الانتصار الذي حقّقته المعارضة بوصول 15 نائباً إلى المجلس النيابي ترشّحوا على لوائح تغييرية، لا يضاهيه إلا خروج ثلاثة وجوه “تاريخية” كانت احتفظت بمقاعدها في أغلب الدورات الانتخابية منذ ما بعد الطائف. وبخروجها، بقي نبيه بري النائب الوحيد الذي لم يبارح مقعده منذ مجلس 1992.
انتخابات 2022 أطاحت ب 20 نائباً لم يتمكنوا من المحافظة على لقب “السعادة”. لكن لخروج إيلي الفرزلي وطلال أرسلان وأسعد حردان رمزية مختلفة. هؤلاء الذين يشكّلون أبرز ثوابت النظام صمدوا في مواقعهم رغم كل الظروف التي طرأت على البلد على مرّ ثلاثة عقود. حتى عندما أطاحت تسونامي 14 آذار 2005 بالفرزلي وأرسلان، لم يتأخر الوقت قبل أن يعودا إلى مقعديهما النيابيين، عبر قانون الانتخابات النسبي، وعبر دعم الحلفاء الذين أمّنوا رافعة لهما، أسوة بزميليْهما حردان.
انتخابات 2022 أثبتت أنّ أدوات المعركة القديمة لا تصلح في زمن الانهيار الاقتصادي والمالي الذي بدأ منذ تشرين 2019. لم يعدْ يكفي أن يترك وليد جنبلاط مقعداً لإرسلان “احتراماً لتوازنات درزية”. ولم يعد يكفي أن يحجز حزب الله وأمل مقعداً على لائحتهما حتى يضمن مقعده النيابي. ولم يعد يكفي أن يتّكئ الفرزلي على فرضية أن المقعد الأرثوذوكسي في البقاع الغربي مفصّل على قياسه ليبقى نائباً.
“أجمل التاريخ غداً”
إيلي الفرزلي ليحافظ على حضوره، لم يتردد في الانقلاب على التيار الوطني الحر ورئيس الجمهورية، تاركاً تكتل لبنان القوي الذي كان عضواً فيه بعد انتخابات 2018، ليبدأ برسم تحالف، كان منذ سنوات مستحيلاً، مع سعد الحريري. الفرزلي الذي يوصف بالداهية السياسية كان أحد أبرز وجوه الوصاية السورية، الأمر الذي جعله عدواً لـ”المستقبل”. لكنه بدهائه عرف كيف يستميل الحريري. حسبها “صح” بداية. وجد أن العونية إلى تراجع وأنها لن تسعفه في دائرة للمستقبل أكثرية فيها، فدار دورته، إلى درجة أنه تردد أنه كان سيترأس لائحة المستقبل في البقاع الغربي. لكن الحسبة تعثّرت بإعلان الحريري انسحابه من المعركة ترشيحاً واقتراعاً. ومع ذلك لم يجد الفرزلي صعوبة في العودة إلى المربّع الأول. فإذ به يتحالف مع التيار الوطني الحر وحزب الله وأمل في لائحة يترأسها حسن مراد، ظناً منه أنه بذلك يضمن مقعده. الثقة المفرطة بنفسه وبقدرات حلفائه جعلته ينام في العسل. لم يحسب أنّ الناس ستحاسب من استشرس خلال السنتين الأخيرتين في الدفاع عن مصالح المصارف. ولم يحسب أنّ اختتام الولاية بالاعتداء على المعتصمين أمام مداخل المجلس النيابي، رفضاً لإقرار قانون الكابيتال كونترول سيكون له عواقبه. ثقة الفرزلي بنفسه جعلته بدلاً من أن يعتذر عمّا فعل، يُبرّر فعلته بكثير من الازدراء للمعتصمين، وبفائض من الذكورية في رده على من سأله من الصحافيات: “لو كنتِ معهم لما فعلت ذلك”. على أبواب الانتخابات لم يستطع المهادنة. تخلى عن كل ذكائه وزاد من فراقه مع الناس الذين يُفترض أن يعمل لكسب أصواتهم. وكما تبيّن من الأرقام، فإن مهمّة الحلفاء كانت تقضي بتأمين الحاصل للائحة، مقابل أن يتحمّل كل طرف مسؤولية تأمين الأصوات التفضيلية. لكن الفرزلي لم يتمكن من الحصول على أكثر من 2304 صوتا (4 %)، بعدما كان حصل على 4899 صوتاً (7.7%) في العام 2018. هذا العدد المنخفض، بالرغم من أنه لم يوصل الفرزلي إلى البرلمان، ساهم في أن يؤول المقعد الثالث في اللائحة إلى مرشح التيار شربل مارون الذي حصل على 3576 صوتاً. هكذا انقلب السحر على الساحر. بعدما كان يفترض أن تكون أصوات التيار رافعة للفرزلي حصل العكس.
وإذا كان اعتداء نائب رئيس مجلس النواب، الذي بقي له أربعة أيام في منصبه، على المعتصمين قد وُثّق بالصوت والصورة، فلُحسن حظه أن جلسات اللجان والهيئة العامة سرية. حتى مع تكفّل بعض الإعلام في نقل وقائع الجلسات، كان الفرزلي محظوظاً بغياب الصوت والصورة. حزب المصارف في المجلس النيابي كبير، لكن لإيلي الفرزلي دور الريادة فيه. منذ ما بعد 17 تشرين 2019، كان الحارس الأمين للنظام في كل الجلسات. تراه ينتفض أو يثور عندما يُعرض أي قانون يحمّل المصارف بعضاً من مسؤولياتها وتراه يرتاح عندما يسقط قانون لا يناسبها. انتفاضته الأكبر كانت على خلفية طرح السرية المصرفية. هو اعتبر أن المس بها بمثابة المس بكينونة لبنان. وهو نفسه، لم يكن يؤيد الكابيتال كونترول عندما كان يُقيّد حركة المصارف، لكنه صار من أشد المدافعين عنه عندما صار يخدم المصارف في وجه المودعين. الفرزلي بمثابة خط الدفاع الأول عن تحالف السلطة والمصارف. في اللجان المشتركة يسعى جاهداً إلى لعب دوره هذا الذي يرتاح له رئيس المجلس.
الفرزلي الذي كتب كتاباً بعنوان “أجمل التاريخ كان غداً”، صار من الماضي. لم يُسعفه تاريخه ليكتب أجمل التاريخ غداً، لكن لديه أربع سنوات ليستعيد موقعه. من يعرفه يدرك أنه لن ييأس. كما انحنى في العام 2005 أمام العاصفة، ليعود في العام 2018 إلى موقعه، سيتحيّن الفرصة ليعود مجدداً. وكما لم يتردد في أن يكون عونياً ثم حريرياً ودائماً “برّياً”، لن يكون صعباً عليه أن يُقرّر الالتفاف مجدداً. ومن يدري ربما يُقدم أوراق اعتماده للمعارضة. لديه العدّة والأسلوب والقدرة الخطابية، لكن مشكلته ستبقى أن أوراقه حُرقت.
زعامة مصطنعة
طلال أرسلان الذي ستنتهي نيابته خلال أيام لن يفتقده التشريع. هو يتعامل مع نفسه كأحد زعماء الصفّ الأول وهؤلاء لا يناسبهم الغرق في المطبخ التشريعي. لا يُشارك في اللجان (شارك مرة واحدة) ولم يُعرف مشرّعاً يوماً. النيابة بالنسبة له إرث زعامة وجب الحفاظ عليها. لكن هذه الزعامة بالرغم من أنها ظاهرياً تشكّل نداً لزعامة المختارة، إلا أنها في الواقع، تدين بالكرسي النيابي، وربما بالزعامة نفسها، للمختارة. وليد جنبلاط اعتاد أن يترك مكاناً للمير في عاليه. هذا ما فعله في العام 2018 وفي العام 2009، وكذلك في العام 2022. عندما قرر في العام 2005 حرمان أرسلان من المقعد النيابي لم يحتج لأكثر من قرار. أجلس المير في منزله المعتدي على الشاطئ العام في خلدة، من العام 2005 إلى العام 2009. اصطناع الزعامة ساهم به التيار الوطني الحر أيضاً. اخترع له دوراً نكاية بجنبلاط. رفده بثلاثة نواب، فصار رئيساً لكتلة ضمانة الجبل. يدخل المير وإلى جانبه النوابل سيزار أبي خليل وماريو عون وفريد البستاني، إلى المشاورات الرئاسية بوصفهم كتلة “عيارة”. ثم يترأس ما يسمى الاجتماعات الدورية للكتلة، ويُصرّح باسمها. يجلس على رأس الطاولة مصدقاً أنه رئيس كتلة، وباسمها يتمثل في الحكومة وفي طاولات الحوار. لا يزال مقتنعاً أن الجبل مقسوم بين الجنبلاطيين واليزبكيين قبل أن يتبين أن مارك ضو الذي لا حزب خلفه تفوّق على المير القابع في التاريخ بأكثر من 2500 صوتاً.
خسارة المير طلال كانت مضاعفة هذه المرة. صهره والمسؤول في حزبه والممول له مروان خير الدين، الذي شكل ترشيحه تقاطعاً بين الديمواقراطي اللبناني وأمل والاشتراكي وسط عدم ممانعة من حزب الله، كان الأكثر استفزازاً للأغلبية العظمى من الناس لما يشكله من صورة بشعة لتحالف المصارف والسياسة. فهو يملك مصرفاً يحتجز أموال الناس، وهو الذي يشتري منزلاً بملايين الدولارات في أميركا بعد الأزمة، وهو الذي يرسل شبيحته لتأديب محمد زبيب وواصف حركة، وهو الذي يدفع الأموال لتلميع صورته. لكنه في النهاية تبع قريبه إلى المنزل، بعدما تمكن فراس حمدان من إزاحته. فكل الدعم الذي تلقّاه خير الدين من السلطة، إضافة إلى المال الانتخابي لم يؤمنا له أكثر من 2634 صوتاً، فيما حصل حمدان على 4895 صوتاً بالرغم من حملة التخوين والترهيب التي خيضت ضده.
ليس خافياً على أحد أن هذه النتيجة كانت جائزة ترضية لوئام وهاب. بالرغم من خسارته لمقعد هو الآخر بفارق 900 صوت عن مروان حمادة، إلا أنه استغلّ خسارة حليفه وغريمه على السواء، ليثبت حيثيته في الجبل. صار بإمكانه التسويق أن ثنائية المختارة خلدة انتهت ليحل محلها ثنائية المختارة الجاهلية.
مما نشرته المفكرة القانونية عن “إنجازات” النواب خلال الولاية الماضية، يبدو جلياً أن أسعد حردان لم يكن أفضل من أرسلان. حردان لم يفعل خلال أربع سنوات شيئاً. اسمه لم يتردد إلا عندما حصل على لقاح كوفيد في المجلس النيابي قبل كل اللبنانيين. تردّد أيضاً مؤخّراً عندما انقلب على نتائج الانتخابات التي أجراها الحزب القومي وأفرزت قيادة جديدة. حردان استمدّ قوته من الدعم السوري له في وجه القيادة المنتخبة. وهذا الدعم هو الذي جعله يحافظ على مكانه في لائحة التنمية والتحرير. لكن الجميع كان يدرك أنه نقطة ضعف اللائحة. أي خرق سيكون في مقعده تحديداً. 1859 صوتاً كان عدد أصواته التفضيلية (3321 في العام 2018)، مقابل حصول منافسه في لائحة معاً نحو التغيير الياس جرادة على 9218 صوتاً. الأول زعيم حزب ونائب لعشرات السنين لكنه مغترب عن الناس، والثاني طبيب عيون يعرفه أهل المنطقة. هو منهم ويشبههم، وقد نال ثقتهم لتمثيلهم.
4 سنوات ستكون قاسية على زعامات قرأت الزعامة افتراقاً عن الناس وهموهم، فعاقبوهم بالقانون الذي يفترض أن السلطة فصّلته على قياسها.
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.