتونس لم يكن خيارًا بل اضطرارًا، ولا يمكن إكراههنّ على “حبّ تونس”. تحاول بعض النّساء الجريحات أن تشتغلن بالتطريز مؤقّتًا، ربّما لقضاء الوقت وتقاسم هواية تُذكّرهنّ بالبلد، إلى أن يأتي ما يُخالف ذلك. ففكرة العمل وتدبير الشؤون تُحيل على الاستقرار وبداية حياة جديدة، وهو ليس أمرًا مطروحًا بالنسبة إليهنّ في الوقت الحالي. تُفسّر روز ذلك بأنّهنّ في حالة إنكار ورفض للواقع، وأنّ تمسّكهنّ بفكرة العودة يزيد من رغبتهن في عدم الاندماج، لأنّ البقاء هنا مرحلة مؤقّتة في انتظار انتهاء الحرب وعودة الأمور إلى نصابها. حتّى أنهنّ يرفضن الأكل التونسي، رغم حديثنا المستفيض عن تنوّع المطبخ التونسي ومزاياه. لكنّ أمّ عبير تُجيبنا بسخرية: “لا أفهم كيف تأكلون التونة والبيض في وجبة واحدة؟ هذا غير منطقي”، وتتعالى ضحكات النساء الحاضرات في غرفة الجلوس.

كان معهنّ طفل لم يتجاوز الخامسة من عمره. مات أهله جميعًا تحت القصف في مدينة غزّة وكان النّاجي الوحيد مع خالته. يبدو أنّه تَذكّر، بعد ثمانية أشهر، ما حدث في ذلك اليوم. بصخب الأطفال المعتاد، كان يحاول لفت الانتباه إليه بالقول: “هل أحكي لكم كيف تمّ قصفنا؟ كنت ألبس حذائي، ولكنّهم قصفونا”. في بداية الحرب، كان هذا الطفل يُحاول اللّحاق بأبناء عمّه ونزل معهم الدّرج بحثًا عن الماء. فنزلت قذيفة على البيت ودمّرته بمن فيه. بقي على قيد الحياة وكفَلته خالته وصار يعتقد أنّها أمّه، من هول الصدمة. تُحدّثنا روز عن هذا الطفل لتقول: “أطفَالنا يتعلّمون عبارات القصف وإسرائيل والحرب قبل أن يتعلّموا الكلام”. أمّا “عتاب”، فكانت تقيم في رفح قبل أن تنتقل إلى تونس للعلاج. فقدت كلّ أفراد عائلتها، زوجها وكلّ أبنائها. كانت تُمسك هاتفها وتُقلّب الصّور وتقول: “أتَرين كم هو جميل هذا الشاب؟ إنّه ابني. استشهَد”.

تَحمِل روز على عاتقها مسؤولية الإنصات والاهتمام والمساعدة للجريحات والطّلبة الفلسطينيّين الّذين وجدوا أنفسهم مُحاصرين في تونس بعد انسداد الأفق وغلق المعابر. تقول للمفكّرة إنّ كلّ فلسطينيّي الداخل يتحمّلون مسؤولية اجتماعية إزاء الفلسطينيّين المهجَّرين والّذين غادروا بلادهم قسْرًا وقت الحرب، وإنّها تُعامل كلّ فلسطيني كما تُعامل صديقتها الّتي تعيش في غزّة. تُنصت إليهم ولا تطلق عليهم أحكامًا مسبقة. لا تلومهم إن اختاروا المهاجرة تمسُّكًا بالحياة، أو إن تشبّثوا بالبقاء في أرضهم. “لقد أدّبتني الحرب”، هكذا تقول للمفكّرة.

أفق مسدود أمام طلبة الجامعات

بوساطة من روز، التقَينا طالبَيْ قانون من فلسطين، أنهيَا مرحلة الماجستير وكانا على وشك العودة إلى البلد، ولكنّ الحرب وغلق المعابر حالاَ دون ذلك. إبراهيم ومصطفى (اسمان مستعاَرَان بطلب منهما) يقطنان بمنطقة العمران الأعلى بالعاصمة. درَسَ كلّ منهما القانون العامّ في كلية الحقوق بتونس، إبراهيم يتدرّب في مكتب محاماة فيما لا يجد مصطفى عملًا يساعده على تدبير شؤونه. “الحياة قاسية على التونسيين أنفسهم، ولا يكادون يجدون عملا لائقًا، فما بالك نحن؟” يتساءل إبراهيم بحسرة، مضيفًا أنّ التشغيل بالنسبة إلى الأجانب في تونس يطرَح عديد الإشكاليات المُتعلّقة بإبرام العقود وحقوق الموظّفين وترتيبات الالتحاق وصرف الرّواتب الشهرية وغيرها من المسائل التي قد تبدو عاديّة، ولكنّها تتعقّد مع الأجانب الّذين يجدون صعوبة حتّى في تجديد إقاماتهم. يكتفي مصطفى بنفث الدّخان من سيجارته وهو لا ينفكّ يبتسم بمرارة. يعيش أهله في شمال غزّة ويعانون التجويع الممنهج، ولا يستطيع تقصّي أخبارهم بسبب الانقطاع المتواصل في شبكة الأنترنت. تبدو عليه علامات القلق والإجهاد ولكنّه يقول ساخرًا من الأوضاع: “أتدرون ما هو أفضل شيء في هذه الحرب؟ أنّها تسبّبت في غلاء أسعار السجائر، وبذلك سينقطع أهل غزّة عن التدخين. وثانيًا، لأنّها خفّضت من تكاليف الزواج وصالونات التجميل. يحدّثني أخي أنّ هناك حفلَيْ زفاف في ليلة واحدة شمال غزّة، رغم الجوع ورغم كلّ شيء. لا أعلم لم يُصرّ هؤلاء على الزّواج؟” فنجيب: “ربّما هو شكل من أشكال المقاومة وحبّ الحياة”. فيضحك مصطفى ليكشف مدى عبثيّة حبّ الحياة في مثل هذه الظروف.

فيما كان مصطفى يَسخر من الوضع، يبدو إبراهيم أكثر جديّة لأنّه مازال متشبّثًا بشيء من الأمل رغم كلّ شيء. يوجّه لومًا كبيرا لسفارة بلاده في تونس ويقول: “السفارة لا تكلّف نفسها حتّى مجرّد السؤال عنّا. في الظروف العاديّة قبل الحرب كانت تدعو كلّ الطلّاب الفلسطينيّين للإفطار في رمضان أو الاجتماعات في الأعياد والمناسبات. أمّا الآن، فلا نجد منها لا اتّصالا ولا اهتمامًا”.

أمّا عن المقاومة، فتقول روز إنّ التحرير سيرورة، وإنّ كلّ جيل يخوض حربه في التحرّر، وإنّ غزّة محاصرة منذ ما قبل الحرب، حيث تقوم إسرائيل باحتساب السعرات الحرارية لإدخال المؤونة لأهل غزّة. أمّا إبراهيم، فيتحدّث عن المقاومة بإعجاب وإكبار، على اعتبار أنّها “تزرع الأمل” رغم كلّ الوجع والفقد. أمّا مصطفى فلا يبحث سوى عن سيجارة أخرى ينفث دخانها.

انشر المقال

متوفر من خلال:

الحق في الحياة ، الحق في الصحة ، الحق في السكن ، الحق في التعليم ، مقالات ، تونس ، فلسطين



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني