«إن تذكّر أشياء من الماضي ليس بالضرورة أن يكون كتذكر الأشياء كما كانت عليه»
مارسيل بروست
لماذا يلتفت المرء إلى ماضيه متحسّراً؟ تنطوي الإجابة على هذا السّؤال على تعقيد، لكن يمكن تبديده بمجرد الحديث عن ذاكرة انتقائية أو خداع الإنسان لنفسه. وربّما جرّ معه تساؤلات فرعية، أحدها لماذا ينزع المرء نحو تنقية ذاكرته من الشوائب وتقديمها لحاضره ورديةً زاهيةً دون منغصات؟ تَحدث كل هذه العمليات في فضاء الخيال، حيث الماضي نفسه، بوصفه زمناً منقضياً، لا يمكن أن نقبض عليه في حاضرنا إلا في حيزّ الخيال. لذلك فإن معيارنا الوحيد للحكم هو الحاضر، فهي اللحظة الحقيقية الوحيدة التي يُمكن أن ندركها عقلاً وحساً وشعوراً. من هذا الحاضر الواقعي والعقلاني يبدأ كل شيء: إما تحليل الواقع بعقلانية أو خداع النفس بالخيال.
ألا يبدو هذا الاستهلال مملاً ومعقداً؟ هو كذلك، ولكن فهم طبيعة الموضوع المطروح تستوجب قليلاً من التعقيد. ذلك أن تحليل دوافع الأفراد والجماعات في الفزع إلى ماضيها القومي أو الديني لكي تعيد إنتاجه في حاضرها، بوصفه منقذاً من كارثة الواقع، يحتاج منّا لا النظر فقط في التاريخ أو الجغرافيا، بل إلى نهج متعدد التخصصات، ينطلق أولاً من إدراك سيكولوجي لهذا الفرد المرتدّ إلى ماضيه أو تلك الجماعة العائدة إلى جذورها كي تنقذ ما يمكن إنقاذه من حاضرها المهدور. لذلك تسعى هذه المقالة إلى فهم هذه الظاهرة في حيز تونسي ضيق من خلال نموذجين هما: الحزب القومي التونسي وحركة جمهورية قرطاج، من خلال النظر في وثائق المجموعتين وتحليلها ضمن الإطار العام الشعبوي الذي يحكم البلاد منذ أكثر من عامين.
الأمة المُتخلية
سُؤال الهوية في تونس والصراع حوله ليس جديداً. منذ استقلال البلاد في منتصف خمسينات القرن الماضي، وحتى قبل ذلك، خاضت النخب السياسية والفكرية التونسية سجالات، انتهى بعضها على نحو مأساوي حول هوية البلاد وتحديد انتماءاتها. لكن الخطوط الثلاثة الكبرى كانت بين انتماء للأمّة الإسلاميّة وانتماء للأمّة العربية أو انتماء لأمّة تونسية ذات خصوصية. هذا التقسيم لم يكن واضحاً بهذا الشكل دائماً، حيث تتداخل الانتماءات، وربما تَميل نخب أو مجموعات سياسية إلى تفضيل انتماء على آخر دون أن تنزع عن البلاد جميع تقاطعات الانتماء القومي والديني والوطني. لذلك كان تعريف الأمة في تونس – وكما هو في كل مكان- بناءً أيديولوجياً أكثر من كونه حقيقة ملموسة، وهو ما يفسّر صعوبة الوصول إلى تعريف توافقي. وربّما كان التعريف الذي ضمّته المادة الأولى من دستور الاستقلال يمثّل الحدّ الأدنى من التعبير عن جميع الانتماءات المتنازع حولها وحول أفضليتها، والتي لم تُشر صراحةً إلى كلمة أمة: «تــونس دولة حرة، مستقلة، ذات سيادة، الإسلام دينها، والعربية لغتها، والجمهورية نظامها».
خارج النص القانوني، كان خطاب الدولة –ممثلاً في حزبها الواحد، الحزب الاشتراكي الدستوري، وزعيمها الأوحد الحبيب بورقيبة– يروّج لمقولة الأمّة التونسية، حيث التونسيون أمة مستقلةً لها خصائصها الثقافية غير القابلة للذوبان في أيّ إطار أكبر، عربي أو إسلامي. لتظهر إلى حيز التداول تسمية من قبيل «المنتخب القومي» و«بطاقة الهوية القومية» و«التربية القومية»، للإشارة إلى أن هذه الخصوصية التونسية ليست مجرد نزعة وطنية تُشكّل جزءاً من أمة أكبر، وإنما هي نزعة قومية تُشكل أمة مكتفيةً بنفسها عن سواها.
وهنا لابدّ من تحديد السياق السياسي والتاريخي الذي ظهرت فيه النزعة لدى بورقيبة وكَذلك تحديد الدافع الفكري. كان بورقيبة مدفوعاً بتأثره بنموذج الدولة –الأمة، وأجواء الجمهورية الفرنسية الثالثة (1870 – 1940)، التي عَاشَ فيها طالباً في كلية الحقوق بجامعة السوربون، في عشرينات القرن الماضي. وكذلك بالفلسفة الوضعية ورائدها أوغست كونت. حيث شكّلَت هذه الروافد تصوّره للدولة التي أرادَ حُكمها منذ أن كان في صفوف الحركة الوطنية. وقد أدرك باكراً أن العلاقة بين الأمّة والدولة في الحداثة الأوروبية أصبحت مقلوبةً، حيث لم تعد الأمم هي من تصنع الدول ضمن شروط طبيعية وعرقية وتاريخية معطاة ومنقولة لهم مباشرة من الماضي، بل العكس تماماً. فالدّولة الحديثة هي من تصنع أمّتها، لا على أساس العرق، بل ضمن شروط المشترك التاريخي والثقافي[1]. أمّا السياق السياسي والتاريخي لهذه النزعة البورقيبية الانعزالية فهو أولاً المدّ القومي العربي الذي ظهَرَ وتوسّعَ بعد انقلاب 23 جويلية 1952 في مصر، وبُروز شخصيّة جمال عبد الناصر ذات الكاريزما الطاغية والمدفوعة بتحوّلات دولية جذرية بعد العدوان الثلاثي على مصر في عام 1956، والذي تزامن مع استقلال تونس. كان بورقيبة يُريد تحصين موقعه السياسي في مواجهة هذا المدّ من خلال صياغة مقولات مضادّة للأمة العربية والوحدة العربية. ورغم أنّ هذه المقولات كانت هشةً من الناحية النظرية، إلا أنها شكلت على مدى عقود واحدة من أدوات الدولة الأيديولوجية، والتي تجلّت في برامج التعليم والثقافة وتعبئة الشباب وخاصة في أوساط الحزب الحاكم. قبل ذلكَ أمضى بورقيبة فترةً من حياته في المنفى المصري (1945 – 1949)، وخاض انطلاقاً من القاهرة جولات عديدة قادَته نحو سوريا والعراق والحجاز وإندونيسيا والهند وباكستان، حيث شكّلت هذه الفترة تصوّره اللاحق عن المشرق والعروبة والإسلام.
شكّلت هذه الإيديولوجيا البورقيبية الهشّة البذرة الأولى للروح الانعزالية في تونس. قطعاً لم يكن بورقيبة انعزالياً، بل كان يَملك نزعة تدخّلية جريئة، حيث تدخّل على مدى ثلاثة عقود من حكمه في مسائل تتعلق بأوضاع «الأمتين العربية والإسلامية» وحتى «الإفريقية»، وجلبت له تدخلاته الكثير الغضب والشتائم وقطع العلاقات مع تونس، كما حدث في جولته المشرقية عام 1965 ومطالبته العرب القبول بقرار تقسيم فلسطين أو في قضية استقلال موريتانيا، حيث شكّلت هذه التدخلات أيضاً تجلياً لنزعة انعزالية دفينة. لكنه وضع من خلال سعيه المحموم لإثبات «خصوصية أمته التونسية» المتخيّلة أسس النزعات الانعزالية التي ستظهر لاحقاً في البلاد، والتي ستأخذ أشكالاً أكثر رجعيةً من حيث المصادر والأهداف.
طبيعة الانعزالية
هل العودة إلى الماضي بالضرورة انعزالية؟ لا يبدو ذلك وجيهاً من الناحية النظرية، حيث كانت انعزالية بورقيبة تقدميةً من حيث أنها لم يُشكّل الماضي بالنسبة لها سوى ذلك التاريخ المشترك للسكان الذين شكلوا بينهم أمةً جديدةً. في المقابل كانت الحركة الإسلامية التونسية، التي وُلدت نهاية ستينيات القرن الماضي، معاديةً للانعزالية تسعى إلى إطار أمة أكثر اتّساعاً هي الأمة الإسلامية، لكنها في الوقت نفسه كانت ماضوية الفكر، تفزع إلى ماضي هذه الأمة لإنقاذ حاضره الكارثيّ. أي بالمعنى الاصطلاحي «سلفيةً»، تصمّم برنامجها السياسي والاجتماعي على ذلك القول المالكي الشائع «لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أوله»، لذلك وجب الإشارة إلى أن تلازم الانعزالية والماضوية ليس حتمياً. لكن المجموعات الانعزالية الجديدة في تونس اليوم تبدو من خلال برامجها وخطابها تجمع الانعزال والماضوية على نحو جذري، حيث تؤدي العلاقة الجدلية بين النزعتين إلى نشوء مقولات وسلوكيات عنصرية، أقرب إلى سلوك وخطاب اليمين الأوروبي المتطرف أو الجماعات الفاشية الجديدة.
تأسس «الحزب القومي التونسي» في عام 2018 على يد كل من سفيان بن الصغير (رئيس) وحسام طوبان (أمين عام)، وهو حزب قانوني يتمثل نشاطه الرئيسي في التعبئة والتحريض، من خلال شبكات التواصل الاجتماعي. يعتبر الحزب القومية التونسية عقيدةً يجب الإيمان بها، حيث يقدّم نفسه كحركة روحية تُشكّل السياسية جزءاً منها. لذلك فنحن نتحدّث عن حركة ذات بعد خَلاصي تعِد أنصارها بالخلاص من الواقع من خلال تبني رؤية محددة للوجود. يقول الحزب في مبادئه التي صَاغها بالعامية التونسية، بوصفها «لغة الأمة الرسمية»: «يُؤمن القومي التونسي إيماناً راسخاً بأن تونس هي أمة مُستقلة تماماً، وأنّ تونس ليست جزءاً من أي أمة أخرى سواء أكانت عربيةً أو إسلاميةً أو أمازيغيةً. نحن نؤمن أن تونس كدولة-شعب ووطن هي أمة مكتملة الأركان. ولذا يرفض القومي التونسي كل أنواع المشاريع التي تريد أن تذيب تونس في فضاء جغرافي/ لغوي/ ديني/ جيني كبير بتعلّة صغر تونس أو فقر تونس. نحن نؤمن أن تونس هي جسد سياسي-اجتماعي كامل عضوياً ومنفصل عن غيره من الأجساد الإنسانية، ولذا فإن العقائد القومية الأخرى من عربية وإسلامية وأمازيغية نرفضها رفضاً باتاً وللأبد ونؤمن بأن تونس من حقها ومن واجبها أيضاً أن تشقّ مسارها التاريخي الخاص معتمدةً على نفسها فقط».
تُقدّم هذه التعريفات صورةً لحزب قومي يميني كلاسيكي، على شاكلة الأحزاب القومية الفاشية التي ظهَرت في النصف الأول من القرن العشرين، وأكثر قرباً من صورة حزب مصر الفتاة (1933 – 1953)، الذي تأسس على يد أحمد حسين. ويتجلى الكُمون الفاشي للحزب بشكل أوضح في برنامجه «لإنقاذ الأمة»، حيث يطالب بحظر النشاط النقابي وحظر الأحزاب السياسية وتجريم الإضرابات العمالية وخصخصة المؤسسات العامة ورفع الدعم عن الثقافة وحظر الاتحاد العام التونسي للشغل وجميع النقابات مُشيراً إلى أن هذه: «الإجراءات العلاجية الاستئصالية تتطلب قيادة حقيقية حربية ونجاعة سياسية واستعداد للقمع واستعمال أقصى حدود العنف ضد كل تمرّد وإضرار بالدولة والمصالح العامة التونسية من دون أيّ اعتبار للخزعبلات الحقوقية أو المنظمات والدول الخارجية».
لكن البُعد الأكثر مركزيةً في نشاط الحزب هو حَملاَت التحريض التي يشنّها ضدّ وجود المهاجرين من دول إفريقيا جنوب الصحراء في تونس. يعتقد الحزب أنّ حضور هؤلاء المهاجرين في تونس يأتي ضمن «مؤامرة» لا تقلّ كارثيةً أو أهدافاً عن مأساة تهجير الشعب الفلسطيني خلال النصف الأول من القرن العشرين، واضعاً هذا المثال التاريخي في أي مقدمة للسجال حول الموضوع، كي يُثير الفزع في نفس المتلقّي، مع أن السياق الفلسطيني مختلف على نحو جذري عما تعيشه تونس اليوم. إذ كانت فلسطين خاضعةً للاحتلال البريطاني. وعبره ومن خلاله، تمّ توطين اليهود وتهجير السكان الأصليين. ويُطالب الحزب في تقرير نشره تحت عنوان «مشروع الاستيطان “الأجصي” وإزالة تونس من الوجود»، وهي تسمية مختصرة لإفريقيا جنوب الصحراء، بــ «ترحيل كل المهاجرين اللا شرعيين في تونس من كل الجنسيات وحلّ كل الكنائس الأجصية التي تحوّلت إلى أوكار شعوذة واحتيال، مع فرض تنظيم خاص على كل أنواع المعابد الأجنبية في تونس، وفرض رقابة على كل الجمعيات الأجصية، ومنع كل تنظيم حزبي وسطهم ومراقبة أنشطتهم بكل أنواعها والقيام بحملات تفتيش على كل المصانع والحضائر والمطاعم وكل أماكن العمل التي تشغّل المهاجرين الأجصيين غير الشرعيين، ومنع عمليات الكراء للمهاجرين الأجصيين غير الشرعيين، وفرض الرخصة الأمنية على كل عملية كراء للأجانب». تُشكل الرؤية التآمرية، جزءاً أساسياً من التكوين العقائدي لهذا التنظيم، لذلك وجدت أفكاره صدى واضحا لدى الرئيس قيس سعيد، الذي تبنّى في خطابه حول الهجرة في فيفري الماضي رؤية الحزب القومي. ومن خلال خطاب الحزب حول مسألة الهجرة يحضر المؤرخ الفرنسي، برنار لوغان، كأحد المراجع المكررة، وهو الذي كان وما زال المستشار التاريخي لأحد رموز اليمين الفرنسي المتطرف إيريك زيمور، وأحد أعضاء «المجلس الوطني للمقاومة الأوروبية»، وهو تجمع يضم مؤيدي أطروحة «الاستبدال العظيم» التآمرية.
أما حركة جمهورية قرطاج فقد تأسست وفقاً لموقعها الرسمي في عام 2012 على يد الكاتب وصاحب الأعمال التونسي المهاجر في الولايات المتحدة الأمريكية كريم مختار. حيث يُشير الموقع إلى أن الحركة تضمّ اليوم آلاف الأعضاء والمتابعين والمتعاطفين معها من كافّة الولايات. تقوم الحركة على فلسفة تصحيحيّة للتاريخ حسب زعمها، حيث تعبر على هذا الأساس بالقول: «تعرّض شعب شمال إفريقيا عامة وتونس خاصة إلى أكبر جريمة في تاريخ البشرية ألا وهي هولوكوست 146 ق.م. المسكوت عنه والمنسي. قُتل المواطنون في جريمة حرب عظيمة إثر خيانة وغدر، وتمّت سرقة حضارة قرطاج بشكل شبه كلي مما أدى إلى 21 قرنا بين الاحتلالات والتهميش. اليوم، حان الوقت لإحياء قرطاج واسترجاع ما تمت سرقته». وتحت عنوان «لمحة عن الفلسفة» نقرأ ما يلي: «حركة وطنية مختلفة عن السائد حيث تستمّد فكرها أساسا من مرجعية فلسفية قرطاجية تتمحور حول ثلاثية احترام كونية الوعي الإنساني، قداسة ومركزية فكرة الوطن، وحق الشعوب بل وواجبها في تحصيل تحرّرها وازدهارها الاقتصادي. أهم أهداف الحركة إحياء قرطاج وبناء قرطاج القرن الواحد والعشرين، جمهورية مستقلة حرة رائدة مؤثرة في العالم وكذلك منفتحة عليه. جمهورية مُساهمة في تقدّم الجنس البشري ككل، وحافظة لكرامة شَعبِها وأمنه ونسيجه الاجتماعي ووحدته وحريته ومصالحه بوجه خاص. حركة جمهورية قرطاج هي لا شرقية ولا غربية ولكنها منفتحة على الشرق وعلى الغرب وتُؤمن بضرورة توطيد العلاقات الاستراتيجية والاقتصادية مع دول العالم عامة ودول بحر قرطاج، أو ما يُعرف بالبحر المتوسط».
تبدو هذه الحركة أقل تطرّفاً قوميّاً من الحزب القومي التونسي، كما أنّ برنامجها الاقتصادي يعكس وجهة نظر مؤسّسها كريم مختار القادم من مجال الأعمال والاقتصاد، رغم أن البرنامج يبدو حالماً وعمومياً وربما نسخةً من برامج شائعة الوجود في المشهد السياسي التونسي، لكنّ الحركة من الناحية الفلسفية تبدو أكثر ماضويةً، حيث تَسعَى حسب قول مؤسسها إلى إعادة إحياء قرطاج من رمادها. ذلك أن فكرة إحياء حضارة بائدة، على الرغم من شعبويتها، تبدو ساحرةً وجاذبة من الناحية السياسية، شأنها شأن مشاريع إعادة إحياء العثمانية في تركيا أو الخلافة بالنسبة للحركات الإسلامية. لكنها تبقى محض خيال، حيث أن هذا الإحياء المزعوم يتطلب إعادة إنتاج شروط تاريخية مستحيلة التكرار، إلا في شكل مأساوي ينتهي إلى مهزلة، كما أشار هيغل وأضاف ماركس. ذلك أن حركة جمهورية قرطاج تقوم على نموذج تآمري آخر لتفسير التاريخ، فهي تقدّم نفسها على أنها القاطرة التي ستبعث قرطاج من النسيان، مثلما يشير كريم مختار في كتابه قرطاج: الجمهورية المنسية والذي يعتبره «تاريخاً مختلفاً تماماً عن السائد الذي شُوِّهَت وطُمِست من خلاله هذه الجمهورية لأسباب سياسية وعنصرية».
الفزع إلى الماضي من الحاضر
لماذا يعود قطاع من التونسيين إلى الماضي أو الانعزالية القومية المُتخيلة؟ يُعبّر ذلك عن أزمة يعيشها التونسيون، والتي لم تَعد تحتاج أدلةً لإثباتها. أزمة بنيوية لا تتعلّق فقط بالانحدار الاقتصادي المديد، بل بالدولة وهيكلتها وشرعيتها وعلاقتها بالسكان[1] . لأنّ شخصاً يَمتلكه حاضره لن يشكّل له الماضي قيمةً كبيرةً، سوى أن يكون مجرّد تجربة. لكن تمثل السكان أنفسهم للأزمة ليس واحداً، وذلك نابع من أن إدراكهم لأسبابها ليس واحداً. يمكن أن يكون ذلك الاختلاف في التشخيص والتمَثّل طبيعياً إلى حد نسبي بسبب الفروق الطبقية والجهوية والثقافية بين السكان، لكن مداه الطبيعي يجب أن يبقى ضمن سقف عقلاني، كما هو الحال في الصراع بين الأحزاب مختلفة الإيديولوجيات والبرامج. إلا أن عمق الأزمة وطولها، منذ أواخر عهد بن علي إلى اليوم، جعل قطاعاً من هؤلاء السكان يرى في الماضي حلاً والعزلة طريقاً للخلاص. وهذا ليس أمراً خاصاً بالشعب التونسي، بل يكاد يكون قانوناً تاريخياً مُسَلّطاً على الشعوب في سنوات التّيه، وخاصة تلك التي تأتي بعد ثورات أو هبّات شعبية مهزومة. في دفاتر السجن يلخص الثوري الإيطالي، أنطونيو غرامشي، طبيعة الأوضاع الثورية الراكدة وأزمة المجتمعات التي لم تذهب بثوراتها نحو التغيير الجذري بالقول: «تكمن الأزمة تحديداً في أن القديم يُحتضر، والجديد لم يولد بعد. وفي ظل هذا الفراغ تظهر أعراض مرضية غاية في التنوع». في هذه الفترات الانتقالية الصعبة والكالحة تظهر أشباح الماضي ووحوشه، وتعود النزعات الرجعية دفعةً واحدة لتحتل مكانها في الحاضر كتميمة من تمائم الأجداد.
في أعقاب ثورة 2011، طفت كل النزعات المكبوتة خلال عقود إلى السطح. شكّلَ تفكّك سلطة الدولة الرمزية فراغاً نفسياً رهيباً لدى الفرد، ثم أصبحت هذه الدولة تحت تأثير برامج التقشف من جانب، وأزماتها الهيكلية من جانب آخر، تفكّ قبضتها على نموذج الرعاية الاجتماعية تاركةً هؤلاء الأفراد الذين عاشوا عقوداً من رعايتها مقابل ولائهم المطلق بلا أي روافد اجتماعية. في المقابل فشلت النخبة الحاكمة الجديدة في تشكيل بديل لنموذج الولاء الذي كان قائماً، والذي كان القطاع الأكبر من السكان يجدون فيه اكتفاءً عن غيره من نماذج العودة إلى الماضي. بين ذلك القديم الذي بدأ يختفي والجديد الذي عجز على أن يولد وجدت الطبقات الوسطى – التي شكلت على مدى عقود القاعدة الاجتماعية للدولة الوطنية -نفسها بلا إطار واضح للانتماء في الحاضر ولا أفق واضح للمستقبل، فهربَت إلى الماضي، إما من خلال موجات الحنين السياسي التي تظهر في تعاظم قوة أحزاب النظام القديم أو من خلال استعادة البورقيبية في أشكال رثة ومثيرة للسخرية أحياناً. وكذلك من خلال استدعاء أشكال العظمة القديمة ضمن «أسطورة العصر الذهبي»، التي تظهر بوضوح في عقيدة جمهورية قرطاج الجديدة، وكذلك الانعزالية القومية في نموذج الحزب القومي، والتي تُعيد مشاكل الحاضر لا فقط إلى ضمور نموذج الماضي الذهبي، بل إلى الآخر. حيث يُولد نوع من الآخر الشيطاني الشرير، في حالة من خلق أعداء وهميين تُلقَى عليهم المشاكل والشرور.
لكن الأكثر خطورةً هو السياق الشعبوي الذي يحكم البلاد منذ أكثر من عامين. ذلك أن هذه النزعات الماضوية والانعزالية الموجودة في أغلب بلدان العالم يُمكن أن تبقى هامشيةً وأقليةً، في ظل نظام ديمقراطي تعددي أو تلغَى تماماً بالقوة في ظل النظم الشمولية والسلطوية. غير أنها في المناخات الشعبوية تَجد لها بيئة مناسبة للانتشار، أولاً من خلال ما تسبّبه الشعبوية الحاكمة من تسميم الأجواء بنظريات المؤامرة والتبسيط ومعاداة العقلانية، وثانياً وهو الأشد خطورة من خلال وجود روابط بينها وبين النظام الشعبوي الحاكم، حيث يمكن أن تتحول إلى حليف أو تابع أو أداة وظيفية.
[1] Tunisie au présent : une modernité au-dessus de tout soupçon ? Sous la direction de Michel Camau CNRS, Paris, 1987.