الفقر عندما لا يكون «قضية»: خصائص حسّية تجعله في مواجهة يوميّة مع السُلطات والمجتمع


2013-09-30    |   

الفقر عندما لا يكون «قضية»: خصائص حسّية تجعله في مواجهة يوميّة مع السُلطات والمجتمع

عندما يكون الكلام عن الفقر، تأتي على البال مشاهد أناسٍ مشرّدين وبؤساء، أو مشاهد المتسوّلين، أو وجه إنسانٍ ملوّن بالفحم أو الوحل، كما تأتي على العقل أفكار القدرة الشرائية والعوز ونقص الموارد المادية. المشاهد هذه مثيرة، لا شك، وهي ما يستند إليه عفوياً أي مصمّم غرافيك لدراسة أعدتها “الأمم المتحدة” أو إحدى المنظمات المعنية بالفقر وبمحاربته، أو أي معدٍّ أو مخرج لإعلان تلفزيوني يأتي على ذكر الفقر لسبب أو لآخر. هكذا يُقدم الفقر على ضوء مشهدٍ لا يختلف على تقييمه اثنان، ولا شك بأنه المشهد الميهمن في المجتمع، والذي يتكرر صوغه مع بعض الفوارق في خطاب المدارس والمؤسسات الدينية والإعلام.
الفقر بصفته “قضية”
في المشهد هذا، قد تبدو محيّرة معضلات استمرار الفقر في المجتمع رغم الإجماع الموجود على تعريفه ووجوب القضاء عليه، وهي تطرح على بساط البحث وجوب التفكير في الفقر خارج تقييم المعتقدات والنيّات. لكنّ للموضوع أبعاداً أخرى، إذ إن صور الفقر هذه التي تقدم الفقير وكأنه جاء من الخلاء أو الطبيعة بهذا المظهر غالباً ما تستر الوجه الآخر لـ”طبيعة” الفقير، وهي أن سلوكه بادية عليه علامات الانهزام لأنه، قبل كل شيء، ضحية أخيه الإنسان. إن من خلال الاستغلال، أو سوء المعاملة، أو النبذ، أو حتى القمع. فالفقراء من ضحايا المجاعة في بعض دول أفريقيا الوسطى لم يصلوا إلى بلائهم بسب الرمال والتصحّر المحيط بهم في الصور، بل بسبب ميليشياتٍ ونظام توزيع للغذاء والثروات مفروض عليهم كما فُرض على غيرهم من البيض الإيرلنديين في السابق مثلاً.
الفقر كما نعرفه ليس كالفقر في القرون السابقة للثورة الصناعية والتوسّع الاستعماري الذي جعل من الدنيا أسواقاً وموادَّ أولية ويداً عاملة بل “جيش احتياط” من العمال. والفقير عرضة لعملية حجب من المرئية الاجتماعية تحت عناوين عدة. ولا وجود “لقضية الفقر” المشار إليها أعلاه إلا من خلال ساحات من المجتمع محاطة بخصوصية مؤسساتية وعقائدية تحصر اختبارات التأثر بالفقر وتمنع تفشي هذه الاختبارات إلى ساحات أخرى. تخيلوا أن يصل المرء إلى سهرةٍ مخملية ويشارك الجمع الحاضر بحزنه لمشاهدته شخصاً فقيراً في الشارع. كيف سيكون استقباله من الآخرين؟ في هذه الحال، تكون آليات الحصر في قواعد المائدة أو السهر، شبه المكتوبة، والتي تقضي بوجوب التسلّي وبقلّة أخلاق و”بثقل دم” من يأتي على ذكر السياسة وما يمتّ إلى “الجِد” بصلة (مع أن الحديث في “البزنس” دائماً مرحب به).
ومن أبرز الآليات التي تستر “قضية الفقر” مباشرةً تلك التي تنزع عن الفقر تفاصيل خصائصه الحسيّة، لتبقي منها ما يسهل رفضه فيشرّع قمعه. وهذه الآليات هي بالواقع أبرز ما يفعله الإعلام مثلاً، الذي ينزل صفاتٍ على الأشياء ويصبغها بخصائص حسية على وقع نقاشات حقله (“8 أو 14 آذار”، مع أو ضد “الثورة السورية”، إلخ.) وضمن أطر معرفة أعضائه المحدودة والمكبلة بضرورات السرعة المهنية.
قد يبدو الحديث عن خصائص حسيّة غريباً، إذ تُعوّدنا المؤسسات المهيمنة في المجتمع المعنية بالخطاب (المكتوب أو المحكي) على تسجيل الاحتكاكات بين الناس، أو حتى على تحليل العلاقات بينهم، على أساس التحاور أو التواصل أو التخابر: “عقد اجتماعي” أو “مواطنة” مشتركة و”تربية مدنية” تربطنا بالآخرين. لكن الواقع اليومي والعملي يحكي غير ذلك، إذ إن المرء لا يحتكّ بغيره على أساس طلب منه أشياء أو على أساس نقاش، وأغلب احتكاكاتنا بالناس تتبع أسساً مختلفة لا تعريف لها. يعرف ذلك، إذا تفكر في الأمر، من يلاقي رفاقاً له يومياً دونما الحاجة لإخبارهم بجديد، فقط لتمضية الوقت بصحبتهم، أو من يختار رفيقة جميلة تتمثّل بمحمود درويش على الفايسبوك لمرافقته في مشاهدة فيلم أو عرضٍ فني، إلخ.
هذا للقول بطغيان هذه القواعد على سلوك الإنسان وبأرجحيتها في كثيرٍ من الأحيان في تحديد سلوكه، بما فيها قراراته في ساحات النقاش والتواصل المدوَّن، والتي تتبع طقوساً معترفاً بها. والطغيان هذا مرده إلى أن هذه القواعد تبقى مجهولة وخافية عن الإدراك، وعن عادات العقل اليومية، لكنه يمكن تلمّسها في حالاتٍ خاصة، أبرزها عندما يمرّ العقل اليومي بأزمة مطوَّلة، عندما تذهب الأمور بغير ما تشتهيه النفوس، دون أن يتمكّن العقل من تعريفها كما هي، كخصائص حسية كانت دائماً موجودة ولم يقرّر الإنسان أن يلتمسها إلا عندما أصيب بأزمة.
يمكن مشاهدة هذه النزعة في المقاهي المنصوبة على أرصفة المدن عندما يجد زبونٌ نفسه في موقف الانزعاج حتى الغضب من متسوّل لأن الأخير أطال وجوده في محيطه، ثم يشعر بالحرج من تصرفه مع المتسول في الدقيقة التي تتبع. الحالات هذه كلاسيكية فيما تخبرنا عن علاقة الفرد بمحيطه المادي من حيث تماسكه العقلي والحسي، إذ إن الاحتكاك هذا يمنع الفرد من متابعة حديث مع رفيقه مثلاً، ما يجر صاحب المطعم أو المقهى إلى طرد المتسوِّل بحزم، وهو الذي تفرض عليه أصول مهنته تحسّس مزاج الزبون.
ملاحظة تمهيدية في علم اجتماع الدولة
كما في واقع الإعلام والمطاعم المذكورين أعلاه، تلعب “المهنة” في واقع الأمن العام والشرطة والقضاء والمحاماة دوراً في عملية طمس الفقر، قد يكون الأكثر قساوةً بين فئات المجتمع المهنية لتقريره مصائر الفقراء بشكلٍ شبه كلي ولمواكبته وتكميله لما يفعله الغير حيث كان من المفترض على الفقير أن يسترد حقّه وإنسانيته.
ومراقبة انحيازيات مؤسسات الدولة، من حيث الخصوصيات الحسيّة، أسهل من مراقبتها في غيرها من الساحات، إذ إن للدولة وثائق تسجيل وتدوين لأعمال موظفّيها وإجراءاتهم، كما سنرى أدناه. ينبغي إذاً التحديد عند التفكّر في موضوع “الدولة” وفي علاقتها مع الفقر أو مع أي قضية اجتماعية، أنه يجب اعتماد درجة متطورة من التأني، حيث إن طرح الموضوع بصيغته المعتادة في مجالات النقاش العديدة تحمل في طياتها فخاخاً معرفية كثيرة كفيلة بترك الوضع المعرفي وفعاليته العملية بحدودها الراهنة. فالدولة التي كثرت الكتب المناشدة بعودتها (الدولة في وجه الميليشيات) أو القائلة بمقامها كملجأ أو، في الجهة المقابلة من الساحة الثقافية، كأداة قمع أو كعدو، أو في “غيابها” (ما فيه دولة)، هذه الدولة لا يمكن لمن اطلع بإلمام متواضع على مختلف مكاتب إداراتها أن يعالجها على أنها كائن بيولوجي واحد، له حمض نووي واحد في كل أجهزته، ولا على أنها عبارة عن “أجهزة” (أو جهاز واحد للبعض) متراصة ومولجة بخدمة مجموعة أو طبقة في وجه طبقة أخرى. ليس من معنى كلي واحد، مقصود أو غير مقصود، لأهداف كل إدارات الدولة التي ولدت كل واحدة منها في إطارٍ مختلف عن الأخرى. والهدف من العودة إلى هذه الملاحظات هو الإشارة والتذكير بأن الهدف المرجو من أكثر الخطابات المناشدة بالتغيير الاجتماعي تتسم بتخلّ فاضح وشبه مطلق عن هدف التأثير (ولا نقول السيطرة) على عمل الدولة فيما من يتسبب بالألم والمشاكل التي تنتقدها الخطابات هذه يقيم سياسته و”عنصريته” أساساً من خلال الدولة أو بموازاة أطر عمل الدولة، وذلك ليس بالضرورة عبر السيطرة المباشرة على طاقمها، إنما بمماحكة منطق سلوكياتهم الاجتماعية.
هذا لا يعني أنه ليس بالإمكان استخراج نزعاتٍ عابرة للإدارات تجد لها منازل في أفرادٍ مختلفي التخصص وحتى “الطباع”. فموظفو الدولة، مثل غيرهم من المواطنين، هم أنفسهم محصلة بلوغٍ تربوي موحد على مستوى الوطن، ضمن أطرٍ رسمتها الدولة بشكلٍ كبير (هو تفصيل يتناساه خطاب المديح بالجيش مثلاً الذي يفترض أن الجيش ليس فيه “طائفية”) ورسمتها غيرها من وسائل التعميم الخطابي وأبرزها الإعلام. هي هذه النزعات التي تهمنا ههنا في خصوص الفقر وموضوع تنظيمه من قبل بعض مؤسسات الدولة.
العاملات الأجنبيات في المنازل
في نص مناقشةٍ منه لأفكار كاتبين بريطانيين في البنية الاجتماعية وتاريخ بريطانيا (عنوانه “غرائب الإنكليزي”)، يلقي المؤرخ إدوارد بالمر طومسون الضوء على عدم تمكّن الكاتبين في كتاباتهما من تصوّر طبقة زراعية (غير مدينيّة) تكون “بورجوازية” بتمام المعنى وتكون بذلك على انسجام مع غيرها من البورجوازيات. وعزا انحصار الرؤية هذا عند الكاتبين إلى حملهما نظرة تبسيطية “فرنساوية” إلى التطوّر الصناعي والرأسمالي للمجتمعات الأوروبية، لا تعترف ببورجوازية في بداية القرن التاسع عشر إلا إذا كانت مدينيّة وصناعيّة. فيسرد طومسون بين ما يسرده من براهين لإجحاف هذه النظرة بحق الطبقات الزراعية المتملِّكة، مثال التجمعات السكنية في كوستوالد في الجنوب الغربي للجزيرة، الوليدة من تجارة الصوف، والتي، يختم طومسون حاسماً، “تركت إلى اليوم دلائل أسلوب، صلابة، (و) انتشار لرخاء”.
طومسون، الماركسي الهوى، لم يشر في خضم حديثه عن موقع طبقةٍ متملّكة،لموقعها من “وسائل الإنتاج”. وكان مجمل تقييمه لمدى انسجام الطبقة هذه مع البورجوازيات البريطانية الصناعية من خلال تحديد مجموعة خصائص اجتماعية لتلك الطبقة، تكفي برأيه لمد الجسور والتراص مع غير مجموعات بالرغم من الاختلاف. “الأسلوب”، في تحديده، مؤشرٌ إلى منهجية فنّية تشكل دليل اجتماع الناس الموزّعين على القرى المختلفة ضمن صيغة جماعتيّة معيّنة وواحدة. و”انتشار الرخاء” دليل مكانةٍ في السلم الاقتصادي، كما يعيدنا إلى أحد المكوّنات الرمزية للسلطان في مجتمعٍ تُكسِب الثروة فيه صاحبها سلطةً سياسية: فصرف الثروة على أمورٍ دون قيمة مادية معيشية دليل امتلاك الثروة ودليل مقام صاحبها (ورأيها) المتفوّق، الذي ينظُر إلى الأمور بعيداً عن الانحيازات التي تُمليها الحاجة (تهوّر العامة). أما “الصلابة”، فهي الخصوصية الحسّية الدائمة الحضور، والأكثر عدوانية بين الصفات الثلاث، إذ إنها تحدد مكانة الجهة المعنية في وجه جهاتٍ بشرية أخرى وبالتمايز عنها. ثم يتابع طومسون سرده في النص بالتحدّث عن اجتماع المتملّكين المختلفين في بريطانيا في المرحلة تلك في وجه الطبقات الفقيرة المتحولة آنذاك إلى طبقة عاملة، لتتشكل نتيجة احتكاكات الجهتين على مدى التاريخ الذي يتبع أسس النظام السياسي والاقتصادي البريطاني.
بالانتقال الى إطارٍ آخر، في عددها السابع الصادر في كانون الثاني ٢٠١٣، عرضت “المفكرة القانونية” في مقال لسارة ونسا حالة لاجئ عراقي كان معتقلاً اعتقالاً تعسفياً في سجون الأمن العام لمدة أربع سنوات دون أي سند قانوني لاعتقاله. تبع المقال ردٌ من الأمن العام اللبناني (المفكرة عدد ٨)، يدحض فيه التهم الموجّهة إليه. وقد اقتصرت محاججته على عرض التهم القانونية التي أصدرها القضاء اللبناني بحق اللاجئ المعني وسوابق استند اليها الأمن العام لترحيله من لبنان، على أن يستنتج القارئ أو القارئة من السجل المعروض أن اللاجئ يشكل خطراً على السلامة العامة. هكذا تضمن السجل تهمة “الدخول خلسةً إلى لبنان” مرتين في العام ٢٠٠٤ نفسه، كان قد تم ترحيله مرةً بينهما، ثم كانت إدانة من محكمة صيدا لجرم “السرقة”، ثم أخيراً إدانة من محكمة النبطية لجرم “الدخول خلسة” مرة ثالثة في العام ٢٠٠٧ وتزوير جواز سفره، وكان قد استخدم هذه الوثيقة المزورة لتقديم طلب لجوء الى المفوضية العليا لشؤون اللاجئين في بيروت على ما اكتشف الأمن العام في تحقيقاته مع المتهم.
خلال مدة احتجاز المواطن تعسفاً، صدر عن القضاء اللبناني قراران بوجوب إخلاء سبيله فوراً، وقضى القرار الثاني بالتعويض له بمبلغ ٢٥٠ ألف ليرة لبنانية عن كل يوم احتجزته فيه الدولة بعد إتمامه مدة عقابه القانونية (ثلاثة أشهر). عليه، ذكّرت المفكرة قراءها (العدد ٨) بما سبق عرضه في مقال سارة ونسا من قرارات قانونية أدانت تصرف الأمن العام في هذه السنوات الأربع ولم تستجب لها المؤسسة المذكورة. فجاء في المفكرة من الأمن العام رد ثانٍ (المفكرة عدد ١٠) يعاتبها على طريقة نشر رده الأول، على ضوء “حق الرد” الذي يحفظه قانون المطبوعات، وكان عنوان الرد “الأخطاء القانونية للمفكرة القانونية”، أعاد فيه التذكير بسجل المواطن العراقي المعني: دخول خلسة، سرقة، تزوير.
بالنظر إلى القضية من الناحية القانونية، لا يوجد تبرير لتعاطي الأمن العام مع هذا اللاجئ، ومع غيره من الذين يحتجزهم لأسبابٍ شتى دون سند. في ظلّ هذا الغياب للحجة المنطقية، تلجأ المؤسسة إلى عرض خصوصية “الصلابة” الحسّية، تلك التي تقول إن الأمن العام ساهر على أمن المواطنين. و”الصلابة” هنا تأتي مزدوجة، إن في مضمون المعروض أو في شكله، إذ إن الجواب سيأتي دائماً نفسه مهما جادل محرر “المفكرة القانونية” ومهما كانت إشكالية الرد على رد: أن الأمن ساهر. وذلك على الأرجح بتحريرٍ من محام ملحق بالمؤسسة ويشارك عناصرها معتقداتهم “الصلبة”. “الصلابة” هنا هي الخصوصية الحسّية التي تمسك بالعلاقات الاجتماعية وتديرها بغير وجهة ما يدّعيه الخطاب الرسمي أو الخطاب المُعترف أو المُشترك أو الشرعيّ.
إذا أردنا أخذ المقارنة مع مثال طومسون التأريخي أبعدَ، قد يجوز أيضاً اعتبار رد الأمن العام بمثابة “أسلوب”، فهو، مثل بنية الأسلوب، مكتفٍ بذاته ولا يحتاج لإطارٍ سببي، وكان يمكن نشره كما هو على عمود في ساحة بلدة ريفية، كما أن له نكهةً تزيينيّة، إذ رأى محرره فائدةً في أن يعطي عنوانه قافيةً. كذلك الأمر، هو تصريح يقصد التهكّم بدل الرد المنطقي حيث قد يُحرج غيره، ما يشي بأن المهنة الأمنية، بصلابتها هذه، يمكنها الاستمرار والتماشي بنسبةٍ كبيرة مع عيش مرح و”طبيعي”، مع المجتمع العام وساحاته المتنوعة. لم نصل بعد إلى نموذج الأمن المعزول والخفي وذي المبادئ المتناقضة مع المجتمع، والتي، إن أوجدت رجل الأمن في موقف احتكاك مع غيره من الناس، نتج من الاحتكاك حرجٌ وصدمة لا حول ولا قوة للفرد بغض النظر عنها، وهو موضوع فيلم “البريء” مثلاً (للمخرج عاطف الطيب) الذي يسلط الضوء على فعل “الخيانة” الصريح الذي يشكله نموذج ضابطٍ (بطولة محمود عبد العزيز) يعيش حياةً مزدوجة المعايير، بين دور الأب الحنون وملك العيد عند الأطفال، ودور المسؤول عن معتقل للمعارضين السياسيين في الصحراء.
هذا المجتمع “الطبيعي”، يمكن تلقف معالمه وخصوصياته الحسّية في قراءة محاضر المخافر المرتبطة بملفات دعاوى محكمة العمل (عالجت بعض جوانبها القانونية “المفكرة” في العدد ٩)، حيث العاملات في البيوت الأجانب أقمن دعاوى بحق أصحاب العمل على خلفيات استغلال وانتقاص حقوق. بحضور رجل الأمن، وعند تدوين شهادات المدّعى عليهم وعليهنّ، تأتي تبريرات النساء والرجال المتهمين خاليةً من البراهين القانونية، ويجد نفسه القارئ عوضاً أمام عرض مستفيض لجماليات وأسرار العائلة اللبنانية الفاضلة: فشبهة الظلم تدحضه “الثقة بالأولاد” (تسليمها الحضانة)، والتغيّب عن حضور الاستجواب يبرره كبر الحجّة بالسنّ. في بعض الحالات، حيث يغلب الحرج على المستجوَبين، يدّعي أحدهم أن العاملة “قتلت الوالدة!” هكذا، دون سابق إنذار. وطبعاً، تأتي تهمة “سرقة المجوهرات” بمثابة رد على الدعوى المقامة لتكون أداة دعوى مقابلة، تعيد التوازن السابق إلى العلاقة بين المعنيين. “صلابة” من جديد، شيء قائم فوق القانون وحججه المهنية ويحكم على الجميع بالاحترام أو ينادي به في وجه من جرّدته المؤسسات المهيمنة من الخصوصيات الحسّية تلك، لتصبغه بخصوصيات حسية نقيضة.
الخصوصية الحسّية المعطاة للفقير، وفي حالنا هذه للعاملات في البيوت، لا تعمل بالمنطق القانوني بالضرورة. تهمة السرقة قد تكون الأكثر تفشياً لأنها الأكثر قابلية للاستثمار في دعوى قضائية، بنصيحةٍ من محامٍ مجرّب. لكن مراقبة ساحات اجتماعية أقل تقييداً من الناحية الإجرائية، مثل الإعلان في الصحيفة أو الرد في “المفكرة” أو المقابلة المفتوحة في المخفر، هذه الحالات تشي بمضمونٍ حسّي أكثر تجريداً، هو خصوصية “الخفّة”. فالفقير في جميع هذه الحالات، عند تدوين اسمه أو الإتيان بذكره، ليس لاجئاً، ولا هو عامل، ولا هو “خادمة”، ولا هو فقير، وليس له اسم، ولا ماضٍ، ولا قصة شخصية. ولا يبقى منه في الخطاب وفي بنية الجملة إلا أفعال، أنه “سرق، وزوّر، ودخل خلسةً”. حتى في بنية الجملة، يكون وجوده خفيفاً وعابراً.
هذا التفحّص لخفّة الفقير حتى حدود الهوس (إذ إنها “قتلت الحجّة”) يمكن للقارئ أن يتلمّسه بالتفصيل في الملف الخاص الذي تعرضه سارة ونسا في العدد ١١ من “المفكرة”. إذ نجد على سبيل المثال في محضر التحقيق نفس كلمة “خلسة” تسلّط على رأس العاملة المنزلية، المتّهمة من قبل صاحبة العمل بالسرقة والهروب. ومما تناوله تحقيق المخفر مع العاملة، جاء أنها خرجت مرة خلسةً من غرفتها لتقابل شخصاً، قبل أن يمنعها صاحب العمل من ذلك. ومما أبرزته صاحبة العمل المدّعية على العاملة، أنها وجدت بين أغراضها هاتفاً خلوياً لم تأخذ إذناً منها لامتلاكه. هكذا تنجلي على امتداد التصاريح علاقة بعض المعنيين من المتملّكين والأمنيين والقانونيين بالفقراء. على ضوء هذه “الخفة”، تتوحّد وتجتمع فئات اجتماعية متنوّعة في وجه الفقير، لتكوّن ما يمكن تسميته بنظامٍ متينٍ من القهر.
لا شك بأن خصوصية “الخفة” الحسية تضع الفقير دائماً أمام الجهات المولجة بتنفيذ القانون، كما هو في العديد من قضايا الدولة والفقر. بينما يتسم خطاب الجهات الرسمية أو الخطاب المنادي بدورها بحدةٍ لا تخفّفه الأحداث السياسية المأزومة، ولا المناحي المثقّفة أو العقائدية الطاغية في الإعلام (منطق “أين الدولة” بدل “أين الحكومة” أو “أين الفريق الحاكم”)، حدة تتبنى خصوصيات “الصلابة”.
خاتمة
بديهيات وجود الفقير ووجوب مساعدته الأكثر انتشاراً هي بديهيات مركّبة، لها مساحاتها الشرعية والمرحِّبة، وهي غالباً ما يكون دخولها ممنوعاً على الفقير، وهو فقيرٌ لأنه أيضاً محرومٌ من عضويتها. وليس الفقر في هذه الأماكن إلا صورةً يمكن للإنسان البكاء أمامها تكفيراً عن ذنوبه. فحياة الفقير في أغلب ساحتها وأماكنها حياة مواجهة مع آخرين غير مبالين وغير معترفين بفقره. والنظام هذا لا يرتكز دون توحّد الآخرين في مواجهة الفقير في بعض المفاصل المحورية، ومنها القانون والمؤسسات المولجة بتطبيقه.
أما حالات العاملات في المنازل، فلا يمكن حصرها بموضوع العنصرية وحده، والاستثنائية، إذ إن منطقها الذي يرسمه التحليل قابلٌ للتطبيق على حالات الفقر اللبناني الجنسية كما سيلتمسه أكثر من قارئ وقارئة، والتحليل لم يستعن بأي “حجةٍ” أو صورةٍ أو خصوصية حسيّة تقول بأجنبية ضحايا الفقر هؤلاء أمام النظام العقابي اللبناني. فالحالات هذه قد تطال لبنانيين وعرباً وآسيويين وأفارقة، وهي تطالهم بالفعل وبالخصوصيات الحسيّة نفسها كما طالت مجتمعات أخرى في السابق بالمعاني نفسها.
نُشر في العدد الحادي عشر من مجلة المفكرة القانونية    

انشر المقال

متوفر من خلال:

مجلة لبنان ، لبنان ، مقالات ، لا مساواة وتمييز وتهميش



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني