تكاد الصّين لا تَغيب عن أي نقاش يتعلّق بالبنى التحتية والمشاريع الكبرى في تونس خلال السنتين الأخيرتين. لا يتعلق الأمر فقط بأحاديث المقاهي والبرامج الإعلامية، بل هو حضور نجد له أثرا واضحا في الخطاب الرسمي. تُعلّق السلطة في تونس آمالا كبيرة على الشراكة مع الصين لتحريك الاقتصاد الراكد والمساهمة بقوة في تنفيذ حزمة من المشاريع الكبرى التي يَعِد الرئيس قيس سعيّد بتنفيذها في مجالات الصحة والنقل والرياضة وغيرها.
ويتلقّف جزء واسع من الرأي العام هذه الآمال الرسمية ويتعامل معها على أساس أنها اتفاقات ستَدخل حيز التنفيذ قريبا. لكن الأمور ليست بهذه البساطة، فما بين انتظارات التونسيين واهتمام الصينيين هناك مسافات وتباينات. كما أن الحديث عن شراكة بين تونس والصين يتطلب تدقيقا أكبر في واقع العلاقات بين البلدين ومدى التكافؤ فيها. وعلى الرغم من جاذبية فكرة تقليص حجم التبعية إلى الدول الغربية والبحث عن شركاء آخرين، وكذلك أهمية المشاريع التي أنجزتها الصين في تونس تحت مسميات مختلفة خلال العقود الأخيرة، فإن هناك عدة مخاطر ومحاذير يجب أخذها بعين الاعتبار.
نبذة تاريخية عن العلاقات التونسية الصينية
احتفل البلَدان في مطلع 2024 بمرور 60 عام على إرساء العلاقات الرسمية بينهما في 10 جانفي 1964. وتُعتبر تونس من آخر الدول المغاربية التي اعترفت بجمهورية الصين الشعبية على الرغم من إرساء علاقات تجارية منذ سنة 1958. وإلى حدود بداية سبعينيات القرن الفائت كانت العلاقة بين النظامين الحاكمين في البلدين تتّسم بنوع من البرود نظرا للتباينات الإيديولوجية ما بين الصين الماوية الاشتراكية وتونس البورقيبية الحليفة للغرب في حربه على “الشيوعية”. وليس من قبيل الصدف أن العلاقات التونسية الصينية شهدت تحسنا ملحوظا بعد بداية تطبيع العلاقات بين الصين والولايات المتحدة/الغرب في 1972 وتبني البلد الآسيوي سياسة “اقتصاد السوق الاشتراكي” تدريجيا. وكانت من نتائج هذا التقارب تولّي الصين بناء أحد أكبر المنشآت المائية في تاريخ تونس (قنال مجردة-الوطن القبلي 1978 -1982) والتوقيع على اتفاقيات تعاون اقتصادي وثقافي في بداية سنوات 1980.
لكنّ التطور الحقيقي للعلاقات بين البلدين جاء مع وصول الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي إلى السلطة في نوفمبر 1987. في أفريل 1991 أدى بن علي، الذي أكد أكثر من مرة التزام تونس بمبدأ “الصين الواحدة والموحدة”، أول زيارة رسمية رئاسية تونسية إلى الصين، قبل أن يقوم باستقبال الرئيس الصيني “يانغ شانغكون” في تونس في جويلية 1991. وكانت هذه الزيارات المتبادلة خطوة هامة في تطوير العلاقات الاقتصادية والسياسية بين البلدين خاصة بعد تفكّك الاتحاد السوفياتي وانهيار “المعسكر الشرقي” وهيمنة اقتصاد السوق في أغلب أرجاء العالم. تدريجيا ثَبَّتَت الصين أقدامها كأحد أكبر مصادر التوريد إلى تونس.
خلال السنوات الأولى التي تلت ثورة 2011، تَعاملَت الصين بحذر مع الحكام الجدد ومع حالة عدم الاستقرار السياسي التي عاشتها تونس، واعتمدت سياسة الهِبَات والمساعدات للحفاظ على علاقاتها ومصالحها في انتظار توضّح الأمور. وكان فوز الباجي قائد السبسي وحزبه نداء تونس في رئاسيات وتشريعيات 2014 عاملا مطمئنا للصين، فالرئيس الجديد كان من بين الوجوه البارزة في النظام التونسي خلال العهد البورقيبي والسنوات الأولى من حكم بن علي. تونس التي اكتوت بنار الإرهاب وتكبّدت بسببه خسائر بشرية واقتصادية ثقيلة كانت بحاجة إلى جرعات أوكسيجين خارجية لإنعاش اقتصادها، وكان من الطبيعي أن تتّجه أنظارها إلى الصين التي كَرّسَت مكانتها كثاني أقوى قطب اقتصادي وتكنولوجي في العالم. وربما سعت تونس من خلال التقارب مع الصين إلى تحفيز الدول الغربية على تقديم دعم مالي أكبر لتونس بشروط أقل. شهدت سنوات 2016– 2019 نقلة نوعية في العلاقات على المستوين السياسي والاقتصادي. ومن أبرز مظاهر هذا التطور تأسيس “غرفة التجارة والصناعة التونسية الصينية” في 2016، وإلغاء التأشيرة على دخول الصينيين في 2017، وتوقيع البلدين مذكرة تفاهم بخصوص انضمام تونس إلى مبادرة “الحزام والطريق” والإعلان عن تشكيل “اللجنة العسكرية المشتركة الصينية التونسية” في 2018، وافتتاح “معهد كونفشيوس” الثقافي الصيني في “جامعة قرطاج” في 2019.
بعد سيطرة قيس سعيّد على أغلب السلطات في تونس إثر إجراءات 25 جويلية 2021، وتأكيده على “رفض التدخل الأجنبي في الشؤون الداخلية” والشروط السياسية للمؤسسات المانِحَة التي تُسيطر عليها الدول الغربية، ظهرت بوادر تبني سياسة “الاتجاه شرقا”. وبما أن روسيا قد عَلِقَت في حربها مع أوكرانيا منذ شتاء 2022 كانت الصين هي العنوان الطبيعي الذي سيطرق الرئيس التونسي أبوابه أملا في تخفيف الضغوط الغربية واستجلاب مشاريع اقتصادية وسيولة مالية بأقل ما يمكن من الشروط السياسية. وكان لقاء الرئيس سعيّد بالرئيس الصيني “شي جين بينغ” في ديسمبر 2022 على هامش القمة العربية الصينية التي انعقدت في المملكة السعودية محطة أساسية في تطور فكرة “الشراكة الاستراتيجية” بين البلدين والتي نضجت تدريجيا بعد ذلك اللقاء وصارت اتفاقا رسميا بعد زيارة الدولة التي قام بها قيس سعيّد إلى الصين ما بين 28 ماي و1 جوان 2024 بدعوة من الرئيس الصيني.
تمّ توقيع سبع اتفاقيات تعاون خلال هذه الزيارة. كما شكلت زيارة رئيس الحكومة، كمال المدوري، إلى الصين للمشاركة في أشغال المنتدى الصيني-الإفريقي (سبتمبر 2024) فرصة للتباحث مع المسؤولين الصينيين حول عدة مشاريع مستقبلية. ويأمل الرئيس سعيّد أن تكون الصين، أكبر مقاول أشغال عامة في العالم، شريكا أساسيا خلال عهدته الرئاسية الثانية التي اختار لها عنوانا “البناء والتشييد”.
عجز تجاري خانق ومتزايد
إذا ما كان هناك مؤشر واضح على تطور حجم الحضور الصيني في تونس وعلى عدم دقة مصطلح الشراكة عند الحديث عن العلاقة بين البلدين، فهو بلا شك حجم المبادلات التجارية. سنعتمد هنا على البيانات الرسمية للمعهد الوطني للإحصاء1 لتتبّع مسار هذا التطور.
على الرغم من إرساء علاقات تجارية بين البلدين منذ سنة 1958 فإن حجم المبادلات بينهما ظل محدود جدا لعقود طويلة. التحول الحقيقي سيحدث في أواسط تسعينيات القرن الفائت مع توجه الصين أكثر فأكثر نحو اقتصاد السوق بعد تفكّك الاتحاد السوفياتي والمعسكر الشرقي والدخول في عهد القطبية الغربية الأحادية، وتبنّي تونس سياسات الانفتاح على الأسواق العالمية (الانضمام إلى منظمة التجارة العالمية وتوقيع اتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي في 1995) وتقليص الإجراءات الحمائية أمام السلع والخدمات المتدفقة من الخارج.
حسب الأرقام الواردة في النشريات الإحصائية التي يُصدرها “المعهد الوطني للإحصاء”، نجد أن فترة حكم الرئيس الأسبق بن علي شهدت نقلة نوعية في أرقام المبادلات وتوازنها:
-حجم الصادرات التونسية: 29،4 مليون دينار في 1995، و35،3 مليون دينار في 1999، و31،8 مليون دينار في 2004، و67،5 مليون دينار في 2010.
-حجم الواردات الصينية: 51،6 مليون دينار في 1995، و103،3 مليون دينار في 1999، و362،6 مليون دينار في 2004، و1924،8 مليون دينار في 2010.
خلال 15 سنة تَضاعف حجم الصادرات التونسية مرة واحدة فقط، في حين تضاعف الواردات الصينية قرابة 38 مرة. وبعد ثورة 2011 زادت الأمور انفلاتا وبلغت الاختلالات مستويات مخيفة:
-حجم الصادرات التونسية: 104،6 مليون دينار في 2014، و136،8 مليون دينار في 2019، وحوالي 150 مليون دينار في 2023.
-حجم الواردات الصينية: 3018،6 مليون دينار في 2014، و5989 مليون دينار في 2019، وحوالي 8600 مليون دينار في 2023.
بعد أن كانت الأرقام متقاربة جدا في مطلع التسعينيات، تباعَدَت بشكل هائل في ظرف أقل من 30 عاما، لتظل الصادرات التونسية تُراوح مكانها تقريبا في حين تضاعفت الواردات الصينية قرابة 167 ضعفا.
ومن الطبيعي أن يؤثر هذا الاختلال على حجم عجز الميزان التجاري بين البلدين ونِسبته من العجز العام: 22،2 مليون دينار في 1995 (من إجمالي عجز تجاري قيمته 2291 مليون دينار)، و68 مليون دينار في 1999 (من إجمالي 3103 مليون دينار)، و330 مليون دينار في 2004 (من إجمالي 3905 مليون دينار)، و1857 مليون دينار في 2010 (من إجمالي 8297 مليون دينار)، و2914 مليون دينار في 2014 (من إجمالي 13635 مليون دينار)، و5850 مليون دينار في 2019 (من إجمالي 19400 مليون دينار)، و8418 مليون دينار في 2023 (من إجمالي 17069 مليون دينار).
في أقل من 30 عاما تضاعَفت نسبة مساهمة العجز في المبادلات التجارية مع الصين في العجز التجاري العام لتونس من 1 في المئة إلى قرابة 50 في المئة، وهي مرجّحة للتزايد إذا لم تتّخذ تونس إجراءات عاجلة إما بزيادة الصادرات أو تقليص الواردات. ولا يَقتصر العجز على حجم المبادلات، بل يَشمل طبيعة السلع المتبادلة، ففي حين مازالت المواد الفلاحية كالزيوت واللحوم والمواد نصف المصنعة تمثل الجزء الأكبر من الصادرات التونسية إلى العملاق الآسيوي فإن معظم الواردات الصينية إلى تونس سلع صناعية تضم أساسا موارد مصنعة كهربائية وإلكترونية وميكانيكية.
كما نجحت الصين عبر السنوات -خاصة في العشرية الأخيرة- في تلميع صورة سلعها في ذهن المستهلك التونسي الذي كان إلى حد وقت قريب يتعامل مع المنتج الصيني كسلعة رخيصة ومتدنية الجودة تتربع على عرش البضائع المُهرّبة وبسطات الأسواق الشعبية وعربات الباعة المتجولين.
انطلَقَ تسويق السيارات الصينية في تونس بشكل رسمي ومنظم منذ أكتوبر 2016 عبر منتجات الشركة الصينية “شيري”، وبعد تردد قصير تقبلتها السوق التونسية وفتحت الأبواب أمام شركات وموديلات صينية أخرى، حتى بلغ نصيب الصين من سوق السيارات الجديدة في تونس 11،4 في المئة سنة 2022 بـ6340 سيارة. في السنة ذاتها احتلّت ثلاثة موديلات صينية ترتيب السيارات العشر الأكثر مبيعا في تونس. وتجدر الملاحظة أن الشركات الصينية استطاعت تنويع عروضها بشكل أخرجَهَا من دائرة صانعة السيارات “الرخيصة” الموجهة ومَكّنهَا من استقطاب الفئات العليا من الطبقة الوسطى وحتى شرائح من الطبقة الأكثر ثراءً.
وسارت الأمور بشكل أسرع وأقوى مع الهواتف الذكية الصينية، التي بلغت حصتها في السوق التونسية -حسب أرقام منصة statcounter- حوالي 57 % في سنة 2023، وَوردَت ثلاث شركات صينية في قائمة الشركات الخمس التي حققت أكبر المبيعات في تونس. وتُشير معطيات “وكالة النهوض بالصناعة والتجديد” إلى أن الصين تستحوذ في السنوات الأخيرة على قرابة 25 % من واردات تونس من السلع الكهربائية والالكترونية والكهرومنزلية.
حتى على مستوى منصّات التواصل الاجتماعي تشهد “السوق الافتراضية” التونسية انتشارا هائلا لمنصة “تيكتوك” الصينية التي احتلّت في جانفي 2024 المرتبة الثالثة في عدد المستعملين بعد “فيسبوك” و”مسّنجر” بأكثر من 5،3 مليون مُستعمِل، حسب أرقام موقع data portal.
هذه الأمثلة الأخيرة ليست مجرد سلع استهلاكية عادية، بل تَحمل بعدا ثقافيا يعزز “القوة الناعمة” للصين ومن مقبوليتها لدى التونسيين. لكننا لا نجد بموازاة هذا التغول للمنتجات الصينية في السوق التونسية مؤشرات اقتصادية أخرى تخفّف وطأة هذا الاختلال في الميزان.
في قطاع السياحة مثلا -وهو حيوي بشدة بالنسبة لتونس- لم يَتجاوَز عدد الصينيين الذين زاروا بلادنا في سنة 2023 الثلاثون ألف سائح، مقابل حوالي 60 ألف سائح في المغرب وربع مليون سائح في مصر. علمًا وأن الصّين هي المصدر الأول للسياح في العالم خلال سنة 2023: 87 مليون سائح أنفقوا قرابة 200 مليار دولار في الدّول التي زاروها.
أما على مستوى الاستثمارات الصينية المباشرة في تونس فإنها ميكروسكوبية بلا أي مبالغة، إذ لم تتجاوز قيمتها الـ10 مليون دولار خلال سنة 2023، حسب الأرقام التي قدّمها مدير وكالة النهوض بالاستثمار الأجنبي، علما وأن حجم الاستثمارات الصينية المباشرة في العالم بلغ 130 مليار دولار (منها 40 مليارا في القارة الافريقية)، أي أن نصيب تونس منها لا يتجاوز 0،01 %. وبلغ عدد الشركات الصينية المنتصبة في تونس 21 شركة (من جملة حوالي 3700 شركة أجنبية) وتُشغّل حوالي 1200 تونسيّا وتونسية. وربما يشهد حجم الاستثمار الصيني ارتفاعا في السنوات القادمة، خاصة في مجالات التعمير والتكنولوجيا والطاقة الشمسية وتجميع الحافلات والسيارات ومصانع الإسمنت والفوسفات حسب عدة تصريحات لمسؤولين ورجال أعمال صينيين.
لقراءة الجزء الثاني من المقال، إضغطوا هنا