استفاق عدد من وجهاء عشيرة جعفر وفاعِلياتها في أحد أيام خريف 2020 على حركة غير اعتيادية أمام منازلهم، ليجد كلّ منهم امرأتين أو ثلاثاً من عائلة الجمل أمام بيته. فُتِحَت منازل العشيرة على الفور وتمّ استقبال نساء آل الجمل في “صدور” البيوت، أي جرى تكريمهنّ، وأُسكنَّ مع نساء الجعافرة “معزّزات مكرّمات”، كما يؤكّد علي عبدو جعفر أحد وجهاء العشيرة، لـ”المفكرة”.
حقن الإتيان بالنساء الدم الذي كان سيسيل لو ثأر الجعافرة من عائلة الجمل لمقتل ابن العشيرة محمد شامل جعفر في كمين داخل الأراضي السورية، اتُّهم فيه أشخاص من آل الجمل. يومها، وعلى الفور، وإثر سعي ذوي الفقيد ومن ورائهم عشيرته إلى الثأر له، تمّ إخلاء جميع منازل آل الجمل في بلدة القصر التي يعيش فيها جزء كبير من الجعافرة أيضاً، وأقفل هؤلاء حي عائلة الجمل ببوّابة تحول دون دخول أيّ كان إليه. وبرغم تدخّل الكثير من الوجهاء والفاعِليات من سياسية ومجتمعية وعشائرية لدى آل جعفر للمصالحة، وإبداء آل الجمل استعدادهم لدفع ديّة كبيرة قيل إنها وصلت إلى 150 ألف دولار أميركي، في حين أنّ الديّة المتعارف عليها كانت يومها بحدود 50 مليون ليرة (أي ما يعادل 33 ألف دولار أميركي قبل انهيار الليرة)، إلاّ أنّ جبّ “الغنم” الجعفري، وهو جبّ القتيل، لم يرضَ بالصلح. وطبعاً لا يمكن للعشيرة أن تأخذ القرار بالمصالحة خلافاً لرأي أولياء الدم، أي أهل القتيل. وكانت اشتباكات بين عائلتي جعفر والجمل سبقت الخطوة الأخيرة، ومنها هجوم شنّه الجعافرة على قرية الجمل داخل الأراضي السورية، واسمها العصفورية، وعلى تجمّعهم (تجمّع عائلة الجمل) في بلدة زيتا، السورية الحدودية أيضاً، حيث تدخّل المصلحون يومها لإخراج الأطفال والنساء قبل الهجوم على منازل الجمل.
يرى أحد وجهاء العشائر (فضّل عدم ذكر اسمه) أنّ صاحب فكرة الإتيان بنساء الجمل إلى ديار عشيرة جعفر “داهية، وفي منتهى الذكاء”. إذ أنّ هذا التقليد الذي كان رائجاً في تاريخ العشائر، كان وحده الذي سينجح في حقن الدماء مع رفض الجعافرة الصلح، وله أثر كبير في النفوس لارتباطه بـ”العرض” (ترك نساء الجمل في عهدة جعفر)، وهو (أي “العرض”) أحد أقانيم العُرف العشائري التي يحددها الباحث سويدان ناصرالدين في بحثه حول عشائر الجرد الغربي بثلاثة “الدم والعرض والأرض، بما هي النزل (أي السكن) والمكان، وتنضوي تحت مفهوم واحد يجب حفظه وهو الشرف”.
وفور الانتهاء من ترتيب إقامة نساء عائلة الجمل، تنادى وجهاء آل جعفر إلى اجتماع طارئ لمواجهة الإرباك الذي أحدثتْه خطوة آل الجمل والعُرف الذي يقضي بالاستجابة للصلح، كونها (أي الخطوة) أكثر ما يمكن أن يضع العشيرة على محكّ ضرورة القبول بالمصالحة، وأرسلوا يطلبون من جبّ الغنم، آل الفقيد، جواباً في غضون ساعات، لتكون العشيرة على الموقف نفسه. وعليه، قام أولياء الدم بإيصال نساء الجمل إلى حي العائلة في القصر حيث أزاحوا البوابة بأنفسهم، وأدخلوا النساء إلى ديارهنّ، وطلبوا منهنّ دعوة رجال العائلة للعودة إلى بيوتهم. وقبل الجعافرة الصلح بعد نفي المتّهمين بقتل ابنهم وعددهم سبعة وحصر الثأر بهم دون بقية ذكور آل الجمل الذين عادوا إلى ممارسة حياتهم الطبيعية. يؤكّد أحد وجهاء آل جعفر علي عبدو جعفر أنّ ذوي الفقيد سمحوا بعودة عائلة الجمل، لكنّهم لم يقبلوا بقبض الديّة مهما ارتفعت قيمتها، ولم يصفحوا عن المتورّطين، بل حصروا الثأر بهم. وفي أوائل حزيران الجاري (2021) أطلق شبان من آل جعفر النار على أحد المتهمين السبعة من آل الجمل قرب زيتا داخل الأراضي السورية وأصابوه بـ14 طلقاً نارياً لكنّه لم يمت وما زال يخضع للعلاج في إحدى المستشفيات السورية. وعلمت “المفكرة” أنّ جبّ الغنم، وهو جبّ القتيل محمد شامل جعفر، اعتبر بعد هذه الحادثة أنّه تم الأخذ بالثأر له، في حين يسعى الوجهاء وفاعِليات سياسية حالياً إلى عقد صلح يطوي هذه الصفحة نهائياً.
ينطلق العنوان الذي أطلقه الاختصاصي في علم الاجتماع والأستاذ المتقاعد في الجامعة اللبنانية الدكتور فؤاد خليل على كتابه عن عشائر جرد الهرمل “العشيرة دولة المجتمع المحلّي”، من افتراض امتلاك هذه العشائر منظومة متكاملة من الأعراف والعادات والتقاليد والسلوكيات التي تحكم الحياة ضمن مجتمعها وحتى مع المحيط، بما فيها منظومة السلطة داخل كل عشيرة ومع العشائر الأخرى. وإن كنّا اليوم أمام اضمحلال العديد من هذه الأعراف والسلوكيات وتغيّرها أو اندثارها من دون أن يوثّقها علماء الأنثروبولوجيا، على أهميتها، قبل رحيل الرعيل الأول الذي كان ما زال يحفظها ويتمسّك بها. إلاّ أنّ العديد من الممارسات العشائرية ما زالت قائمة ومعتمدة في بعض المحطّات، حتى بغضّ النظر عن انخراط هذه العشائر، وإن بالحدّ الأدنى، في الانتظام العام للدولة اللبنانية الغائبة فعلياً عن مناطقهم، حيث تقتصر مقاربتها على الأمن، والأمن المنقوص في معظم الأحيان.
وفي سياق العمل على هذه المقالة، أجرينا عشرين مقابلة مع وجهاء عشائر عدّة، تناولنا فيها العديد من نواحي الحياة من حرمة الدم، وحرمة المنزل، وحماية الدخيل على العشيرة، أي اللاجئ إليها، وإجراءات الصلح، والجاهيّة وهي لجنة المتدخّلين في الصلح بين عشيرتين والديّة وقيمتها وكيفية دفعها، وحرمة النسب والانتماء للعشيرة، وإحياء مراسم العزاء. وفيما توثّق المقالة بعض الأعراف والسلوكيات في قضايا العدالة والثأر وإيواء طالب الحماية لدى أي عشيرة والقتل والسرقات من منظور العشائر، فإنّ الجانب المتعلّق بجرائم “العرض” سيدرج ضمن تحقيق خاص حول نساء العشائر ننشره ضمن الملف عينه.
العدالة العشائرية: حكم مبرم
قبل نحو 35 عاماً من اليوم، وكنت ما زلت صغيرة، تناهى إلى سمعي أنّ عشيرة علّوه قد أجرتْ تحقيقاتها في حادث العثور على أحد أبنائها جثة هامدة في جردها بعد تعرّضه للقتل وسرقة مبلغ 10 آلاف ليرة لبنانية كانت معه. وبالتواتر، عرفتُ أنّ العشيرة حدّدت القاتل وهو من أبناء العشيرة نفسها، وحكمتْ عليه إثر اجتماع عقده مجلسها المؤلّف من زعماء الأجباب والأفخاذ وعائلة الجاني. فكّرتُ كثيراً في الحكم الذي لم أعرف ماهيّته، وانتظرت حتى عودة أبي مساءً وسألته، فجاءني الجواب مقتضباً. فهمتُ منه أنّه لم يقل لي كامل الحقيقة: “نفوه يا بابا لبعيد ما بقى حدا يشوفه”. قال لي بطريقة لم يبقَ لي معها مجال لسؤال آخر. لاحقاً، دأبتُ على متابعة الموضوع إلى أن عرفت أنّ العشيرة حكمت على الجاني بالقتل، وأنّ أسرته، أي أقاربه “اللّزم”، هي التي نفّذت الحكم بيدها، وتمّ دفنه في الجبال، وليس في مقبرة العشيرة أو أي مقبرة عامّة. لم يُقم له عزاء ولم يتقبّل التعازي به أحد. يومها لم يكن ما عرفته ينطبق على ما أتعلّمه في كتاب التربية المدنية وسلطة القضاء والقانون في إطار الدولة التي يجب أن تتبع لها المنطقة التي نعيش فيها، كان خارج الانتظام العام برمته.
بعد 35 سنة من هذه الحادثة، قضى الشقيقان شادي وإبراهيم جعفر في 5 كانون الثاني 2021 بنيران أطلقها عليهما لصوص كانوا بصدد سرقة محوّل الكهرباء في منطقة النعناعة في جرد عشيرة آل جعفر. وكان الشقيقان الضحيّتان قد قصدا منطقتهما بعد سرقة منزل العائلة في النعناعة بتاريخ 4 كانون الثاني 2021، أي قبل يوم من مقتلهما، فعاد اللصوص لنقل محوّل الكهرباء وأطلقا النار عليهما لدى محاولتهما الدفاع عن أملاكهما. وهزّت الجريمة الرأي العام خصوصاً أنّ الشابين اليافعين (في العشرينات) أصحاب سيرة حسنة ولا علاقة لهما بأي سلوكيات خارجة عن القانون.
حضرت القوى الأمنية وفتحت تحقيقاً في الجريمة، ولكنّ عشيرة آل جعفر تقصّت هي الأخرى وحُدّدت المشتبه بهم بالتورّط في الجريمة من بين ذوي السوابق وطلبت من ذوي كلّ واحد منهم تسليمه للأجهزة الأمنية (وهي مخابرات الجيش في المنطقة) تحت طائلة المسؤولية في حال عدم التجاوب مع طلبها. وعلمَتْ “المفكرة” أنّه كان هناك مطلوبون بين الذين تمّ تسليمهم للقوى الأمنية في قضايا متفرّقة ومع ذلك لم يتمّ التحقيق معهم سوى في جريمة مقتل الشابين وأعيد إطلاق سراحهم من دون فتح ملفّاتهم العالقة، ممّا يشير إلى أنّ هذا الأمر كان ضمن التسوية المتّفق عليها على آلية التسليم. وكان أثر التحقيقات ضمن العشيرة أصعب من تحقيقات الدولة لحساسية الموضوع داخل العشيرة نفسها. وفي إثر الحادثة، عمّمت العشيرة ميثاقاً حصلت “المفكرة” على نسخة منه ينصّ على الآتي “تداعت عشيرة جعفر وكلّ الكرام على اتفاق وميثاق نهائي مقرّر يُعمل به من أجل هذه الجريمة وما يليها من جرائم مشابهة لها لا سمح الله، تضمن البنود التالية:
1-كلّ من يظهره التحقيق أو يدان قانوناً من الموجودين لدى الأجهزة الأمنية بهذه الجريمة، تقرّر الاقتصاص منه بالإعدام من قبل ذويه أوّلاً.
2-كل من يساند أو يتستّر على إخفاء معلومات عن هذه الجريمة ومرتكبيها، يُعتبر مداناً، إن كان قريباً أو بعيداً، يُطلب نفيُه خارج نطاق أراضي آل جعفر.
3-بعد الاجتماع الحاصل، تقرّر أنّه بعد تبيان الحقيقة من الجهات المختصّة قانوناً، يكون المذنب الجاني هو المسؤول أوّلاً وحصر الجريمة بنطاقها الضيّق حسب العادات والمواثيق التي يُعمل بها منذ زمن عند عشيرة آل جعفر.
4-أمّا بالنسبة لموضوع الحرامية (اللصوص) الموجودين والمعروفين شخصاً شخصاً (بسبب سوابق لهم في مجال السرقة)، وعلناً والكلّ يعرفهم، فإنّه تقرّر بالإجماع: أي لص دخل منزلاً أو حاول سرقة سيارة أو تشليح أو خطف فهو مهدور دمه بحال قَتله، ولا يحقّ لذويه المطالبة بدمه، كائناً من كان ضمن نطاق آل جعفر أو خارج حدودهم.
وإذ يؤكّد أحد وجهاء العشيرة علي عبدو جعفر محتوى البيان، يشير إلى أنّ آل جعفر أرسلوا نسخة عنه إلى كلّ عشائر المنطقة وأنّ الأخيرة وافقت على مضمونه ليكون ميثاق شرف بين الجميع. وقال جعفر لـ”المفكرة” “نحن ساندْنا القوى الأمنيّة لكشف قتلة أولادنا، ولم نحلّ مكانها”. ولاحقاً، تمكّنت مخابرات الجيش من كشف مرتكبي الجريمة، وفق ما نقرأه في البيان الذي أصدرته مديرية التوجيه في الجيش اللبناني عن عملية دهم في منطقة البحصة- عكار. وقد جاء في البيان: “بتاريخ 16/5/2021 أوقفت دورية من مديرية المخابرات المطلوب (أ.ع) في منطقة البحصة– دير دلوم – عكار خلال عملية دهم لمنزله… وأثناء عملية الدهم تعرّضت الدورية إلى إطلاق نار من المنزل المذكور ومحيطه، فاضطرّ العناصر إلى الردّ على مصادر النيران ما أدّى إلى مقتل العريفين الفارّين اللذين شاركا في الجريمة إضافة إلى مقتل المدعو (خ.ع) وإصابة زوجته (س.ض) والمدعو (م.ع). وضبطت الدورية كميّة من الأسلحة والذخائر. بوشر التحقيق بإشراف القضاء المختصّ”.
وإثر كشف مرتكبي الجريمة، قام وفد من عكار بزيارة عشيرة جعفر لتقديم التعازي حيث استقبلتهم العشيرة في إشارة إلى طيّها صفحة الجريمة وعدم السماح بتسبّبها بأزمة بين عكار وعشائر الهرمل. وضمّ وفد عكار النائب وليد البعريني ورؤساء بلديات المنطقة ومخاتيرها وممثّل عن مفتي عكار وفاعليّات. واستقبلتهم عشيرة جعفر في ديارها بحضور النائبين غازي زعيتر (حركة أمل) وإيهاب حمادة (حزب الله) ووفد من حزب الله برئاسة الشيخ فيصل شكر ومفتي الهرمل الشيخ علي طه وشخصيات بلدية وعشائرية واجتماعية وسياسية. وبهذه الخطوة، تكون عشيرة جعفر قد سلّمت الأمر ختاماً للدولة ممثلة بمخابرات الجيش ومن ثم القضاء لتحقيق العدالة، وطوَتْ صفحة أي أمر يتعلق بالثأر.
صحيح أنّنا لا نجد في المَثَلين أعلاه التطابق التام، بعد مرور نحو 35 عاماً ما بين الحادثتين ولكن ميثاق الشرف يحمل بعض الملامح المشتركة وعلى رأسها ملامح تحقيق العدالة عند العشائر في حالات القتل عبر الحكم بالإعدام على الجناة وتنفيذه على يد ذويهم (وفق البند الأوّل).
الثأر
يختلف الثأر بين العشائر حسب نتيجة الإشكال الذي أدّى إلى إراقة الدماء. فإذا اقتصر الأمر على التسبّب بجروح فغالباً ما تُعقد المصالحة بدفع تعويض بعد تدخّل المصلحين من وجهاء العشائر الأخرى، وخصوصاً إذا كان الحادث قضاء وقدراً وغير مقصود، كأنْ يصاب ابن عشيرة ما في حين أنّ المقصود هو من عشيرة أخرى. أما إذا حصلتْ الإصابة قصداً أو عمداً، يصبح عقد المصالحة من دون الثأر أصعب، إذ يسعى المجني عليه ومن ورائه عشيرته، للثأر، حتى إن لم يصل إلى القتل بل اقتصر رد الفعل على التسبّب بجروح للجاني على طريقة “العين بالعين والسن بالسن”، ومن ثم تُعقد المصالحة “وحدة بوحدة”. وحصل الصيف الماضي على سبيل المثال لا الحصر، أن قام أحد الأشخاص من غير أبناء العشائر، بل تنتمي أمّه لعشيرة ويعيش مع عائلته في ديرتها، بإطلاق النار على أحد أبناء عشيرة والدته، وإصابته بجروح بالغة من دون قتله رداً على إطلاق المجني عليه النار وإصابته بجروح قبل ذلك بنحو ثلاثة أشهر، برغم عقد مصالحة إثر الحادث الأول.
ومؤخراً، وإثر قيام شبّان من عشيرة علوّه بالاعتداء ضرباً على أحد أبناء عشيرة عوّاد، قام الأخير مع أقارب له بالهجوم على سيارة شبّان علّوه وأطلقوا نحو ثلاثين طلقاً نارياً عليها ممّا أدّى إلى مقتل شاب من آل علّام كان برفقة أبناء علّوه الذين أصيبوا بجراح. ولاحقاً قام شبّان علّوه بإطلاق النار على مهندس من آل عوّاد لا ناقة له ولا جمل بالحادثة ولا علاقة له لا من قريب ولا من بعيد بالجناة من أبناء عوّاد سوى الانتماء للعشيرة نفسها. وبعدما أصاب أبناء علّوه المهندس في قدمه، عُقدت مصالحة بين العشيرتين (علّوه وعوّاد).
وبرغم تأكيد وجهاء العشائر على مساعيهم لحصر عملية الثأر بالجاني، إلّا أنّ الوقائع على الأرض تقول عكس ذلك. إذ ولمجرّد حدوث إشكال بين اثنين من عشيرتين، يصبح جميع أبنائها معنيين بالثأر وخصوصاً في حال وقوع قتلى. حتى أنّ العشيرة تتنادى فوراً لدى وقوع إشكال بين عشيرتين وتخبر كلّ أفرادها بوجوب عدم التجوّل والاقتراب من مناطق نفوذ العشيرة الأخرى تجنّباً لتعرّضهم لاعتداء أو إطلاق نار أو حتى القتل سواء كان لهم شخصياً أي علاقة بالمتورّط في الإشكال.
وقبل سنوات طويلة كان أبناء العشائر يعيبون على بعضهم البعض في حال تقاعس أيّ منهم عن الأخذ بالثأر لقريب له، وخصوصاً الأب أو الأخ أو أبناء العمومة. ولكن اليوم، خفّ هذا التوجّه شرط أن تكون الدولة قبضت على الجاني وأنزلت به العقوبة التي يرونها متناسبة مع الجرم. ومع ذلك، يُمنع على الجاني التواجد في منطقة عشيرة غريمه حتى بعد قضائه محكوميته التي صدرت عن القضاء. ويحدث أن يقوم قاتل من عشيرة ما بتسليم نفسه للدولة إثر قتله أحد أبناء العشائر لحبس الدماء والثأر والثأر المضاد، ولكن قد يمتنع أهل المجني عليه عن الادّعاء الشخصي على الجاني ليخرج بعد قضاء عقوبة الحق العام فيتاح لهم الثأر منه. ونجد هنا أنّ عدالة العشيرة مقارنة بعدالة الدولة ليست نفسها في كلّ حالات القتل: فقد تقبل العشيرة بعدالة الدولة في حال وجدت الحكم متناسباً مع حجم الجرم، وإلّا فإنّها تعمد إلى الثأر من الجاني وخصوصاً في حال عدم معاقبته بالعدل. كما لا تقبل العشيرة بوجود الجاني في منطقتها حتى لو قضى محكوميّته عند الدولة تحت طائلة الاقتصاص منه مجدّداً، إذ غالباً ما يعتبر تواجده في منطقة غريمه تحدّياً للعشيرة واستهزاءً بها يجب الرد عليه.
العتيق
من أبرز الأعراف عند العشائر في موضوع الثأر هو “العفو عند المقدرة” وهي عبارة مستقاة حرفياً من قول للإمام عليّ بالمعنى نفسه. وتتناقل الأجيال المتتابعة للعشائر قصصاً عن رجال عفوا عن خصومهم عند المقدرة، ومن بينهم رجال خرجوا للثأر لمقتل أخ أو أب أو عم وفاجأوا خصمهم وكان يمكنهم النيل منه عبر قتله فوراً، لكنهم، وعملاً بالعُرف القائل بعدم الغدر كانوا ينبّهون الخصم بعبارة “ما تقول أخذتك غدر”، وعليه يرفع الخصم يديه في دلالة على الاستسلام ويقول “أنا عتيقك” أي “أنت من عَتَقَ روحي” من القتل. وعادة يعلن الرجل المقصود بالثأر وجرى العفو عنه أنّه عتيق فلان. ويحتلّ من يعتق روحاً، عملاً بمبدأ العفو عند المقدرة، مكانة عالية من حيث الشهامة والشرف بين العشائر.
ومؤخّراً حصلت حادثة “عفو عند المقدرة” حين أحضر أحد وجهاء العشائر قاتلَي الشاب حسين عاصف ناصرالدين، من آل الهق إلى قبره فما كان من أخيه إلّا أنّ عفا عنهما. وكان حسين قتل خلال تواجده بالصدفة في حادثة أخذ ثأر بين آل ناصرالدين وآل الهق. وأصدرت عشيرة ناصرالدين، بتاريخ 21 حزيران 2021، بياناً يوثّق الحادثة وفيه الرواية الكاملة مرفقة بصورة للضحية حسين عاصف ناصرالدين مع عبارة “أشرف الثأر العفو”، وهذا نصّه الحرفي:
“قال سبحانه: (جزاء سيّئة سيّئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنّه لا يحبّ الظالمين). وقال سيّدنا الإمام علي (ع) العفو عند المقدرة.
أمّا بعد: منذ عدة أشهر قُتِل الشاب الخلوق المظلوم حسين عاصف ناصرالدين خلال تواجده بالصدفة في حادثة أخذ ثأر بين آل ناصرالدين آل الهق، وحدث البارحة ليلاً بأن قام وجهاء العشائر بإحضار القاتلين إلى قبر المغدور وكان الرد من أخ المغدور “لم نقم بيوم من الأيام بتنكيس رأس عشيرة ناصرالدين وراياتها ولن نفعلها الآن ونقوم بقتلكم على قبر أخي، أنا عفوت عنكم”. ومن المعروف بشرع العشائر أنّ الحضور إلى القبر والركوع عنده لها اعتبارات كبيرة.
إنّها لبصمة شرف كبيرة من حسن عاصف ناصرالدين أخ المغدور منذ اليوم الأول الذي غُدِرَ فيه أخوه ولم يقم بأعمال همجية، وصَبَرَ ثمّ كان العفو من شيَمه ورفع رأس عشيرته، آملين أن يتوقف سفك الدماء في منطقتنا ونرجو من غيرنا أن يتعلّم العفو عن قدرةٍ لا عن ذلّة. حتى يتأدّب المجرم ويعلم أن سفك دم البريء يُخنِع رأسه أمام الناس”. وخُتم البيان بعبارة “ملاحظة: لم نقم بنشر أي مقطع فيديو أو صورة خلال تواجد القاتلين على قبر المغدور”.
ويردّ وجهاء العشائر استمرار عادة الثأر إلى غياب الأمن في المنطقة وغياب الدولة حيث لا يتمّ في معظم الحالات القبض على القاتل ويبقى خارجاً عن القانون وطافراً في الجرود وهو ما يحتّم على ذوي المجني عليه، وفق قولهم، “الاقتصاص منه وإحقاق الحق”. ويروي هؤلاء قصصاً كثيرة تمّ فيها تسليم الأمر للدولة ففوجئوا بتدخّل الوساطات وخروج القاتل بعد فترة وجيزة من دون أن ينال العقوبة التي يستحق.
ويكون المعني بالثأر داخل العشيرة الدائرة الأقرب للقتيل، أي أخوته ووالده ومن ثمّ الأعمام وأبناء الأعمام. أمّا إذا دخلت عشيرة في معركة إثر مقتل أحد أبنائها، فإنّ شبّان العشيرة ورجالها يجدون أنفسهم في قلب المعركة مجتمعين ويحمل معظمهم، وخصوصاً المحاربين من بينهم، السلاح ويخرجون نصرة لعشيرتهم. وقلّما نجد حاملي الشهادات الجامعية، ممّن يمارسون وظائف عامّة أو مهنة كالطب والهندسة والمحاماة والتعليم وغيرها في صفوف المتقاتلين بين العشائر، ولكن يحدث أن يضطرّ طبيب ابن عشيرة إلى إقفال عيادته في حال اندلاع نزاع بين عشيرته وعشيرة أخرى خوفاً من استهدافه ثأراً.
ولا يقتصر الثأر على القتل بين عشيرة وعشيرة مضادّة بل قد يحصل، وهناك أمثلة كثيرة، ضمن العائلة الواحدة وبين الأجباب والأفخاذ حتى. وفي حال وقوع جريمة ضمن العشيرة الواحدة، فإنّ الثأر هنا يكون بين جبّ القتيل وجبّ الجاني أو الفخذين اللذين يتحدّران منهما.
الجاهيّة والمصلحون
للمصلحين دورٌ كبير في حلّ قضايا العشائر. يتدخّل هؤلاء في حالات كثيرة من الخطف بقصد الزواج إلى الاختلاف على ملكية أراضٍ، مروراً بجرائم الجرح أو القتل. كما يتدخّلون في المعارك المسلّحة بين العشائر والتي قد تستمرّ لأيام. ويكون المصلحون من وجهاء العشائر غير المنخرطة في المعركة أو عملية الثأر، حيث يسعون لوقف شلّال الدم الذي قد لا ينتهي من دون تدخّلهم، إذ يجرّ الثأر ثأراً وهكذا. ففي حال حصول معركة بين عشيرتين يشكّل هؤلاء لجنة من مجموعة كبيرة يتمّ تقسيمها إلى فريقين يتوجّه كل منهما إلى متاريس العشيرتين المتقاتلتين في الوقت نفسه وهم يرفعون الرايات البيضاء علامة السلام ويقومون بإنزال المتقاتلين من المتاريس تمهيداً لبدء مفاوضات الصّلح. وقديماً كان المصلحون لا يغادرون ديرة العشيرة المقصودة، ولا يشربون قهوتها، إلّا بعد تسليمهم القضية وتعهّد وجهائها بالقبول بالحال الذي يرتأونه، وكذلك يفعلون مع العشيرة الثانية. ويدرس المصلحون القضية ويضعون الحلول التي تحفظ ماء وجه العشيرتين وفقاً لظروف النزاع، ولا يعلنون الحل الذي يقترحونه إلّا بعد التشاور مع المعنيين والـتأكّد من تناسبه مع مطالبهم من دون أن يقلّلوا من موقع العشيرة الأخرى. ويأتي الاتفاق على الصّلح ضمن سلّة متكاملة تشمل حتى الملفّات القضائية في حال كان هناك مطلوبون أو موقوفون. ويجري في كثير من الأحيان تسوية الملفّات القانونية للمعنيين من ضمن عقد المصالحة نفسه. ومؤخّراً، حصل توتّر بين جبّين في عشيرة علّوه على خلفية ثأر ممّا استدعى تدخّل وجهاء من عشيرتي ناصرالدين وجعفر ما زالوا يسعون لغاية كتابة هذه السطور للوصول إلى تسوية تمنع إراقة الدم بين أبناء العشيرة الواحدة وهم أبناء عمّ بالمناسبة.
وعندما يعقد الصلح ويقتضي بدفع ديّة، تساهم العشيرة كلّها في جمع الديّة على طريقة: “قرش داير على رجالها” أي أن يترتّب مبلغ من المال على كلّ رجل من العشيرة. وقد يتحمّل المعنيّون بالمشكلة، الجزء الأكبر من الديّة أو يتحمّلونها كلّها في حال سمحت أوضاعهم المادية بذلك.
الحماية وحرمة اللاجئ
درجت العادة على لجوء بعض رجال العشائر ممّن تعترضهم حوادث ضمن عشيرتهم، أو مع عشيرة أخرى، إلى ديار إحدى العشائر. بداية يتمّ استقبال طالب الحماية في منزل الوجيه الذي قصده، وقد يُخصّص له منزل مع أسرته في حال طال بقاؤه واستتبع استقدام زوجته وأولاده للعيش معه. وحتماً تصبح سلامة اللاجئ وكرامته من سلامة وكرامة العشيرة المُجيرة له (أي التي تستضيفه). وتقوم هذه العشيرة بإبلاغ العشيرة المعنيّة بالإشكال مع اللاجئ بوجوده على أرضها وفي نطاق نزلها، وهذا يعني أنّه تحت حمايتها وأنّ أيّ اعتداء عليه هو بمثابة اعتداء عليها. لذا لا يحصل أن يحاول أحد الثأر منه طالما هو في نطاق العشيرة التي لجأ إليها. وتبدأ العشيرة المُجيرة بالاتّصال بالعشيرة الثانية وتشكيل لجنة صلح من وجهائها والبحث عن حلول. وفي حال عجزت وحدها عن ذلك تتعاون مع وجهاء من عشائر ثانية لمنح لجنة الصلح ثقلاً إضافياً ولتشعر العشيرة المعنيّة أنّه يتمّ تقدير موقعها والوقوف على خاطرها إلى حين حلّ الإشكال. ولكلّ إشكال حلوله وفق نوعيته، وتقضي الأعراف العشائرية بعدم استقبال أو حماية أيّ شخص يقدم على فعل مشين يتعلّق بالعرض أو بالشرف أو بالقتل بقصد السرقة أو السرقة عينها.
وقد يحصل ألّا تتمكّن العشيرة التي استقبلتْ طالب الحماية من حلّ قصّته والتوصّل إلى مصالحته مع أهل القتيل، فيستمرّ طالب الحماية بالعيش مع العشيرة كما حصل في عشيرة جعفر قبل نحو 30 عاماً عندما قصدهم رجل من عكار مع أسرته إثر قتله لرجل من منطقته. وحاول آل جعفر يومها حلّ إشكال ضيفهم وإعادته إلى منطقته من دون جدوى، وبقي هذا الرجل بينهم لغاية اليوم حيث يعيش مع أولاده وأحفاده وكلّ ذرّيته وبنوا منازلهم في ديار عشيرة جعفر وتزوّجوا من المحيط ولم يعودوا إلى منطقتهم لغاية كتابة هذه السطور من دون أن يحاول غريمهم النيل منهم أو الثأر حيث لحماية العشيرة حرمتها، وكذلك كون أمنه أصبح من أمن الجعافرة وسلامته من سلامتهم.
الاقتصاص من السارق
برغم إصرار جميع من قابلناهم أنّ موضوع السرقة يُترك اليوم للقوى الأمنية والقضاء، إلّا أنّه لا بدّ من الإشارة إلى أنّه يُحسب ألف حساب للسّرقة في مناطق العشائر وخصوصاً إذا كان السارق من غير أبناء العشائر. وهؤلاء، أي اللصوص من خارج العشائر، لا يجرؤون غالباً على السرقة من مناطق العشائر المتمركزة في مناطق محدّدة ومعروفة بشكل عام، في حال لم يكونوا غرباء عن المنطقة، أي من خارج القضاء. وغالباً لا يقدم ابن عشيرة على سرقة عشيرة أخرى لأنّ الأمر قد ينتهي بالقتل، فيما لا تسري الحالة نفسها على السارق في حال كان ابن عشيرة واستهدف في سرقته أملاك من هم من غير العشائر. وقد تقع سرقة داخل منطقة عشيرة ما في حال كان للصوص شركاء من العشيرة المسروقة نفسها. ففعل السرقة بين العشائر له أعرافه التي تجعل من العقاب أعلى بأضعاف. وكان عقاب السرقة، إضافة إلى التشهير بالسارق بين العشائر، 4 أضعاف قيمة المسروق إذا كان السارق من خارج العشيرة والقربى، و8 أضعاف إذا كان السارق قريباً أو جاراً و16 ضعفاً إذا ارتكبت من قريب جار، أي في حال كان السارق يمتّ إلى المسروق بصلة نسب وجيرة في الوقت نفسه. ويُباح دم السارق ولا يطالب بالثأر له في حال تمّ ضبطه خلال السرقة وقاوم صاحب الملك بعنف لا يترك له (للمقصود سرقته) خيارٌ سوى قتله (قتل السارق). ومن المستحسن أن يتمّ القبض على السارق وتسليمه إلى عشيرته لتأديبه ونهيه، وفي حال كرّر فعلته برغم ذلك يصار إلى نفيه وإعلام الآخرين بذلك، وهذا يعني رفع الغطاء عنه وعدم المطالبة بدمه في حال استمرار غيّه. وفي حال قتل السارق المسروق منه، تكون الديّة مضاعفة ويبقى الثأر قائماً ويهدر دمه.
ماذا بقي من سلطة عشائر مأزومة؟
يرتبط الالتزام بهذه الأعراف والسلوكيات بمنظومة السلطة داخل العشيرة ومدى تضامنها وشدّة لحمتها. وكانت السلطة داخل العشيرة تقوم على وجود زعيم أساسي وزعماء أو وجهاء لكلّ جبّ وفخذ فيها، وقد يكون هناك أكثر من زعيم في حال وجود تساوٍ في قوّة أكثر من جبّ نَسباً وعديداً وإمكانيات. وكان أفراد العشيرة جميعهم يقدّمون الطاعة لهؤلاء ويعملون بمشورتهم ويلتزمون بقراراتهم على صعيد العشيرة ككل. في المقابل، يمون زعيم كلّ جبّ وكل فخذ على أبناء جبّه وفخذه. وتتّخذ العشيرة قراراتها العامّة في إثر اجتماع يعقده ما يمكن تسميته بـ”مجلس العشيرة” (وكانت عشيرة علّوه أول من كرّسه في الثمانينيّات) المكوّن من الزعيم الأوّل مع زعماء الأجباب والأفخاذ، وتكون قراراته ملزمة للجميع في المواقف التي تعني العشيرة ككل، ومنها المعارك التي كانت تحدث مع العشائر الأخرى، وكذلك مع الدولة.
في سياق بحثنا، التقيْنا عدداً من وجهاء العشائر الذين يتحسّرون اليوم على أيام زمان عندما كانت وحدة العشيرة رأسمالها الأساسي وضمانتها وبوّابتها لاحتلال مكانة مرموقة سواء بين العشائر الأخرى أو في المجتمع المحلي وكذلك مع الدولة.
يقول علي عبده جعفر، أحد وجهاء عشيرته: “لدينا اليوم عشيرتان جديدتان هما عشيرتا حزب الله وحركة أمل”، في إشارة إلى تأثيرهما على ولاءات أبناء العشائر المنضوين في صفوفهما. ويُعتَبر جعفر من المصلحين المقصودة ديارهم لحلّ المشاكل بين أبناء العشائر، ولكنّه يرى أن “سلطة العشيرة اليوم وزعامتها على أبنائها لم تعد كما كانت”، ويضيف “بالكاد الواحد عم يمون ع أقاربه اللّزم”.
بدوره، يختصر أحد وجهاء عشيرة ناصرالدين، غازي محمود ناصر الدين هذا الواقع بالقول: “كنّا عشاير وصرنا مزارع”، ليؤكّد أنّ الأب اليوم “بالكاد يمون على ابنه”، ويعلّل السبب بـ “تسيّس الشباب، وتوزّع ولاءاتهم للأحزاب الحالية، خصوصياً حركة أمل وحزب الله، وليس للعشيرة”.
ويعزو أحد زعماء عشيرة دندش، رئيس مجلس إدارة مياه بيروت سابقاً ركان دندش، تفتّت الزعامات داخل كلّ عشيرة إلى المرحلة الشهابية أيضاً حيث “تمّ تلويث القيادات العشائرية بتعويدها على المنفعة وعلى المصروف من دون إنتاج، لضمان ولاء كلّ منها على حدة، وتفريخ زعامات جديدة ضمن كلّ عشيرة والإمساك بهم”. وهذا ما أسّس برأيه الذي يوافقه عليه وجهاء آخرين من العشائر، لدقّ الإسفين الأول في وحدة الزعامة داخل كلّ عشيرة.
إضافة إلى لحظه تأثير الشهابية في الزعامات العشائرية، يخرج مفلح علّوه، أحد زعماء عشيرته، من تأثير الأحزاب ليرى أنّ “العشيرة تضمحل لأنّها صارت خارج المسار التاريخي للتطوّر”، مؤكّداً “أنّنا نفتقد اليوم للتضامن حتى داخل العشيرة”. ويضيف علّوه معطىً آخر لانهيار السلطة داخل العشيرة: “كثرة المطلوبين والخارجين على القانون في ظلّ التفلّت الأمني” حيث صار كلّ شخص مسلّح يعتقد أنّ بإمكانه فعل ما يشاء “من دون عقاب جدّي”. ويرى أنّ بعض هؤلاء “ولا أتكلّم هنا عن المطلوب بسبب زراعة أرضه بالحشيشة، بل عن كبار المهرّبين وتجّار المخدّرات الذين استغلّوا غياب الدولة وبنوا ثروات وصار كلّ منهم يقدّم نفسه وجيهاً أو زعيماً على مجموعة تواليه بحكم المنفعة وتلاقي المصالح، وهذا ينسحب على كل العشائر”. وكان علّوه في أواخر السبعينيّات من أوائل الذين سعوا لتأطير السلطة داخل العشيرة عبر إنشاء مجلس عشيرة وإن كان يفضّل تسميته بـ “لجنة شعبية للعشيرة تجمع بين الكفاءات وتراعي العصبيات داخلها والمرتبطة بالأجباب والأفخاذ”. وكان المجلس يتّخذ قراراته بالأكثرية، ويرى أنّها كانت “تجربة ديمقراطية داخل العشيرة”، أمّا اليوم “فلم يتبقّ منها شيء”.
يتمسّك جميع من قابلناهم بتبيان الأعراف الإيجابية للعشائر ومنها الكرم والنخوة ونصرة الضعيف وإكرام الضيف وتلبية الملهوف طالب الحماية ونصرة الضعيف، فيما يعتبرون كلّ الممارسات التي لا تلتقي مع هذه القيم “ممارسات فردية لزعران من العشائر لا توافق عليها أيّ عشيرة، ولكن الأب لم يعد يمون على ابنه”، وفق ما يقولون خلال مواجهتهم بحوادث كثيرة تقع ولا تمتّ بصلة إلى سلّم الممارسات الإيجابية التي يعتبرونها من مقدّسات العشائر ولا يمكن المسّ بها. ويُحمّل هؤلاء الأحزاب السياسية وعلى رأسها حزب الله وحركة أمل مسؤولية خلق انتماءات بين أبناء العشائر تُخرجهم عن سلطة العشيرة الأم “خلقوا كواع ما بتردّ ع حدا”، وفق ما يقولون. وينفي هذا الكلام الحزبيون من أبناء العشائر، وخصوصاً المنضوون في صفوف حزب الله، ليبدوا ملاحظات على أداء بعض من يعتبرون وجهاء في عشائرهم، وليقولوا إنّ “سلوكيّات بعض الوجهاء لا ترضينا ولا تتناسب مع أفكارنا وإيماننا ولذا لا نخضع لها ولا تعنينا، وليس للحزب علاقة بهذا”.
والثابت أنّ زراعة الحشيشة بحدّ ذاتها بغضّ النظر إذا تحوّلت إلى تجارة المخدّرات أم لا، لا تُعتبر من السلوكيّات السلبية أو المدانة، وكذلك التهريب عبر الحدود وهو ما يفضّلون تسميته بالتجارة الحدودية الطبيعية التي تشكّل مع زراعة القنّب الهندي أحد مصادر العيش في منطقة أهملتها الدولة ولم تسعَ تاريخياً لإنمائها وخلق فرص عمل ومداخيل تعين أهلها على العيش بكرامة.
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.