العدوان على تفاحتا “الصغيرة”: نحو 43 شهيدًا بينهم 8 أطفال


2024-10-31    |   

العدوان على تفاحتا “الصغيرة”: نحو 43 شهيدًا بينهم 8 أطفال
منزل الأستاذ أحمد عزّ الدين الذي سقط فيه 19 شهيدًا

ليس سهلًا عليّ أن أكتب عن الموت في قريتي تفاحتا، القرية الصغيرة التي اختبرت فيها للمرّة الأولى رائحة التراب الممتزجة برائحة زهر الليمون. ليس سهلًا أن أسمع أنين جراح أهلي وأكتب قصص استشهادهم.

حين بدأت الكتابة، وكتبت اسم قريتي، شعرت برعشات في قلبي، وسمعت دقّاته، كانت أعلى من جدار الصوت وأعلى من صوت الغارات التي شُنّت على تفاحتا. قريتي التي هي اليوم شبه مهجورة من ساكنيها، مطفأة، بعد مجازر ارتكبها العدو فيها: آخرها في 27 تشرين الأوّل حين سقط 19 شهيدًا من عائلة واحدة هي عائلة الأستاذ أحمد عزّ الدين.  

ماذا أكتب عن قريتي تفاحتا وهي الآن صامتة في حرمة الموت، سابحة في نهر  دماء أبنائها وأشلائهم وفي عتمة سوادها؟ ماذا أكتب عنها أنا التي عرفتها وعرفت طرقاتها ووديانها وينابيعها ومسجدها وحسينيّتها وترابها وتينها وزيتونها وليمونها وورودها وأهلها وصور الشهداء، شهداءها؟

سأكتب عن تفاحتا ولكن قبل ذلك سأعرّج على منزل عائلتي الذي بناه والدي في عام 1974، أي قبل عام من حرب الـ 1975، وكان ملجأنا الوحيد خلال تهجيرنا الأوّل من بيروت أثناء الحرب اللبنانية. ومن تلك الأيام، وعبر السور الذي يحيط بالمنزل سأخرج بشريط ذكريات طافحة بأحياء الضيعة وأزقّتها الضيّقة ودكاكينها الصغيرة وحكايا كبارها، وصداقاتي فيها ومراهقتي والأسرار الصغيرة التي خبأتها وراء صخورها وحجارتها وعلى بلاط “عين بدادا” و”عين الضيعة”. أتذكر ضحكاتي ودموعي ورائحة أمي ووجه أبي، وضريح أخي الشهيد المقاوم عادل بعد استرجاع جثمانه في العام 1998 بعد أن احتجزه الاحتلال الإسرائيلي، شهيدًا لمدة 12 عامًا. 

اليوم تشعر تفاحتا وأشعر مثلها ومثل كلّ أهلها أكثر من أي وقت مضى، باليتم والثكل والترمّل والجرح الجسدي والجراح النفسية، وقد باتت الآن قرية مهجورة من أهلها، أو الأصحّ تمّ تهجير أهلها قسرًا، وهي الآن مطفأة بشكل كامل، بعد أن تعرّضت للقصف، وأصيبت في منازلها وناسها الذين وصل تعداد الشهداء منهم ووفق  الأهالي الذين  تواصلنا معهم، إلى حوالي 43 منذ بدء الحرب في 8 تشرين الأوّل 2023 بينهم نساء و8 أطفال: محمد علي كنج وحيد والديه والتوأم محمد وسارة علي كنيار وأحمد علي عزّ الدين وشقيقته ملاك ومحمد حسن أبوريّا وشقيقتيه غنى ونور. ومن بين الشهداء 38، أحصتهم “المفكرة” منذ 23 أيلول الماضي، إضافة إلى عدد من الجرحى. وهذا ثمن باهظ من الشهداء تدفعه قريتي الصغيرة التي لا تتجاوز مساحتها 7 كيلومترات مربّعة وعدد سكانها 7 آلاف.  

مأساة عائلات السيّد صالح وعزّ الدين وأبو ريّا

منذ بدء توسّع الاعتداءات الإسرائيلية على جنوب لبنان في 23 أيلول، تعرّضت تفاحتا لعدد كبير من الغارات، لم يتمكّن أحد من أهالي القرية من إحصاء عددها، ولكن ما أمكن الأهالي إحصاءه كان الغارات التي استهدفت منازل مأهولة بالعائلات والتي أدّت إلى وقوع عدد من المجازر. 

أوّلها كانت في 23 أيلول، في منطقة “العريش” في باحة تتوسّط منزلين متجاورين الأوّل منزل السيّد محمد صالح عارف والثاني منزل علي كنج، وأدّت إلى استشهاد السيّد عارف وزوجته وابنه حسين وابنته حوراء وشقيقه علي الهادي، والشيخ علي حسن أبوريّا،  وعلي كنج وابنه محمد (10 سنوات) وحسن العسكري، وعلي رضا وكلثوم جبري.

وفي اليوم نفسه، طاردت مسيّرة إسرائيلية الشابّين علي عباس ومحمد باقر أبو ريّا (17 عامًا) كانا يتنقّلان على درّاجة نارية وأطلقت عليهما صاروخًا ما أدى إلى استشهادهما سويًّا في حي “ضهر الصيداني”. 

شهداء 23 أيلول في تفاحتا

وفي اليوم التالي، في 24 أيلول، أغار الطيران الإسرائيلي على منزل هشام جابر في حي “الضهور” واستشهدت ردينة محمود عبيد (22 عامًا) بعد إصابتها بشظايا في داخل منزلها المجاور للمنزل المستهدف. 

في 22 تشرين الأوّل، أغار الطيران الإسرائيلي بأكثر من صاروخ على منزل عائلة الأستاذ أحمد عزّ الدين كما يناديه كلّ أهالي القرية وكلّ عارفيه، لتاريخه الطويل في التعليم في المدرسة الرسمية في القرية لأكثر من 40 عامًا. وبلغ عدد الشهداء من العائلة، 19 شهيدًا وشهيدة.

قضت تلك الغارة على ثلاثة أجيال من العائلة: الجدّ والجدّة والأبناء والأحفاد، معظم الشهداء هم من النساء والأطفال. استشهد أستاذ القرية أحمد عزّ الدين وزوجته وأولاده علي وملاك وفاطمة وهداية وأولادهم أي  أحفاده، وصهره إبراهيم ياسين، والشيخ عبده أبوريّا إمام جامع تفاحتا، وربيع علي يونس. 

يقول الصحافي خليل الحاج علي، وهو أحد أبناء القرية لـ “المفكرة” إنّ “الأستاذ أحمد بقي حتى آخر لحظة من حياته يقوم بمهمّة رثاء الأشخاص المتوفّين، وفي كلّ حفل تأبيني كانت له كلمة تختصر حياة الفقيد ومزاياه. ويرثيه بطريقة بسيطة لكن كثيفة. وبعد العدوان الإسرائيلي، وتوقّف إقامة مجالس العزاء وحفلات التأبين، بقي الأستاذ أحمد يكتب الرثاء على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي”.

ويضيف الحاج علي: “حين تمّ استهداف خضر عز الدين وهو شقيق زوجته، لم يُقم الأستاذ أحمد له مراسم عزاء، وكتب له رثاء على صفحته على فيسبوك، وبعد دفنه في حضور أفراد العائلة فقط، عاد الأستاذ أحمد إلى منزله واجتمعت العائلة في أحد طوابق المنزل الثلاثة. وكلّ ما حكي عن إقامة مجلس عزاء عار عن الصحة، وحضور الشيخ عبدو أبوريّا الذي استشهد في الغارة أيضًا كان لتقديم واجب العزاء فقط. ولم يكن هناك مجلس عزاء أو معزّين آخرين”. 

ويروي الحاج علي أنّ “لعائلة الأستاذ أحمد مكانة كبيرة بين أهالي القرية. بيتهم بيت خير وعلم وأخلاق. ابنته ملاك أستاذة في الأدب العربي وابنته هداية أيضًا معلّمة لغة إنكليزية”. 

ويؤكّد عدد من أهالي تفاحتا لـ “المفكرة” أنّ أحمد عز الدين والشيخ عبدو أبوريّا لم يتركا القرية أبدًا، وكان الشيخ عبدو يقدّم المساعدات للسكان الصامدين فيها، ويسأل عن أحوالهم. وعائلة الأستاذ أحمد لم تترك الضيعة ولا يومًا واحدًا، واستشهدوا جميعًا ولم يبق منهم من يخبرنا ما حصل في اللحظات الأخيرة.

الأستاذ أحمد عزّ الدين

27 تشرين الأوّل، كانت آخر المجازر في تفاحتا حين استهدفت غارة منزل المزارع حسن أبوريّا، المؤلّف من طابقين، وقد سوّي بالأرض. استشهد أبوريّا وزوجته رقيّة وأولادهما: محمد (15 عامًا)، غنى (13 عامًا) ونور (10 أعوام). والشهيد حسن أبوريّا كان يعمل على بوكلين وجرّافة زراعية. وكان قد نزح مع عائلته في 23 أيلول إلى طرابلس على إثر المجزرة الأولى التي ارتكبتها إسرائيل في تفاحتا في 23 أيلول. ابتعد بعائلته إلى طرابلس في أقاصي الشمال لتكون بأمان، إلّا أنّه لم يستطع الابتعاد عن منزله أكثر وفضّل العودة إليه على تحمّل ظروف النزوح القاسية. وبالفعل عاد قبل يومين من استهداف منزله، ليستشهد مع كلّ عائلته في القرية التي أحبها وعاش فيها كل سنوات عمره.

عائلة أبوريّا الشهيدة

الاحتلال يهجّر أهالي تفاحتا: “نشعر باليتم”

لم يستطع أهالي تفاحتا الباقون في القرية تحمّل كل هذا الموت من حولهم، فأصيبوا بالقلق لأنّ الغارات كانت تستهدف المدنيين والعائلات، وهو ما جعل معظمهم ينزحون إلى مناطق أكثر “أمانًا”. وعلمت “المفكرة” من أحد الصامدين في القرية، أنّه لم يتبقّ إلّا عدد قليل من العائلات لا يتجاوز العشرة.

“إنّنا اليوم لا نزال نعيش تحت  الصدمة، بعد فترة سيبدأ تأثيرها بالتلاشي، حينها سنصدّق كلّ ما حدث”، يقول الناظر في مدرسة تفاحتا الرسمية كمال زبيب في اتصال مع “المفكرة”. 

ويضيف: “غدًا، لدى عودتنا إلى حياتنا بعد وقف العدوان، سنفتقد في المدارس للطلاب والطالبات الشهداء، لبسمتهن وطلّتهم. وفي الحسينية سنفتقد الشيخ والسيّد والأستاذ صاحب الكلمة، وكلّ الشهداء والشهيدات. دفنّاهم  بسرعة، بطريقة لا تليق بشهادتهم، أتوقّع لدى العودة إلى حياتنا أن نعاني الكثير، مهما تحدثنا عن فضائلهم لن نفيهم حقهم. سنفتقد أستاذ أحمد الذي  أخذ  القلم معه ورحل، وصهره السيّد إبراهيم ياسين، صاحب الكلمة الهادفة التي صمتت في غيابه، وكلمات دكتورة الأدب العربي ملاك التي لم تعد حاضرة أمامنا وشقيقتها هداية معلمة اللغة الإنكليزية، وسنفتقد الشيخ عبده أبوريّا وهو من كان يواسي عوائل الشهداء وقارئ مجالس العزاء. كما سنفتقد مشورة السيّد محمد صالح، واستفساره عن كلّ الأمور، والاستئناس برأيه”. 

ويؤكّد زبيب أنّنا “برحيلهم أصبحنا أيتام، بالفعل انكسر ظهرنا، نشعر بأنّنا وحدنا من دون سند، نحن جيل تربّينا على أنّ الشيخ عبده موجود، وعلى كلمات الأستاذ أحمد، الذي كانت له صولات وجولات على المنابر”.

يشار إلى أنّ في تفاحتا مدرسة رسمية واحدة تصل حتى الصفوف التكميلية فقط، وهي التي كان يدرّس فيها الأستاذ أحمد.

تفاحتا الصغيرة قبل العدوان
انشر المقال

متوفر من خلال:

تحقيقات ، لبنان ، مقالات ، جرائم الحرب والجرائم ضدّ الإنسانية ، العدوان الإسرائيلي 2024



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني