العلاقات التونسية الصينية (2): شَراكَة أم هيمنة؟


2024-10-25    |   

العلاقات التونسية الصينية (2): شَراكَة أم هيمنة؟
المصدر: صفحة رئاسة الجمهورية التونسية

اختلال التوازن كليا على مستوى الميزان التجاري وضعف الأدفاق المالية والبشرية الصينية في تونس، لا ينسجمان كثيرا مع سقف التوقعات التونسية -الرسمية والشعبية- من الدّعم الاقتصادي والتقني واللوجستي الذي يُمكن أن تقدّمه الصين للبلاد، ولا معَ حجم التهليل الإعلامي لحجم الحضور الصيني في تونس. ويبدو أن هذا التباين الواضح بين المأمول والواقع يُسبّب حرجًا للمسؤولين في تونس، لذلك يسعى الخطاب الرسمي إلى التغطية على هذه الثغرة الهائلة عبر التركيز على جوانب أخرى من العلاقات التونسية-الصينية أكثر لطفا وذات تأثير نفسي إيجابي لدى الرأي العام. نتحدث هنا عن الهبات المالية والعينية التي قدمتها الصين إلى تونس طيلة العقود الفائتة، وعن المشاريع الكبرى التي أنجزتها أو ستُنجزها قريبا، وسنحاول فيما يلي استعراض أبرزها: 

-القُروض والهبات: 

لا تُعدّ الصين من كبار مُقرضي تونس، ولا حتى من صغارهم، وحتى القروض التجارية التي قدّمتها للبلاد على مدى عقود طويلة محدودة جدا، فعلى سبيل المثال بلغ مجموع قيمة القروض الصينية لتونس ما بين 2000 و2012 حوالي 215 مليون دينار تونسي حسب المعطيات الواردة في تقرير صادر عن المعهد العربي لرؤساء المؤسسات في 2023، ولم يتمّ الإعلان في السنوات الفائتة عن قروض جديدة.  

يختلف الأمر بوضوح بالنسبة للهبات ومساعدات التنمية ومشاريع التعاون الدولي، فالصين هنا أكثر “كرما”. وعلى حسب ما ورد في  تصريحات لوزير الخارجية الأسبق، المنجي الحامدي، في نوفمبر 2014 فإن الصين قَدّمَت إلى تونس مساعدات بقيمة 70 مليون دينار ما بين 1987 و2010، وحوالي 149 مليون دينار ما بين 2011 و2014. ثم شهِدَت الأرقام تطورا كبيرا منذ سنة 2016، إذ قدَّمَت الصين مساعدات مالية مباشرة فاتت قيمتها 400 مليون دينارا، أبرزها هبة بقيمة 72 مليون دينار في 2017 وأخرى بقيمة 110 مليون دينار في 2018، و100 مليون دينار في 2021، بالإضافة إلى الـ100 مليون دينار التي أُعلِنَ عنها إثر زيارة الرئيس سعيّد إلى الصين في ماي 2024. فضلا عن هذه المبالغ المالية، قَدّمَت الصين إلى تونس عدّة هبات ومساعدات عينية للمؤسّستين العسكرية والأمنية مثل طائرات الهيلوكوبتر والسيارات والدراجات النارية وعربات الإسعاف والحماية المدنية وأجهزة الكشف بالأشعة للمعابر الحدودية، وعدة تجهيزات أخرى وبرامج تعاون استفادت منها وزارات أخرى. 

وكانت الصين أيضا من بين الدول التي مَنحَت تونس مساعدات كبيرة خلال الأزمة الوبائية التي تسبَّبَ فيها فيروس كوفيد-19، مثل بدلات الحماية الشخصية والكمامات والمعقمات، بالإضافة إلى أكثر من 2 مليون جرعة لقاح مجانية. ولعل أقدم -وربما أجمل- مثال عن المساعدات الصينية هو البعثات الصحية التي انطلقت منذ سنة 1973. أكثر من 1100 طبيب صيني من مختلف الاختصاصات قَدِموا إلى تونس ضمن 26 بعثة متتالية خلال الخمسون عاما الفائتة، وعَمِلَ جزء كبير منهم في مؤسسات الصحة العمومية التونسية في المناطق الداخلية التي يتهرّب عدد من أطباء الاختصاص التونسيين من الذهاب إليها.   

-المشاريع الكبرى:  

منذ بداية ثمانينيات القرن العشرين قَدَّمَت الصين دعما ماديا وتقنيا في إنجاز مشاريع كبرى وبُنىَ تحتية، وهناك أيضا مشاريع في طور الإنجاز، وتأمَل السلطات في تونس أن يتطوّر هذا التعاون ليشمل مشاريع عملاقة ترى أنها ستحقق الإقلاع الاقتصادي في تونس.  

  • المشاريع المُنجَزة: 

-بناء “قناة وادي مجردة- الوطن القبلي”: قامت جمهورية الصين الشعبية ما بين سنتي 1978 و1982 بالإشراف على مختلف مراحل هذا المشروع المائي الضخم الممتد على مسافة 126 كيلومترا والرابط بين “سد العروسية” بطبربة (ولاية منوبة) وقرية “بلي” (ولاية نابل)، والذي لعب دورا حيويا في توفير مياه الري والشرب في مناطق الوطن القبلي والساحل وصفاقس. وتكفَّلَت الصين بتوفير الأيدي العاملة والخبراء والتجهيزات الضرورية للأشغال، كما وَفّرَت تمويلا قُدّرَ آنذاك بحوالي 53،6 مليون دولار.  

-المركز الثقافي والرياضي للشباب بالمنزه السادس: هذا المشروع كان أول تجسيم لـ”اتفاقية التعاون الاقتصادي” بين تونس والصين (1984)، وتم إنجازه ما بين ديسمبر 1988 وجويلية 1990 بإشراف صيني. كما قدّمت الصين هبة قدرها 2،2 مليون دينار كمساهمة في تكلفة المشروع التي بلغت حوالي 4 مليون دينار.   

-تشييد مبنى الأرشيف الوطني: تكفّلَت الصين ما بين 1995 و1998 ببناء المقر الجديد للأرشيف التونسي بعد أن كان ملحقا بالوزارة الأولى.  

-إنشاء المركز الثقافي والرياضي للشباب ببن عروس: في 2018 أعلنت الحكومة الصينية موافقتها على التمويل الكامل لهذا المشروع بمبلغ قدره 92 مليون دينارا، وامتدّت الأشغال ما بين نوفمبر 2018 وسبتمبر 2022.  

-المستشفى الجامعي بصفاقس: أعلنت الصين في سنة 2014 نيّتها منح تونس هبة قدرها 120 مليون دينار لبناء مستشفى جامعي إضافي في ولاية صفاقس بِطاقَة استيعاب قدرها 246 سريرا، وتم التوقيع على اتفاقية الهية في أفريل 2016. انطلقت الأشغال التي تولَّتها شركة صينية في مطلع سنة 2017، وتم تسليم المستشفى من قبل الجانب الصيني في ديسمبر 2020.  

-تشييد الأكاديمية الدبلوماسية الدولية بتونس: في فيفري 2018 أعلنت الصين تخصيص 72 مليون دينار لتمويل إحداث هذه المؤسسة العمومية التونسية الجديدة وبنائها وتجهيزها بشكل كامل، وامتدت الأشغال ما بين ماي 2019 وأفريل 2022.  

  • مشاريع في طور الإنجاز:

-جسر بنزرت الجديد: وقّعت وزارة التجهيز والإسكان في مارس 2024 عقد صفقة إنجاز الجسر الرئيسي لمشروع وصلة الربط الدائمة بين الطريق السيارة أ4 ومدينة بنزرت، وذلك بين الإدارة العامة للجسور والطرقات والشركة الصينية “سيشوان للطرقات والجسور”. ويمتدّ الجسر على مسافة 2،1 كيلومترا ويبلغ علوه على سطح البحر 56 مترا مما يسمح بمرور جميع أنواع البواخر. تقدّر قيمة العقد بـ 610 مليون دينار، ومدة الأشغال 38 شهرا.  

-سُدّ ملاّق الجديد: في ماي 2016، استطاعت شركة “سينوهيدرو” SinoHydro الصينية الظفر بمناقصة أطلقتها الدولة التونسية لبناء سد جديد “ملاق العلوي” على مجرَى وادي مجردة بعد أن انخفضت السعة التخزينية للسد القديم الذّي بُنِيَ في منتصف القرن العشرين. تبلغ قيمة العقد 178 مليون دينارا، ويُنتظر أن يتم تسليمه في مطلع سنة 2025.  

-محطة الطاقة الكهروضوئية بالقيروان: في ماي 2024 انطلقت أشغال بناء المحطة في “السبيخة” بولاية القيروان، والتي ستبلغ طاقة إنتاجها القصوى 100 ميغاوات. وفازَ تحالف مكون من شركتين صينيتين: “مجموعة بناء الطاقة الصينية تيانجين لشركة إنشاءات الطاقة الكهربائية المحدودة” و”شركة معهد شمال غرب تصميم الطاقة الكهربائية المحدودة”، بهذه الصفقة التي تبلغ قيمتها حوالي 300 مليون دينار، وسيُشرف هذا التحالف على كامل مراحل الأشغال من التصميم إلى التشغيل. 

  • مشاريع مستقبلية مُحتَمَلة:

بالإضافة إلى كل المشاريع المنجزة والتي في طور الإنجاز، هناك حزمة من المشاريع متنوعة الحجم والأهمية التي قد تتولى مؤسسات صينية -تابعة للدولة أو القطاع الخاص- إنجازها. بعضها تم الاتفاق المبدئي حولها مثل تخصيص الصين هبة مالية (حوالي 100 مليون دينار) بعنوان إنشاء مستشفى لعلاج الأورام في ولاية قابس وأشغال توسعة المستشفى الجامعي في صفاقس، وأخرى تَقدَّمَ النقاش حولها وقد يتم توقيع مذكرات تفاهم حولها في الأشهر القادمة مثل أشغال تهيئة ملعب “المنزه” (رصدت لها الدولة 100 مليون دينار) والمشروع الضخم “مدينة الأغالبة الطبية بالقيروان” الذي تُقدر تكلفته بحوالي 3 مليار دينار. كما أن هناك مشاريع عملاقة تَحضر منذ سنوات في تصريحات مسؤولين رسميين لكنها مازالت في طور المقترحات ولم تُقدّم دراسات مكتملة حولها، ومن بينها مشروع قطار سريع يربط شمال البلاد بجنوبها، وميناء المياه العميقة في “النفيضة” بولاية سوسة الذي تُقَدّر تكلفته بأكثر من 3 مليار دينار، ومشروع توسعة ميناء جرجيس (ولاية مدنين) وربطِه بسكة الحديد.  

هل يُمكن فعلا الحديث عن “شراكة استراتيجية”؟ 

سقف الآمال التي يُعلّقها الجانب التونسي، الرسمي والشّعبي، على الجانب الصيني مرتفع جدا. ويكفي تصفّح محتويات أبرز المواقع الإعلامية التونسية لنُدرِك حجم حضور الصين كشريك مُحتمَل في أغلب المشاريع الكبرى و”مُخلّص” سيُعبّد طريق “الإقلاع الاقتصادي” أمام الدولة التونسية. كثير من الانتظارات هي أشبه بالأماني ولا أسس واقعية لها. ويبدو أن الصين واعية بذلك، وتُحاول أن تُوازن بين استثمار هذا الحماس التونسي والتذكير بالبديهيات. ولعل ما جاء على لسان سفيرها في تونس، السيد “وان لي”، خلال استضافته من قبل الإذاعة الوطنية (الرسمية) في 18 سبتمبر الفائت، دليل على الحرج الصيني. فعلى الرغم من حرصه على تثمين عراقة “الصداقة التونسية الصينية” وتِعداد مظاهر الدّعم الصيني لتونس والتّأكيد على استمراره وتطوّره في المستقبل، فإن السفير سَعَى إلى توضيح الصورة في أذهان المستمعين: ستستمر الصين في تقديم هبات وأشكال مختلفة من المساعدات، لكن المشاريع الضخمة لا يمكن إنجازها بشكل سريع ومجاني، فهي تتطلّب من جهة دراسات معمقة ومقترحات جدية، ومن جهة أخرى تمويلات واستثمارات كبيرة ممّا يستوجب الحصول على قروض تجارية وإبرام صفقات مع شركات صينية حكومية وخاصة. وشدّدَ الضيف على فكرة الشراكة القائمة على مبدأ “رابح – رابح”. لكن على الرغم من “النوايا الحسنة” من الجانبين هل يعتبر الحديث عن علاقة “رابح – رابح” بين البلدين واقعيا؟  

على الرغم من الاختلال الكلي في ميزان التبادل التجاري بين البلدين وحجم العجز الذي يقارب 3 مليار دولار فإن تونس لا تتمتع بموقع جيد في خارطة التجارة الخارجية للصين، فهي تحتل (أرقام سنة 2023) المرتبة 102 في قائمة حرفاء العملاق الآسيوي والمرتبة 121 في قائمة مُزَوّدِيهِ. صحيح أن الصين تسعى إلى إغراق العالم بِسلَعها، لكن تونس لا تتمتّع بثقل ديمغرافي جذاب ولا مقدرة شرائية عالية. تونس لا تمتلك أيضا ثروات طاقية ولا تنتج سلعا غذائية أساسية معدة للتصدير وليس لديها مخزونا كبيرا من المعادن النادرة أو قوة عسكرية وازنة دوليا أو صناعات وتكنولوجيات متطورة أو فوائض مالية تبحث عن فرص استثمار. عوامل الجذب قليلة جدا، ومن الصعب تَخَيّل أن الصين تُعلّق آمالا كبرى على “شراكتها” مع تونس.  

من المؤكد أن هناك بعض النقاط الجغرافية والسياسية التي قد تَمنَح تونس هامشا صغيرا للتفاوض لكنها ليست حاسمة. نتحدث هنا على موقع تونس في حوض البحر الأبيض المتوسط وقُربها من أوروبا، وحدودها المشتركة مع بلدين عربيين/إفريقيين مهمين بالنسبة للصين (الجزائر وليبيا)، وتَوفر موارد بشرية وبُنى تحتية صناعية ملائمة لتركِيز بعض المشاريع الاستثمارية الصينية يتجه إنتاجها إلى أفريقيا أو أوروبا، وكذلك إمكانياتها المستقبلية المحتملة في إنتاج الطاقات البديلة. تُبدي الصين اهتماما واضحا بالموانئ التجارية التونسية من “بنزرت” في الشمال إلى “جرجيس” في الجنوب، وقد تسعى إلى ضمان موطأ قدم في هذه المنشآت الحيوية بشكل يَخدم مصالحها التجارية ومشروعها السياسي- الاقتصادي الضخم: “مبادرة الحزام والطريق”. كما قد ترى الصين مكسبا في اجتذاب بلد طالما اعتُبِرَ مُقرّبًا من الغرب، خاصة وأنها تخوض “حربا باردة” مع الولايات المتحدة.  

نعم، لكن..  

تحظى الصين بمقبولية شعبية لا في تونس فقط، بل في أغلب دول المنطقة العربية، فهي دولة من الجنوب العالمي ليس لها ماض كولونيالي في المنطقة، وتُشكّل تهديدا للهيمنة الأمريكية/الغربية في العالم، كما أن لها عدة مواقف تاريخية من القضايا العربية مثل القضية الفلسطينية والحرب على العراق. ويُنظَر إلى الاستراتيجيات السياسية والاقتصادية الصينية في العالم على أنها مختلفة عن السياسات النيوكولونيالية  الغربية، ولا تَحمل نفس الشّحنَة من الغطرسة والسعي إلى النهب. يُضَاف إلى كل هذا حجم انتشار السلع الصينية في العالم -شمالا وجنوبا- والقدرات الفائقة التي أظهرتها في تنفيذ مشاريع عملاقة في عدة دول في مدة قياسية ودون التدخل علنا في الشؤون الداخلية للـ”حرفاء”. 

نعم، أغلب هذه النقاط صحيحة نسبيا لكن لا يجب أن تُنسِينا البديهيات: الصين ليست منظمة خيرية، بل قوة عالمية تتبنى اقتصاد السوق ولديها مصالح وأطماع هيمنة في عدة مناطق في العالم، بخاصة في القارة الأفريقية. ولضمان حضور قوي في دول الجنوب تتبنى الصين جملة من السياسات “الكريمة” التي قد تتحوّل في عدة حالات إلى فِخَاخ، مثل منح قروض ضخمة لدول متعثرة ومتأزمة اقتصاديا أو تشجيعها على تنفيذ مشاريع عملاقة لا تتحملها ميزانياتها أو لا تعود عليها بنفع كبير، وعند العجز عن السداد يكون “الحل” هو تخلي الدولة عن بعض أصولها كليا أو منح رخصة استغلال طويلة المدى للدائن.  

تونس مازالت خارج دائرة القروض الصينية، ولم تَشرع بعد في إنجاز مشاريع بُنَى تحتية ضخمة، كما أنها على الرغم من كل الصعوبات الاقتصادية التي تمر بها مازال لديها إمكانية للتعافي. أي انها مازالت في موقع يَسمح لها بتحسين شروط التفاوض مع الصين وإضفاء بعض التكافؤ على العلاقات والحرص على أن يَنقل الطرف الأكثر تطورا تقنيا وتكنولوجيا جزء من خبرته ومعارفه إلى الطرف الآخر. لا يمكن بكل حال من الأحوال الحديث عن شراكة حقيقية في ظل ميزان المبادلات القائم حاليا بين البلدين، فتونس بهذا المستوى من العجز لن تكون أكثر من مجرد سوق للسلع الصينية أو معبرا لها نحو مناطق أخرى من العالم. ولا فائدة في استبدال تبعية بتبعية أخرى.  

لقراءة الجزء الأول من المقال، إضغطوا هنا

انشر المقال

متوفر من خلال:

مقالات ، تونس ، اقتصاد وصناعة وزراعة



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني