العودة إلى الضاحية: غصّة وفرحة مؤجّلة


2024-11-27    |   

العودة إلى الضاحية: غصّة وفرحة مؤجّلة
عائدون

على الرغم من دخول إعلان وقف إطلاق النار حيّز التنفيذ عند الرابعة فجرًا، كانت مداخل الضاحية الجنوبيّة لبيروت هادئة صباحًا، سيّارات تمرّ بين الفينة والأخرى لأهالٍ استعجلوا العودة، فيما وقفنا نحن الصحافيين ننتظر عودتهم. 

رُبّما تريّث الأهالي في العودة ليعطوا ضاحيتهم وقتًا لتتنفّس الصعداء بعد ليلة صاخبة فرّغ فيها العدوان حقده بكثافة على أحيائها، وبعد 66 يومًا حرقت فيها الغارات الإسرائيلية مبانيها السكنية وأحياءها وشوارعها ومقوّمات الحياة فيها.      

بعد الساعة التاسعة صباحًا بدأت الحركة تنشط تدريجيّا، إلى أنْ عادت الضاحية ومع ساعات الظهر الأولى إلى عجقتها المعهودة ولو بشكلٍ مختلف. فهنا امرأة تبحث في الأنقاض عمّا يُمكن أن تخرجه ممّا تبقى في بيتها، وهناك على مدخل مبنى آخر رجل يُحاول رفع بعض الأنقاض علّه يفتح طريقًا يوصله إلى مدخل المبنى حيث منزله، وكيفما نظرت أناس يتبادلون السلام وعبارة “الحمد الله عسلامتكن” على ألسنتهم، سلامة تعتريها غصّة فقدان أحبّة ومنازل وأرزاق. 

على الرغم من مشهد زحمة السيّارات والفانات التي كانت تقلّ عائدين إلى منازلهم منها ما حملت على سقفها فرشًا وحرامات وحقائب، عبّر معظم من التقيناهم ممّن بقيت منازلهم صامدة عن ضرورة تأجيل عودتهم أقلّه أسبوعين بسبب تعطّل الكهرباء وغياب المياه وروائح البارود، أمّا من لم يبق له منزل فأخبرنا بأنّ “الضاحية سيُعاد إعمارها كما في حرب تمّوز وأنه سيعود إليها ولو بعد حين”.

غصّة العودة وغربة الأحياء

في حارة حريك، تُشير أم حسين بيدها إلى كومة من الدمار وتقول: “هيدا بيتي راح وهيدا بيت خيّي راح وحدّو بيت سلفي كنّا مفكرين بعده بس مبارح ضربوه وراح كمان”. تمشي قليلًا وتُشير إلى مبنى واقف بين الركام وتضيف: “هيدا بيت ابني بعده موجود في شويّة أضرار رايحة نضّفه لنقعد فيه”. تُخبرنا أم حسين عن تغيّر شكل الحي، عن ملحمة وفرن كانا هنا وعن مكتبة صغيرة آخر الشارع، عن حيّ تحفظه عن ظهر قلب لم يعد موجودًا إلّا في ذاكرتها.

ما تتحدّث عنه أم حسين هو مشهد معظم مناطق الضاحية الجنوبيّة من بئر العبد وحارة حريك ومعوّض والليلكي والكفاءات، مشهد يصعب فهمه، ففي المنطقة نفسها تجد حيًّا باقيًا وسط حيين مدمّرين بالكامل تكاد لا تعرف اسميهما لولا ما صمد إلى جانبهما، وداخل الحيّ نفسه تجد مبان صامدة بين مبان مدمّرة بالكامل وأخرى سقط نصفها فبدت وكأنّها تتكئ على بعضها البعض. 

تغيّر الأحياء لا يرتبط فقط بحجم الدمار وعدد الأبنية التي لم تعد موجودة بل أيضًا بفقدان أحبّة من جيران وأصدقاء علّقت صور بعضهم على الجدران المتبقيّة: “هيدي صورة الشهيد ابن جارتنا، حطّيناها جديد” يقول شاب في الليلكي، مضيفًا: “يمكن ما في حيطان تساع صور الشهدا”.

ليس بعيدًا وفي أحد شوارع معوّض وعلى باب دكّان صغير، يقف أبو محمد يتأمّل العائدين إلى بيوتهم يُعبّر عن فرحة منقوصة بانتهاء الحرب، ويقول: “فقدت أناسًا أعزّاء عليّ، رحيلهم حرقة في القلب تجعل البقاء في الضاحية بعد انتهاء الحرب حتّى أصعب من البقاء وقت الحرب، أنا لم أترك الضاحية ولكنّ أحبّاء لنا تركونا”.

تدمع عينا أبو محمد، فليس ألم الفقد ما يوجعه فقط، كما يُخبرنا، بل اقتناعه بأنّه لولا رحيل هؤلاء الشهداء لما بقيت الضاحية ولما عاد الناس “هؤلاء فدونا بدمهم، استشهدوا حتّى نعيش” يقول.

الغصّة نفسها تُعبّر عنها أيضًا أم جواد التي تسكن في بئر العبد والتي عادت لتجد بيتها متضرّرًا ولكنّه لا يزال موجودًا في مبنى صمد وسط عشرات المباني المدمّرة، وعلى الرغم من انتهاء الحرب وإمكانيّة عودتها قريبًا إلى منزلها تشعر أنّ شيئًا ما ينقصها لتكتمل الفرحة: “كل شي ناقص بهذه العودة، ليس سهلًا أن تعودي لتجدي أحد جيرانك استشهد، أو أن توعي فجأة بأنّ أحد أقاربك مفقود، ولكنّنا سنعود”.

كلّ ما سبق، تعبّر عنه أيضًا أمّ محمد زعيتر التي كانت أوّل الواصلين إلى الليلكي “وصلنا الساعة 6 ونصف بدنا نستقبل الجيران” تقول لـ “المفكرة”، مضيفة: “ملكت الدنيا بعودتي وخسرت كثيرًا، سعيدة ولست سعيدة، في غصّة والضحكة مش من قلبك”. 

فرحة أم محمّد ترجع وكما تُخبرنا إلى عودتها سالمة هي وأولادها وأحفادها “تهجّرنا وفي كلّ مكان كان لي عزيز، ومع كلّ ضربة كنت أطلب من حفيدتي أن تقرأ الخبر، أنا لا أجيد القراءة وفي كلّ مرة خرج فيها عزيز سالمًا كنت أشكر الله” تقول.

أمّا ما تقصده بالغصّة فهو مشهد المنازل المدمّرة الذي رافقها على طريق العودة “كل الوقت عم شوف الدمار وفكّر بسكّان المباني، أين سيسكنون، هل فقدوا شخصًا عزيزًا عليهم؟ هؤلاء أهل منطقتي، نحن عدنا كلّنا وها نحن في منزلنا، ماذا عنهم؟”

تجلس أم محمد وأحفادها أمام دكان صغير تملكه تُخبرنا بأنّها تنتظر جيرانها لتستقبلهم، فيُقاطعها ابنها ممازحًا ويقول “تنتظر أن يفتح أبو عبّاس الملحمة، هي تحبّ الملسة من عنده، واشتاقت للملسة قد ما اشتاقت للضاحية”، فتضحك وتردّ “شو الضاحية، عجقة ناس وملسة طيبة وأناس يفرحون لفرحك ويحزنون لحزنك، أنا بنت الضاحية وأعرفها جيّدًا”.

العودة النهائيّة مؤجّلة 

تقول سيّدة التقينا بها بالليلكي، إنّها عادت نهائيًّا وإنّها ستتدبّر أمورها إلى حين عودة الكهرباء والمياه ورفع الردم، تمامًا كما بعض الأهالي الآخرين الذين أخبرونا أنّهم بدأوا بتنظيف بيوتهم وأنّهم سينتقلون إليها بدءًا من اليوم و”لو على العتمة” إلّا أنّ معظم من التقيناهم ممّن بقيت منازلهم أشاروا إلى أنّ العودة النهائيّة لن تكون قبل أسبوعين.

“بيتي منيح ولا يزال صامدًا، اطمأنّيت عليه، ولكن لا أستطيع السكن فيه قبل تأمين المياه والكهرباء” تقول أم محمد، مضيفة: “لم أقوَ على الخروج من الضاحية بقيت على أطرافها، واليوم عليّ أن أنتظر ربما شهرًا، سيكون صعبًا ولكن المهم أنّني سأعود”.

وعند سؤالي عن أوّل ما تُريد فعله عند العودة تقول: “بدّي عزّل البيت وأجلس مع فنجان قهوتي على الشرفة، أريد أن أعود فقط”. 

بالإضافة إلى مشكلة المياه والكهرباء، يربط البعض عودته برفع الأنقاض وزوال روائح الحرب “من حرائق وتكدّس نفايات لا تُحتمل، ثمّ أنّ بيتي في مبنى بين مبان متصدّعة أو مدمّرة، ليس من السهل الوصول إلى مدخله، سأنتظر حتّى تُرفع الأنقاض لأعود”، يقول أحد أهالي الضاحية الذين التقينا بهم في الرويس.

محال فتحت أبوابها وأخرى لم تغلقها أصلًا

على الرغم من مشهد الدمار الكبير، كان لافتًا وفي مختلف الأحياء التي جلنا فيها في بئر العبد والرويس وحارة حريك ومعوّض والليلكي فتح عشرات المحال أبوابها، ومنها الدكاكين ومحال حلاقة وخضار وأفران وحتّى مقاهٍ ومحال ألبسة وبيع هواتف. 

على أوتستراد هادي نصرالله وبين عشرات الأبنيّة المدمّرة شمالًا ويمينًا يقف علي سبيتي داخل محلّه لبيع الهواتف يُرتّب بضاعته ويتأكّد من وضع كلّ قطعة في مكانها، كأنّ الحرب انتهت منذ أشهر وكأنّه ينتظر زبائنه في يوم عمل عادي لم يسبقه شهران من حرب مدمّرة. فتح سبيتي محلّه الساعة الثامنة صباحًا، تمامًا كما كان يفعل قبل شهرين أي قبل أن يترك الضاحية، وهو واثق تمامًا أنّ الحياة ستعود سريعًا إلى طبيعتها “نحن نحبّ الحياة، نُحبّ العمل ونُحبّ الضاحية، فطبيعي أن نعود بسرعة وأن نُكمل حياتنا” يقول. ويضيف: “أنا ولدت وكبرت في الضاحية، وكما أهلها أعرف أنّه سيُعاد إعمارها، وأنّ العدوّ لم يستطع الدخول جنوبًا فأفرغ غضبه بالحجر في ضاحية بيروت”. 

كما سبيتي فتح بائع خضار في الليلكي محلّه باكرًا “الحياة يجب أن تُكمل، يجب أن تعود طبيعيّة في نهاية المطاف” يقول لـ “المفكّرة” وهو يرتّب الخضار. يُرحّب هذا البائع بجارته التي أتت لتفقّد بيتها وفرحت لوجوده فقرّرت أن تشتري خضرتها من عنده ولو كانت ستعود إلى بيت ابنتها في الحدت حيث نزحت، إذ إنّ منزلها متضرّر ويحتاج إلى بعض الإصلاحات قبل أن يُصبح قابلًا للسكن. “بشمّ ريحة الضاحية بخضرته، وعندما نزح إلى الحدت افتتح محلًا صغيرًا هناك، وكانت ابنتي تأخذني لأشتري من عنده”.

بعض المحال لم تُقفل أبوابها أصلًا كما سوبرماركت عز الدين على أوتوستراد هادي نصرالله “لم يقفل يومًا منذ بداية الحرب، كان يقفل في ساعات الإنذارات إذا كانت قريبة ومن ثمّ يفتح أبواب المحال” يقول صديق صاحب السوبرماركت ورفيقه الذي بقي معه طوال فترة الحرب. ويُضيف: “طبعًا فتح السوبرماركت اليوم بطعم آخر طعم العودة والنصر وإنذارًا بعودة الحياة”.

على مدخل أحد المباني في معوّض تقف سيّدة ممسكة بيد ابنها، تعجز عن حبس دموعها “بكينا حين خرجنا وبكينا حين عُدنا” وتخبرنا أنّها وفي طريق عودتها إلى منزلها كانت تتذكّر طريق الخروج منه، وكيف تبدّل الخوف وأصبح أمانًا “خرجنا مسرعين وعدنا مسرعين، ولكنّ الخوف بات أمانًا” تضيف.

انشر المقال

متوفر من خلال:

تحقيقات ، لبنان ، مقالات ، جرائم الحرب والجرائم ضدّ الإنسانية ، العدوان الإسرائيلي 2024



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني