أظهرت جلسة مجلس النوّاب اللبنانيّ المنعقدة في 28 أيّار 2020 على مسرح قصر الأونيسكو، وبالرغم من اقتصار المناقشة فيها على 11 مقترح قانون من أصل 37 كانت على جدول الأعمال، ثلاثة مواقف وسمات للنظام السياسيّ في لبنان.
الموقف الأول تمثل في المحاصصة الطائفية والسياسية التي ظهرت للعلن بما يجوبها من مساومات وخلافات. وحصل ذلك في سياق مناقشة العفو العام المبني على اعتبارات سياسيّة. ويلحظ أن الفرق السياسيّة ذهبت عند استشعارها عدم الاتفاق إلى خلف الكواليس لمدّة 25 دقيقة لتعود غير متفقة على “مخرج” لمأزقها “يلّقن الناس درسا بالوحدة الوطنيّة”.
الموقف الثاني تمثل في مسعى القوى السياسيّة إلى تبرئة نفسها من تهم الفساد، في سياق نسف إحدى وسائل مكافحته، كما حصل في إطار مناقشة قانون رفع السرية المصرفية.
كما بقي رهاب الأجانب واللاجئين هو “الشمّاعة” التي يعلّق عليها النظام مسؤولية العجز الاقتصاديّ والسيادة اللبنانيّة، بين الوقت والآخر.
العفو العامّ: “الوحدة الوطنيّة أهمّ أساليب المقاومة”…
وخروج “المكوّن السنيّ” يختم الجلسة التشريعيّة
كان من الواضح أنّ قانون العفوّ العامّ هو محور الجلسة، ومحطّ أنظار الجميع داخلها وخارجها. وهذا ما يفسّر تعليق رئيس مجلس النوّاب الجلسة التشريعيّة قبل أيّام من انتهاء العقد التشريعيّ الأوّل لسنة 2020، عند فشل المفاوضات بشأن قانون العفو. وهو بذلك، ترك زهاء 27 اقتراح قانون مدرج على جدول الأعمال من دون مناقشة. يتناول هذا القانون العفو ثلاث فئات تشكّل كل فئة منها جمهورا لأحد الأطراف السياسيّةال طائفيّة في لبنان، وقد فصّلت “المفكّرة القانونيّة” هذا القانون في مقال سابق.
منذ بداية الجلسة الصباحيّة، ورغم أنّ اقتراحا جديدا معدّلا وزع على النواب، فقد بقي الترقب سيد الموقف، وكأنما رئيس المجلس يؤخر عمدا الوصول إلى البند الثامن من جدول الأعمال وهو المتعلّق بالعفو العام، أملا بالوصول إلى اتفاق بشأنه. وعليه، سمح برّي لأكثر من 20 مداخلة للنواب قبل التصويت على الإقتراح المتعلّق بالتعيينات الإداريّة، ومن ثمّ لجأ إلى التصويت عليه بالمناداة، مع تسمية جميع النواب الحاضرين والإستماع إلى تصويتهم. وكلها أمور غير اعتيادية. ومنذ الجلسة الأولى، انشغلت القوى السياسيّة بأحاديث جانبيّة داخل القاعة أو خارجها. وكان لافتا دخول سعد الحريري إلى الجلسة بعد ساعة من بدايتها. وقد تكرّر خروج الحريري من الجلسة، مرّة فور خروج برّي، ثمّ عادا سويّة، ومرّة أخرى طلب فيها من نائب كتلة الوفاء للمقاومة حسن فضل الله أن يتبعه. ومن ثمّ انفرد الأخير مع النائب جبران باسيل، إضافة إلى أحاديث جانبيّة متكرّرة بين نوّاب الكتل. وخلال الجلسة هذه، استنكر النائب سامي الجميل حملة “حقّكن رصاصة” على مواقع التواصل الاجتماعيّ والموجّهة للأشخاص الذي يتضمن قانون العفو إعادتهم من فلسطين المحتلة بعدما اكتسبوا الجنسية الاسرائيليّة. وجاء ردّ برّي أنّ لا أحد سوى الله يستطيع أن “يمون” على مواقع التواصل، من “ترامب” وصولا إلى أصغر شخص، معتبرا أنّ كرامة كلّ نائب هي من كرامته.
في الجلسة المسائيّة، كسرت مفاوضات المحاصصة السياسيّة والطائفيّة التباعد الاجتماعيّ خوفا من انتشار الكورونا. كانت الساعة السادسة ولم تبدأ الجلسة بعد، ونوّاب تكتلّ “لبنان القوّي” مجتمعون وقوفا على مدخل قاعة الأونيسكو، ونوّاب حزب الله يقعدون بعضهم إلى جانب بعض دون مراعاة مسافة التباعد، وبرّي وسعد الحريري ورئيس الحكومة ما زالوا خارج القاعة. نائب رئيس المجلس إيلي الفرزلي يتحدّث مع طوني فرنجيّة، أمّا جميل السيّد فكان في حديث جانبي مع النائب فيصل كرامي.
دخل برّي إلى المسرح، ولم يبدأ الجلسة. بل ذهب عدوان لمحادثته ومن ثمّ تبعه النائب علي حسن خليل ومن بعده الفرزلي. بدأت الجلسة عند الساعة 6:18 تقريبا، ومع ذلك استمرّت المحادثات الجانبيّة، مع برّي تحديدا.
عند الوصول للقانون المنتظر، بدأت محادثات “الكواليس” تظهر علنا على مسرح الأونيسكو، فبدأ برّي: “ما حدا يقول آه، وما حدا يعنّ. وحدة هذا البلد تتجلّى في هذا المجلس. في آلاف المخارج لهذا الأمر. كلّ اللبنانيّين قاتلوا إسرائيل في 2006 وقبلها”. عوّل برّي على كلامه هذا، ليمرّ مشهد العفو بسلام على المسرح. وبعد التعديلات التي طلبتها وزيرة العدل، تمنّى برّي أن يتمّ التصويت على قانون العفو بمادّة واحدة حتّى “نلقّن درساً لكلّ الناس من دون استثناء إنّو نحنا فينا ناخد موقف موحّد”. حاول رئيس المجلس أن يعيد إحياء خطاب السلطة، الذي ألقاه نائبه الفرزلي في جلسة نيسان الماضية، ويضع السلطة السياسيّة الحالية في صفّ واحد في مواجهة الشعب. الإعتراض الأوّل الذي جاء، وتناول مسألة عودة العملاء هو من نائب الحزب السوري القومي الاجتماعيّ أسعد حردان الذي اعتبر أنّ هذا القانون يشعر اللبنانيّين بالإهانة. بعدما ضرب برّي القلم على الطاولة، لجأ إلى مفهوم الوحدة الوطنيّة مشدّدا على أنّها أهمّ أساليب المقاومة، وطلب من النوّاب: “أوعَ تنسوها بحياتكن”. واعتبر أنّ حركة أمل والحزب السوري القوميّ وحزب الله والجميع وقفوا في عام 2006 وكلّ ذلك في سبيل الوحدة الوطنيّة.
تدخّل النائب جميل السيّد ليتابع وضع محادثات “الكواليس” في قاعة الأونيسكو: “انلعبت القصّة على المكشوف بوجودك (موجها الكلام للفرزلي). ما في قطبة مخفيّة… خلّي الكلام على بساط أحمديّ”.واعتبر السيّد أنّ المفاجأة في التصويت هي “خداع” لعمليّة النقاش”. وبعد مداخلة لباسيل، أعرب فيها عن رفض فكرة العفو، ولكن عن قبول التصويت عليه لتفادي المشاكل، تجمّع كلّ من علي حسن خليل والفرزلي والسيّد وجورج عدوان حول برّي، فطلب الأخير تعليق الجلسة لعشر دقائق.
مرّت 25 دقيقة قبل أن يعود المجتمعون، الذين ذهبوا إلى خارج “المسرح”، إضافة إلى محمّد رعد والحريري وباسيل وميشال معوّض، بوجوه شاحبة، أظهرت فشل الأحاديث في الكواليس. وطلب برّي الذي بدا غاضبا، أن يترك القانون جانبا “بلكي بتنزل الرحمة بعد شوي”. انفرد علي حسن خليل بسعد الحريري، قبل أن يطلب الأخير من النائبة بهيّة الحريري أن ترافقه إلى الخارج، ثمّ تعود إلى الجلسة لتخرج وجميع نوّاب كتلة المستقبل، ومن بعدها نوّاب اللقاء التشاوريّ من الجلسة. كان برّي قد تابع مناقشة اقتراحي قانون، قبل أن يصعد علي حسن خليل خلال مناقشة البند 11 إلى المنصّة، ويخبر برّي بالأمر، فيمتعض الأخير ويختم الجلسة لخروج “المكوّن السنيّ”، دون أن يناقش 27 اقتراحا متبقّين.
تعديل قانون السرية المصرفية إثبات دامغ على غياب النية في مكافحة الفساد
أقرّ النوّاب اقتراح قانون رفع السريّة المصرفيّة. هذا في الشكل. أمّا فعليّا، فقد عدّل النوّاب الإقتراح في اتجاه أفرغه من جوهره. فهم ألغوا صلاحيّة القضاء برفع السريّة حاصرين إياها بهيئة التحقيق الخاصة (التي تتمتع بهذه الصلاحية منذ سنوات في كل ما يتصل بتبييض الأموال) والهيئة الوطنية لمكافحة الفساد التي لم تنشأ بعد، والتي يتحكم مجلس الوزراء في تعيين 4 من اعضائها الستة.
والحجّة هنا أنّ لا قضاء مستقلّ. كل الكتل تسعى في المجلس إلى مكافحة الفساد بحسب ما تعلن، مع التلميح أن الفساد يأتي من الكتل الأخرى. الجميع، في جلسة 28 أيّار، عبّر عن الحاجة إلى قضاء مستقلّ. وكأنّ المجلس ليس هو من يؤخّر وضع اقتراح استقلاليّة القضاء على طاولة الهيئة العامّة، وكأنّ الفرق السياسيّة الممثّلة في المجلس ليست هي المسيطرة على القضاء ضمن محاصصاتها، وهي المتحكّمة بقرارات معظمه.
اعتبر رئيس كتلة الكتائب سامي الجميل أنّ قانون استقلاليّة القضاء هو من أهمّ القوانين التي يجب التصويت عليها. واعتبر النائب ميشال معوّض أنّ رفع السرية المصرفيّة تبقى منقوصة دون قانون لاستقلاليّة القضاء. وفي السياق نفسه، قال نائب كتلة الوفاء للمقاومة حسن فضل الله إنّ التصويت على الاقتراح المتعلّق بالسريّة المصرفيّة، دون استقلاليّة القضاء، هو ليس تصويتا على رفع السريّة المصرفيّة كي لا يتمّ إيهام الناس بذلك، طالبا من المجلس الإستعجال في طرح قانون استقلاليّة القضاء.
أمّا برّي، والذي قال إنّه وزوجته وعائلتَه رفعوا السريّة المصرفيّة عنهم منذ ثمانية أشهر لدى كاتب بالعدل، فأثنى على كلام فضل الله: “استقلاليّة القضاء بتخلّيك تأمّن كلّ شي”. وفي تعليق آخر أضاف برّي: “بلبنان في قضاة، بتقلي فش قضاء بشكل عام؟ بقلّك إيه”، وكان ذلك ردّا على مداخلة النائب جميل السيّد الذي اعتبر أنّ بعض القضاة يقومون ب”بهدلة الناس”، معتبرا أنّ ما تقوم به النيابة العامّة التمييزيّة هو “إجرام”. أمّا نائب كتلة المستقبل طارق المرعبي، فاعتبر أنّ القضاء يشوّه سمعة بعض الناس من القطاع الخاصّ أو سمعة العائلة حين يستدعي أحد أفرادها في حين أنّه “لا يؤذي أحدا”.
كرّر نائب كتلة التنمية والتحرير أنور الخليل ما قاله برّي عن القضاء: “عنّا قضاة محترمين، ولكن القضاء لا يزال موضوع شكّ”. وكانت هذه الحجّة وراء طلب شطب صلاحيّة القضاء برفع السريّة المصرفيّة. أمّا النائب، وائل أبو فاعور فحمّل الحكومة مسؤولية استقلاليّة القضاء، موجّها أسئلته “الساذجة والبريئة”، بحسب ما وصفها، عن مسألة التشكيلات القضائيّة وحملة التطهير القضائيّ، وكأنّ الحلّ لهما هو بقرار من وزارة العدل فقط.
اعتبر نائب تكتلّ “لبنان القوّي” ابراهيم كنعان أنّ العبرة هي بتنفيذ القوانين وليس بالتصويت عليها، مشيرا إلى أنّ التصويت على استقلاليّة القضاء لن يضمن تحقيقه، ما لم تطبقه القوى السياسيّة.
إذا، أسقطت حجّة القضاء غير المستقلّ رفع السريّة المصرفيّة. والجدير ذكره هو رفض إضافة رفع السريّة المصرفيّة عن إدارات المصارف، والذي طالبت به النائبة بوليت يعقوبيان.
وهكذا، ضاعت استقلاليّة القضاء، وكذلك رفع السريّة المصرفيّة، في مداخلات أجمعت فيها القوى السياسيّة كلّها على رأي واحد.
المجلس يتخوّف من توطين اللاجئين…ويحمّلهم مسؤولية العجز الاقتصاديّ
أسقط المجلس النيابيّ مشروع القانون الرامي إلى انضمام لبنان إلى المنظّمة الدوليّة للهجرة. وكان الهاجس الأساسيّ عند غالبية الكتل هو تسهيل الإندماج وتوطين المهاجرين، وهو ما ذكر في دستور تلك المنظّمة. رفض نواب تكتلّ لبنان القويّ الإنضمام إلى المنظّمة “جملة وتفصيلا” خوفا من توطين اللاجئين وخوفا من تحميل لبنان أعباء ماليّة إضافيّة. عبّر عن ذلك نائب التكتل حكمت ديب. أمّا جبران باسيل فلجأ إلى الدستور معتبرا توطين أيّ لاجىء يتعارض مع مقدّمة الدستور اللبنانيّ.
النائب جميل السيّد اعتبر أنّ النزوح السوريّ في لبنان هو المسؤول عن ثلث العجز في الميزان التجاريّ، عدا عن تعدّيه على ثلث اليد العاملة والتنافس فضلا عن التحويلات الماليّة. في الاتجاه نفسه، ذهب نائب كتلة اللقاء الديمقراطيّ بلال عبدالله بحيث اعتبر أنّ مسألة رفض توطين السوريّين وانعكاسات نزوحهم على لبنان هي مسألة تلقى إجماعا وطنيّا. هنا أيضا، عند قضية اللاجئين، يصبح الإجماع وطنيّا فقط.
أمّا نائب الكتلة نفسها مروان حماده، فاعتبر أنّ توطين الفلسطينيّين، قبل السوريّين، ما زال خطرا قائما في لبنان، وتمنّى حلا سلميّا في سوريا كي يعود النازحون إلى بلادهم.