انعقدت أمس الجمعة 5 تموز أمام المحكمة العسكرية في بيروت جلسة المحاكمة الخامسة في قضيّة مقتل المواطن السوري بشار السعود تحت التعذيب أثناء التحقيق معه على يد عناصر من مركز أمن الدولة في تبنين في 30/8/2022. ومثل أمام المحكمة التي ترأسها العميد خليل جابر، المدّعى عليهم الخمسة من عناصر أمن الدولة المخلى سبيلهم، برفقة وكلائهم الخمسة، بعد أن كانت الجلسات الثلاث السابقة قد أُرجئت بسبب غياب أحد وكلاء الدفاع، وبحضور ممثل النيابة العامّة العسكرية، معاون مفوّض الحكومة القاضي رولان الشرتوني. كما راقب الجلسة كلّ من الوكيل السابق لعائلة السعود المحامي محمد صبلوح ومنظمات حقوقية وصحافيون، كونها المحاكمة الأولى لمتّهمين بالتعذيب بناء لقانون معاقبة التعذيب رقم 65/2017.
وقد خصصت هذه الجلسة للاستماع إلى إفادة الطبيبين الشرعيين اللذين وضعا تقريريْهما حول وفاة السعود، الذي اتخذ أحيانًا طابع الاستجواب، كما استكملت المحكمة استجواب المتهمين. وفيما أكّد الطبيبان أنّ وفاة السعود ناجمة عن الضرب، برز خلال الجلسة توّجه من قبل رئيس المحكمة ووكلاء الدفاع للبحث عن أسباب أخرى لتبرير الوفاة، وتاليًا للتخفيف من مسؤولية عناصر الأمن الدولة في التسبّب بالوفاة تحت التعذيب، فيما حرص ممثل النيابة العامّة على الدفاع عن الحقّ العام بجديّة بعد أن أسقط ورثة الضحية حقوقهم الشخصية تجاه المتهمين. وقد أُرجئت الجلسة إلى 11/10/2024 لسماع مرافعات وكلاء الدفاع.
وفي تذكير مقتضب بالقضيّة، أصدرت قاضية التحقيق لدى المحكمة العسكرية نجاة أبو شقرا في 29 تشرين الثاني 2022 قرارًا اتهاميًا اتهمت فيه بارتكاب جناية التعذيب الذي أفضى إلى الوفاة، النقيب المسؤول عن المركز، حمزة إبراهيم (ابن رئيس المحكمة العسكرية الأسبق خليل إبراهيم) وثلاثة عناصر، هم المعاونون يوسف برّي وعباس خزعل وفادي فقيه، وظنّت بعنصر رابع هو الرقيب أوّل خضر زين الدين، بارتكاب جنحة التعذيب. وقد علّقت “المفكرة القانونية” على القرار الاتهامي الذي قدّم رواية مفصّلة حول التعذيب، إلّا أنّه في المقابل أعلن صلاحية المحكمة العسكرية للنظر في هذه القضية. وكانت جلسة المحاكمة السابقة التي انعقدت في تاريخ 19 نيسان 2024 قد أُرجئت بسبب غياب وكيل المعاون خزعل، كما أُرجئت الجلسة التي انعقدت في 17 تشرين الثاني 2023 بسبب غياب وكيل المعاون برّي، وكذلك أُرجئت للسبب نفسه الجلسة السابقة التي انعقدت في تاريخ 5 أيّار 2023.
الجلسة الأولى بعد إسقاط الحقوق الشخصية
افتُتحت الجلسة عند الرابعة والنصف من بعد ظهر أمس، بعد تلاوة الادعاءات بحقّ المدّعى عليهم الخمسة. وقد بدا واضحًا الارتياح على وجه النقيب حمزة طوال اليوم، حيث أجلسه العناصر بين المحامين في زاوية الصفّ الأوّل، من دون أن يرتدي الشارة المخصّصة للمدعى عليهم كسائر المدعى عليهم الموجودين في الأماكن المخصصة لهم، وهو ما فتئ يدخل ويخرج من قاعة المحكمة حينما شاء، مقارنة بالمدعى عليهم الآخرين الذين بالكاد سمح لهم مغادرة القاعة لاستخدام الحمام طوال مدّة الجلسات التي امتدت من التاسعة صباحًا حتى الخامسة بعد الظهر. وقد أمضى الطبيبان الشرعيان الشاهدان اليوم بأكمله خارج قاعة المحكمة بانتظار موعد الجلسة.
هذا وقد كانت الكلمة الأولى بعد افتتاح الجلسة لوكيل النقيب إبراهيم المحامي صليبا الحاج، الذي طلب ضمّ إسقاط ورثة بشار السعود لحقوقهم الشخصية إلى الملف. وفي هذا الإطار، أثار معاون مفوّض الحكومة القاضي رولان الشرتوني، إشكالية قانونيّة تتمثلّ في كون أولاد الضحية، وهم جزء من ورثته، قصّرًا، مما يعني ضرورة موافقة المحكمة الشرعيّة المسبقة على تعيين الجدّ كوصيّ قانونيّ عليهم ليتمكن من إسقاط الحقّ نيابة عنهم. وانتقلت المحكمة بعد ذلك للاستماع إلى شهادة الطبيب الشرعي.
الطبيب الشرعي: الوفاة ناجمة عن الضرب
حضر وللمّرة الأولى أمام المحكمة العسكريّة في هذه القضية، الطبيب الشرعي في محافظة النبيطة غالب حسن صالح، علماً أنّ الجلسة الأولى من المحاكمة التي انعقدت في 2022/12/20 كانت قد أرجئت للاستماع إلى إفادته.
وكان تقرير الطبيب صالح الصادر في تاريخ 2/9/2022 الذي عاين جثة السعود في مستشفى تبنين الحكومي في يوم وفاته، الذي اطّلعت عليه “المفكرة”، تثّبت من وجود “ازرقاق، واحمرار وتورّم شديد في الرأس من جهة الأذن اليسرى، الفتق، وجرح نازف في الشفة السفلى من الجهة اليمنى، بقايا دم في فتحتي الأنف، علامات تكدّم في الجبين، علامات حروق في عدة أنحاء من الجسد، علامات كثيرة تدل على استعمال سوط أو سلك كهربائي في الأطراف العليا، الظهر والصدر والبطن والأطراف السفلى من جميع نواحيها حتى القدمين، علامات تكدّم وتورّم في الخصيتين”. كما أفاد التقرير أنّه تم سحب عيّنتين من البول والدم وتم تسليمها باليد إلى عناصر الأدلة الجنائية، واستنتج أنّ “الوفاة نجمت عن النهي العصبي المركزي بنتيجة آلام شديدة ومعاناة أصابته بعد تعرّضه للعنف والضرب المبرح ما أدى في نهاية الأمر إلى توقف في عمل القلب والدورة الدموية”.
وبعد أن أدلى الطبيب بيمين الشاهد، وبعد سؤال رئيس المحكمة العميد جابر له عن تاريخ كشفه على الجثة ووضعه تقريره، بدأ الطبيب شرحه متلعثمًا حيث ظهر عليه بعض التوّتر. وأفاد أنه كشف على الجثة في تاريخ 31/8/2022، وأنه وضع تقريرًا مفصّلًا حول حال الجثة وأسباب الوفاة، ليقاطعه الرئيس فورًا سائلًا عن سبب الوفاة من دون إطالة. فكان جواب الطبيب واضحًا “إنّ الوفاة نجمت عن النهي العصبي تبعًا لمعاناة وآلام شديدة نتيجة الضرب المبرح”، ليشرح بعد ذلك علميًا ماهيّة “النهي العصبي”.
البحث عن أسباب أخرى للوفاة
عندئذ، ظهر توّجه لدى الرئيس ووكلاء الدفاع للبحث عن أسباب خارجة عن التعذيب لتبرير وفاة السعود. فطرح العميد جابر سؤاله التالي، “في حالات نعيشها في المجتمع، يتعرَض فيها الشخص للضرب أكثر من ذلك، فلماذا هؤلاء لا يموتون؟” ليجيبه الطبيب أنّ هذا الأمر يختلف بين شخص وآخر بحسب بنيته ووضعه الصحيّ والعوامل المحيطة بالضرب الذي تعرّض له. فتابع جابر سائلًا ما إذا “عندو (أي لديه – من دون أن يشير لبشار باسمه أو على أنّه ضحيّة) عوامل ثانية قد تؤدي للموت؟” ليؤكدّ الطبيب استحالة معرفة ما إذا كانت الضحية تعاني من مشاكل صحيّة سابقة أو من إدمان على المخدرات. هذا وقد عاد الطبيب ليؤكدّ ما ورد في تقريره لناحية تعرّض الضحية للضرب بسوط أو سلك كهربائي وأنّ الضرب المبرح بهذه الطريقة يؤدي للموت في حال وجود عوامل أخرى أو غيابها، بالرغم من غياب الكسور في الرقبة. وقد طرح ممثل النيابة العامّة الشرتوني سؤالًا حول مدى اطّلاع الطبيب الشرعي على الملف الطبيّ للضحية في المركز، وإنْ تمّ إبلاغه عند كشفه على الجثة بأنّ بشار يأخذ دواء أو يعاني من مشاكل صحيّة، فكان جواب الطبيب بالنفي الكامل.
وقد اتخذ الاستماع إلى الطبيب الشاهد طابعًا أقرب إلى الاستجواب، تبعًا لسؤال أحد وكلاء الدفاع حول مدّة الثلاثة أيام ما بين الكشف على الجثة وصدور التقرير الطبّي، كون الطبيب يأخذ صورًا للجثة ويدوّن ملاحظات عند الكشف. فسارع الرئيس جابر الى التأكيد على هذا السؤال. وفي ثوانٍ، انهال وكيل الدفاع والرئيس على الطبيب الشرعي بالأسئلة حول هذه المدّة لإصدار تقرير “كلّو على بعضو صفحة” بحسب وصف جابر، وذلك في ما ظهر كمحاولة للانتقاص من مهنية الطبيب. فشرح الأخير أنّه يحتاج عادة للوقت من أجل إنهاء تقريره. بعد ذلك، سأل وكيل الدفاع حول غياب الكسور أو النزيف في ظلّ تعرّض بشار لضرب مبرح، فجزم الطبيب أنّ الكدمات على الجثة تدّل بشكلّ واضح على عنف مفرط وضرب مبرح، وأنّه، وبحسب العديد من المراجع الطبيّة، يمكن ألّا تعكس الصور الشعاعية النزيف والكسور، وقد كان من الممكن أن يتبيّن ذلك من خلال تشريحٍ للجثة.
“إذا الكدمات زرقاء يعني قديمة خلص”
وإذ فشلت المحاولة الأولى في البحث عن عوامل أخرى لتبرير الوفاة (كالأمراض السابقة أو تعاطي المخدرات)، سأل الرئيس عن إمكانية حصول الكدمات نتيجة “السرعة في نقل الجثة”، ليؤكدّ أنّ العناصر هرعت بالجثة إلى المستشفى ما يمكن أن يكون أدّى إلى كدمات عند “رميه من ميلة لميلة هنّي وناقلينو”، من دون أن يتبيّن السند لهذه الواقعة التي لم تبرز في القرار الاتهامي. فأجاب الطبيب بعدم إمكانية تحديد سبب الكدمات أو وقت حصولها بالتحديد، عدا عن عدم حصوله على نتائج الفحوصات المخبرية التي أجراها للضحية. وهذا ما دفع بالرئيس إلى الاستهجان حيال هذا الجواب، مستغربًا عدم قدرة الطبيب على معرفة وقت حصول الكدمات بالتحديد، ووصل به الأمر أن تساءل عمّا إذا كانت الفترة ما بين الوفاة والكشف على الجثة تؤدي إلى “المبالغة بالكدمات” (قاصدًا أنّها تصبح بارزة أكثر). وهو ما أكّد عليه أيضًا أحد وكلاء الدفاع سائلًا الطبيب عن معرفته بوقت تعرّض الضحية للضرب، ليجيب الطبيب بالنفي رغم تأكيده أنّه وعند الكشف على الجثة كانت الكدمات حديثة.
وهنا، أدلى العميد جابر بملاحظة مقلقة إذ جزم بما حرفيته “بشار كان موقوفًا لوقت طويل جدًا، ولا يمكن أن نحدّد الوقت الأكيد لتعرّضه للضرب، أيّ أنّنا لا يمكن أن نحمّل المسؤولية فقط للعناصر الموجودة أمامنا، من الممكن أنّه تعرّض للضرب قبل وصوله إلى فصيلة تبنين”، وهو ما قد يستشف منه توّجه للتخفيف من مسؤولية العناصر المتهمين بالتعذيب أو أخطر من ذلك لتجهيل الفاعل. واللافت هنا أنّ بشار لم يمكن “موقوفًا لوقت طويل” وفقًا للقرار الاتهامي، فقد اقتادته اللجنة الأمنية في مخيم شاتيلا ليل الثلاثاء في 30/8/2022 عند الساعة 20:30، وسلّمته إلى القوّة الضاربة في جهاز أمن الدولة بناء لطلبها التي نقلته بدورها إلى قسم التحقيق في تبنين، حيث تمّ استلامه عند الساعة 4:40 فجرًا، ليُسلّم بعدها إلى مستشفى تبنين جثّة هامدة عند الساعة 7:05 صباحًا أي بعد أقل من 12 ساعة من توقيفه.
وقد تدخّل ممثل النيابة العامة في هذا النقاش ليسأل عن لون الكدمات، فأفاد الطبيب أنّها كانت متداخلة، وأنّ ألوانها تدلّ على أنّ جميعها كانت حديثة الحصول قبيل الوفاة. وقد انتهت شهادة الطبيب الشرعي الأولى بتصريح الرئيس أنّه “إذا الكدمات زرقاء يعني قديمة خلص”.
هذا ويجدر التذكير أنّ وكيل الضحية المحامي محمد صبلوح، حاول مرارًا تقديم أدلّة حول هذه المسألة للمحكمة في الجلسات السابقة، تبعًا لطلب رئيس المحكمة السابق العميد روجيه الحلو، وقد رفضت المحكمة والنيابة العامّة استلامها منه. وبحسب صبلوح، فإنّ أحد هذه الأدلة هو “قرص مدمج يحتوي فيديو مصوّرًا لجثمان بشّار تظهر فيه آثار التعذيب على كامل جسده وبوضوح ومن بينها كسر في رقبة بشّار”. وقد لفت صبلوح إلى أنّ هذا الفيديو بمثابة دليل يدحض ادّعاء الضابط في أمن الدولة بأنّه تمّ ضرب السعود بشريط شارج الهاتف وأنّ الوفاة ناتجة عن وعكة صحيّة نتيجة تعاطي بشّار لمخدر الكابتاغون، فيما الفحوصات المخبرية أكدت أنّ السعود لم يتعاط أي نوع من المخدرات”.
شهد أمام المحكمة أيضًا، الطبيب الشرعي علي حسن ديب الذي كشف على الجثة بعد 52 ساعة من الوفاة بناء على طلب أمن الدولة وفيديو أُرسل إليه، وانتهى تقريره وفقًا للقرار الاتهامي إلى أنّه “لا يمكن تفسير وفاة بشار بوقت قصير مع كل هذه العوارض إلّا باستعمال قوّة مفرطة أدت إلى الوفاة”. وقد شرح الطبيب أنّ مهمته اقتصرت على التحقق من وجود كسر أم لا في العنق، وأكّد في هذا المجال عدم وجود أيّ كسور. كما أجاب ردًا على سؤاله عن الكدمات، بأنّه كشف على الجثة وأنّ الكدمات تعكس ممارسة عنف مفرط على جسد الضحية، إلّا أنّه من غير الممكن معرفة وقت حصولها.
“هل كان على الموقوف بشار كدمات عند استلامه؟”
لعبت النيابة العامّة ممثلة بالقاضي رولان الشرتوني دورها في الدفاع عن الحقّ العام بشكل جدّي في جلسة الأمس. فبعد أن اعترضت على صحّة التنازل عن الحقّ من ورثة بشار وبالأخصّ من أولاده من دون موافقة المحكمة الشرعيّة كما جرى بيانه أعلاه، أصرّ القاضي الشرتوني على التأكد من رتب أعضاء هيئة المحكمة الضباط القضاة من أمن الدولة، كونهم لا يجوز أن يكونوا أصغر رتبة من النقيب.
وبعد ذلك، توجهّت النيابة بسؤال محوريّ للنقيب المتهم حول مدى إبلاغه النيابة العامّة بعلامات الكدمات الظاهرة على بشار، إن وجدت، عند وصوله إلى قسم التحقيق في تبنين. وقد أشار الشرتوني في هذا المجال إلى أنّ النيابة العامّة إذا حوّلت موقوفًا إلى أيّ فصيلة أو مركز أو قسم أو مخفر، لا يقبل العناصر تسلّمه إذا كان عليه آثار ضرب أو كدمات، ويبلّغون النيابة العامّة فورًا. وبعد أن استرسل النقيب بجوابٍ مفاده وصول الموقوف الساعة 5:30 صباحًا (4:40 بحسب القرار الاتهامي)، وأنّ بشار كان “مطمّش” (أيّ معصوب العينين)، وأنّه استلم منصبه كرئيس القسم حديثًا بعد أن تقاعد الضابط السابق، وغيرها من المعطيات العشوائية، شكره القاضي الشرتوني على جوابه “يلي ما خصّو بالسؤال” (أي لا علاقة له بالسؤال)، مكررًا سؤاله الأساسي “هل كان على الموقوف بشار كدمات عند استلامه؟”. فكرر النقيب أقواله لناحية أنّ الساعة كانت متأخرة وأنّه لم يستطع أن يرى أو يتحقق من ذلك. هذا مع العلم أنّ النقيب أكّد في جلسة الاستجواب الأولى استلامه الموقوف “من دون وجود علامات تعذيب على جسده”.
الاستشهاد بـ “اعترافات” الضحية تحت التعذيب
بعد ذلك، عاد العميد جابر ليكرر الأسئلة التي طرحها رئيس المحكمة السابق العميد حلو على النقيب إبراهيم فيما يتعلّق بمباشرة التحقيق والتأكد من هوية بشار وغياب غرفة تحقيق مهيّأة. إلّا أنّ اللافت كان حضور النقيب إبراهيم ومعه ظرف يحتوي على ما وصفه بـ “اعترافات بشار” التي تسلّمها عند وصول الأخير إلى مخفر تبنين. فتلا النقيب بناء على طلب الرئيس، سلسلة من اعترافات منسوبة لبشّار ومتعلّقة بالإرهاب ومبايعة تنظيم الدولة الإسلامية وتهريب السلاح وحول تجنيده وتدريبه، عدا عن تعاطيه المخدرات، من دون أن يحدّد النقيب الجهة التي حصلت أمامها هذه الاعترافات المزعومة أو مصدر المستند الذي قرأ منه.
وأكثر من ذلك، يتعارض الاستناد إلى أقوال واعترافات بشار من قبل المحكمة مع قانون معاقبة التعذيب 65/2017 والمادة 10 من قانون أصول المحاكمات الجزائية واتفاقية الأمم المتحدة لمناهضة التعذيب، كما ومع القرار الاتهامي الذي أصدرته قاضية التحقيق العسكري نجاة أبو شقرا لناحية منع التذّرع بمقتضيات الأمن لتبرير التعذيب، ولناحية بطلان جميع الأقوال التي تمّ الإدلاء بها نتيجة التعذيب في أيّة إجراءات. فقد خلُصت تحقيقات أبو شقرا إلى عدم إيجاد أي أدلّة على تورّط بشّار وعدد من الشبّان السوريين الذين تمّ التحقيق معهم في تبنين بشبهة تعاطي المخدرات والانتماء إلى تنظيم داعش، بأيّة أعمال إرهابية، وإلى انتزاع أقوالهم الأوّلية من قبل أمن الدولة تحت التعذيب، وقررت منع المحاكمة عنهم. وكانت النيابة العامّة العسكرية قد طعنت في هذا القرار الاتهامي، إلّا أنّ محكمة التمييز صادقت عليه في 1 حزيران 2023 بعد أن تثبّتت أنّ أقوال الموقوفين الآخرين قد انتزعت منهم تحت التعذيب. وقد شكّل حينها هذا القرار الأوّل الصادر عن محكمة التمييز يتمّ رصده ويقضي بإبطال إفادة أوّلية تمّ الإدلاء بها تحت التعذيب منذ إقرار قانون معاقبة التعذيب، ممّا قد يسهم في تعزيز التزام القضاءَين العدلي والعسكري بهذا الموجب القانوني. وتجدر الإشارة إلى أنّ المحكمة العسكرية لم تتطرق خلال جلساتها إلى تعذيب الموقوفين الآخرين رغم ثبوت هذا الأمر في القرار الاتهامي.
ورغم ذلك، لم يعترض أي من أعضاء المحكمة أو ممثل النيابة العامّة على الإدلاء بهذا الدليل خلال المحاكمة، بل جاء الإدلاء به بناء على طلب رئيس المحكمة. عند انتهاء النقيب من قراءة “اعترافات بشار”، اكتفى العميد جابر في المقابل بالقول: “إذا الزلمي إرهابي ما بيعني ما بيخضع للقوانين”، بما معناه أنّ الإرهاب لا يبرر التعذيب. واستكمل استجوابه للنقيب حول الضرب الذي تعرّض له بشار، ليتذرّع الأخير تمامًا كما حصل في جلسة الاستجواب الأولى، أنّ ضرب الموقوف كان ردّة فعل على عدائيّة بشار في أكثر من موقف، وحصول مشاجرتين بينه وبين المعاون برّي. هذا وقد عاد النقيب وكرّر أنّه أومأ إلى برّي بعينيه ليتوقّف عن ضربه، وأنّه لم يوقفه صراحة عن الضرب كي لا “يفقده هيبته أمام الموقوف وأمام زملائه الأقلّ منه رتبة”.
“كلّ هيدا بس من شريط شارج تليفون؟”
بعد ذلك، وجّه الرئيس إلى العناصر المدّعى عليهم الثلاثة فقيه وخزعل وزين الدين أسئلة شبيهة للأسئلة التي طرحت عليهم في جلسة الاستجواب الأولى، واقتصرت حول تثبيتهم للموقوف ورؤيتهم لبرّي عند حصول المشاجرة. من ثمّ، استدعى الرئيس المتهم المعاون برّي إلى المنصة، وهو المتهم الذي لم يتم إخلاء سبيله إلّا بعد إسقاط ورثة السعود لحقوقهم الشخصية، فيما كانت المحكمة قد أخلت سبيل المتهمين الآخرين سابقًا. فنكر برّي ضربه لبشار من تلقاء نفسه، متذرعًا بأنّ الأمر كان ردّة فعل بعد تهجّم بشار عليه وشتمه، وأنّ النقيب أومأ له بالتوقف حينذاك. وقد أكّد أنه لم يضربه إلّا بشريط الشاحن الذي سلّمه إلى المحكمة، وأنّه ركله على قدميه فقط، فسأله الرئيس بتهكّم “كلّ هيدا بس من شريط شارج تليفون؟”.
وقد وجّه ممثل النيابة العامّة القاضي الشرتوني سؤلًا لبرّي حول كيفية معرفته بوفاة بشار، ليجيب بأنّه علم بذلك عند حضور الصليب الأحمر إلى قسم التحقيق. والافت أنّه وعند سؤال النيابة العامّة عن سبب حضور الصليب الأحمر، أجاب برّي أنّه هو من اتصل بهم بعد أن غاب بشار عن الوعي، ما قد يشكّل تناقضًا مع جوابه الأوّل، الأمر الذي لم يتمّ استيضاحه من قبل المحكمة أو النيابة.