تناولنا في الجزء السابق المسار التاريخي لقضية العقار الوهمي في الميناء الذي أدّى إلى نشوء عقار خاص في البحر. وقد جاء ذلك سنداً لقرار قضائي صادر عن قاضي الضمّ والفرز في الشمال، تبعاً لدعوى كان قد تقدّم بها ورثة من آل شبطيني ادّعوا فيها أنّ هذه الأرض كانت سقطت سهواً من ملكهم الخاص. وبالطبع، جاء هذا القرار مخالفاً لجميع القوانين، بخاصّة أنّ هذه القضية كانت قد عرضت سابقاً على القضاء وصدر قرار مبرم بردّها، إضافة إلى ردّ المراجعات الإدارية المتعلّقة بها من قبل عدّة وزراء.
وفي حين أنّ هذا القرار كان قد صدر في عام 2014، إلّا أنّ القضية لم تخرج إلى العلن إلّا في عام 2016، عندما كان “المالكون الجدد” بصدد بيع العقار. وتقدّم الشاري إلى دائرة الهندسة في البلدية لإجراء معاملة، فتبيّن أنّ العقار غير موجود على خرائط المساحة. حينها، تقدّمت بلدية الميناء باعتراض على قرار قاضي الضمّ والفرز في الشمال وطلبت الرجوع عنه واعتباره كأنّه لم يكن وإلغاء الصحيفة العينية للعقار رقم 1403 – بساتين الميناء. وقد أصدر إذ ذاك القاضي نفسه قراراً بتجميد العمل بالصحيفة العقارية ووضع إشارة احترازية بعدم إعطاء نسخة عن مشروحاتها إلى أيّة جهة كانت بانتظار صدور قرار قضائي آخر يبتّ بالاعتراض.
إلا أن القضية لم تقفْ هنا. وسرعان ما تحوّلت إلى معركة بين الدولة ممثلة بوزارة الأشغال والتي يفترض بها أن تكون رأس الحربة في حماية الملك العام، ومواطنين من منطقة الميناء وخارجها، راعهم أن تتم استباحة الملك العام على هذا الوجه. وقد أخذ هذا الأمر أشكالا عدة، أبرزها تلاقي هؤلاء على إطلاق “الحملة المدنية لحماية شاطئ الميناء”، وذلك دفاعاً عن الأملاك العامة البحرية في هذه المدينة. وقد قامت الحملة بعدة إعتصامات ونشاطات، آخرها تنظيم حملة تنظيم للشاطئ واحتفالات على “العقار الوهمي”. وبما لا يقل أهمية، انضمّ ناشطون من الحملة بالتعاون مع جمعية بيئية وطنية (الخط الأخضر) والمفكرة القانونية ممثلة بمحاميها، إلى بلدية الميناء في الطعن في القرار.
وقد وجهت “المفكرة” بالتعاون مع “جمعية الخط الأخضر” والحملة المدنية لحماية شاطئ الميناء” كتابًا إلى جميع النواب في 5/3/2019، داعية إياهم إلى ممارسة دورهم الرقابي تجاه ما يحصل على شاطئ الميناء. وقد أعقب هذا الكتاب مؤتمر صحافي حضره النائبان (بولا يعقوبيان وأسامة سعد)، وقد ألقيت فيه كلمة أكدت على أهمية نقل هذه القضية إلى الفضاء العام لمنع الاستيلاء على 30 ألف مترًا من الأملاك العامة، وتم فيها مطالبة وزارة الأشغال بكل وضوح أن تسلّم المساحة المستولى عليها، كما دُعي النواب إلى ممارسة دورهم الرقابي فيها.
وبفعل ذلك، اكتسبتْ القضية بُعداً رمزيا آخر على ما وصل إليه انهيار المؤسّسات. ففيما كان من المتوقّع أن تُسارع الوزارة بشخص وزيرها آنذاك يوسف فنيانوس إلى تصويب أدائها أو على الأقلّ أن تقف على الحياد لتترك للقاضي أمر البتّ بالقضية، ذهب هذا الأخير على العكس من ذلك، حسبما نقرأ في اللوائح الموقعة منه شخصياً والمقدّمة للقاضي الناظر في القضية، إلى التأكيد على أحقية ورثة آل الشبطيني وتالياً على سياسة التخلّي والتواطؤ للاستيلاء على الملك العامّ. وما يزيد من قابلية موقف فنيانوس للنقد هو أنه سلّم بموقف هؤلاء من دون أي تعليل أو مناقشة. جلّ ما صرّح به في هذا الخصوص هو أنّ “وزارة الأشغال العامّة والنقل وبعد دراسة كافّة المستندات ارتأت إعادة هذه الأملاك البحرية إلى أصحابها الأساسيين وفقاً لمطالعة مصلحة القضايا وقرار الوزير”. وهكذا، سلّمت الوزارة بأنّ ذرائع ورثة آل الشبطيني غير قابلة للنقاش مهما اتّضح وهنها أمام أيّ جدل جدّي. وهكذا، وفي السياق نفسه، أصبحت الأسناد التي ساقها وزراء سابقون للأشغال العامّة (مسقاوي) أو المالية (الحفّار الحسن) والتي تنسجم مع القانون وطبيعة الأشياء وقوّة القضية المقضية للأحكام القضائية، للتمسّك بأنّ المساحة المقتطعة تشكّل ملكاً عاماً، كلّها أسناد لا تستأهل منه إلّا التجاهل والازدراء. وبذلك، لم يظهر الوزير فنيانوس فقط بمظهر الوزير السيئ الذي يستبيح الملك العام ويدعم الذين يستولون عليه، بل أيضاً بمظهر محامٍ لخصوم الدولة يدافع عن قضايا مجرّدة عن أيّ سند معتمداً على لغة التعالي والاستقواء واستغلال المنصب، من دون إيلاء أيّ اهتمام للقانون والمنطق.
وقد بلغ هذا الدور مستوى أعلى حين طالبتْ الوزارة بردّ اعتراض أبناء الميناء والجمعيات البيئية لانعدام صفتهم ومصلحتهم في المداعاة بما يتّصل بالملك العام. فكأنّما الوزارة التي تخلّت بوضوح كلّي عن الدفاع عن الملك العام مسهّلة الاستيلاء عليه، تسعى إلى حماية إنجازها وصورتها من خلال تجريد الجميع من صفة الدفاع عنه. وبفعل هذا المطلب، بدا المشهد سريالياً: فالوزير لا يتخلّى فقط عن دوره في حماية الملك العام، ولا يتطوّع فقط للدفاع عن جهات متّهمة جدّياً بالاستيلاء على الملك العام، بل يملك فائضاً من الطاقة ليشرئبّ أيضاً وأيضاً ضدّ كلّ “متطفّل” تسوّله نفسه التصدّي للدفاع عن هذا الملك.
وما يزيد من سريالية الأحداث، أمران: أوّلاً، أنّ غالبية ورثة آل شبطيني التزموا الصمت تاركين للوزير مهمّة الدفاع عنهم، وثانياً، أنّ محامي هؤلاء (والذي بات دوره هامشياً على ما يبدو في ظلّ حماسة وزارة الأشغال العامّة في القضية) قد قدّم ضدّهم دعوى للمطالبة بأتعابه، وذهب إلى حدّ إلقاء حجز على العقار الوهمي المنشأ ضماناً لحقوقه! تجدر الإشارة إلى أنّ دعوى الاعتراض هذه ما زالت أمام قاضي الضمّ والفرز، على أمل أن يصدر قرار بالعودة عن قراره وإعادة الملك العام إلى أصحابه.
مجلس شورى الدولة مدعو لتغيير اجتهاده:
على القضاء تشجيع المواطنين على حماية البيئة ومكافحة الفساد
أمام بالنسبة للموقف المستفزّ للوزارة حيال القضية، وتحوّلها من حامٍ للملك العام إلى مسهّلٍ للاستيلاء عليه، فقد رأت الجهات المعترضة (الخط الأخضر وناشطو الحملة المدنية لحماية شاطئ الميناء) أنّ بلوغ غاياتها يتطلّب بالضرورة وضع الوزارة أمام مسؤوليتها.
وعليه، تقدّم هؤلاء بطلب رسمي إلى وزارة الأشغال العامّة طالبين منها اتّخاذ كافّة الإجراءات اللازمة لحماية الأملاك العامّة البحرية، ولا سيما شاطئ الميناء. الوزارة لم تجد حاجة للرد على الطلب، فاعتبر موقفها رفضاً ضمنياً له بفعل انقضاء شهرين من تقديمه. إذ ذاك قدّمت الجهات المعترضة مراجعة أمام مجلس شورى الدولة لإبطال القرار الضمني للوزارة برفض اتخاذ تدابير لحماية شاطئ الميناء، بما يتعارض مع مسؤولياتها الدستورية. الهدف الأساسي لهذه الدعوى كان رمزياً: وضع الوزارة أمام مسؤوليّاتها، وجرّها لتبرير موقفها المتخاذل، أمام القضاء. إلّا أنّ الوزارة بقيت على موقفها السابق. فبانسجام تامّ مع مواقفها السابقة وتجاهل تامّ أيضاً لما يتوجّب عليها من مسؤوليات، طلبت ردّ الدعوى شكلاً على أساس أنّ الشروط الشكلية للدعوى (وأبرزها توفّر الصفة والمصلحة) غير متوفّرة.
وبدل أن يجتهد مجلس شورى الدولة لتمكين المواطنين من حماية شرعية القرارات العامّة ومساءلة وزارة الأشغال العامّة بخاصّة في القضايا المتّصلة بالفساد والبيئة، تماهى هذا المجلس في قراره الصادر في أيلول 2018، خلافاً لرأي معاونة مفوّض الحكومة القاضية هدى الحاج، مع موقف الوزارة لجهة إنكار صفة المواطنين في تقديم الدعوى المذكورة. وكانت القاضية الحاج أكّدت في مطالعتها على صفة جمعية الخطّ الأخضر بتقديم هذا الاستدعاء، مستندةً على الاتّجاه لتوسيع الصفة والمصلحة للمداعاة أمام مجلس شورى الدولة بخاصّة في مراجعات الإبطال لتجاوز حدّ السلطة. وقد برّرت القاضية الحاج ذلك بتطوّر الاجتهاد الفرنسي لناحية توسيع مفهوم المصلحة والصفة للمداعاة التي لا تقتصر على الضرر الشخصي والفردي، وتشمل المراجعات التي تهدف إلى حماية المصالح العامّة والجماعية. ويتعزّز رأي الحاج بمجموعة من المعطيات القانونية والاجتماعية، أبرزها الآتية:
- أنّ المادة الثالثة من قانون حماية البيئة رقم 444/2002 قد وضعت على عاتق الجميع، سلطة ومواطنين، مسؤولية السهر على حماية البيئة والدفاع عنها،
- أنّ اتفاقية مكافحة الفساد نصّت في مادتها 13 على تشجيع المواطنين على مكافحة الفساد، وهو أمر استند إليه العديد من قضاة الأمور المستعجلة لردّ طلبات بمنع مواطنين من التداول في اتّهامات بالفساد (يراجع حكم سكّر الدكّانة ضدّ الدولة/ مجلس الجنوب الصادر في 24/4/2018 غرفة الرئيسة هالة نجا، وحكم أوجيرو ضدّ الأخبار الصادر في 31/7/2018، غرفة الرئيسة كارلا الشوّاح).
- أنّ الوضع العام في لبنان بات مقلقاً جداً، على أصعدة البيئة والفساد واحترام الإدارات العامّة للقانون، ممّا يفرض استنهاض الطاقات المدنية لاستخدام مختلف الوسائل (وأهمّها المراجعة القضائية) لحماية الشرعية. فمن شأن الإقرار بصفة المواطنين بالمداعاة أن يشكّل ضابطاً هامّاً لعمل الإدارات العامّة، فيما يشكّل إنكار هذه الصفة تسليماً بالتفلّت الحاصل والذي بات يهدّد مقوّمات الدولة برمّتها.
بالطبع، لا يشكّل قرار مجلس شورى الدولة نهاية للمعركة بل على العكس من ذلك تماماً يعتبر مؤشّراً إضافياً على ضعف الضمانات المؤسّساتية لشرعية القرارات العامّة، وعلى واجب المواطنين تالياً لبذل مزيد من الجهود لتمكين المجتمع من الدفاع عن مصالحه. وعليه، يُنتظر أن يتولّد عن هذه القضية دعاوى وملاحقات أخرى، على أمل بلوغ النهاية السعيدة أي عودة الشاطئ إلى الناس جميعاً.