العدالة الرقمية: هل الطريق معبّدة لعدالة صفر ورقية في تونس؟


2025-01-31    |   

العدالة الرقمية: هل الطريق معبّدة لعدالة صفر ورقية في تونس؟
رسم عثمان سلمي

أصدرت وزيرة العدل مؤخرًا منشورًا[1] مُوجّها إلى الإطارات القضائية والإدارية بالمحاكم حول تنظيم اعتماد الجلسات القضائية التفاعلية عن بعد في المادتين المدنية والتجارية، ضمن تنفيذ برنامج الانتقال الرقمي للمنظومة القضائية 2023-2025. ويأتي ذلك توازيًا مع بدء الاستغلال التجريبي الفعلي لذلك في الدائرة المدنيّة الأولى بالمحكمة الابتدائية بن عروس منذ 21 نوفمبر 2024، دون إعلان الوزارة بعد عن رزنامة تعميم هذا الإجراء في مختلف محاكم البلاد. ليستمر بذلك انتظار ما سيؤول إليه مسار بدَا متعثرًا، وقد طال الحديث عنه لسنوات دون أي تغيير حقيقي ضامن لتيسير النفاذ للعدالة وتقليص الزمن القضائي ويظهر أن الانتقال الرقمي  المنتظَر لازال يواجه صعوبات واقعية ليس أقلّها محدودية البنية التحتية للمحاكم بما يطرح السؤال عن  تنزيل الرقمنة الموعودة . 

كيف يمكن ممارسة التقاضي عن بعد؟

اختارت  وزارة العدل تسمية المنصة الرقمية Jshare  التي تستهدف من عنوانها التبادل الإلكتروني للوثائق القضائية، وهي ستخوّل عقد جلسات عن بعد وتأمين تبادل التقارير والمحكمة إضافة للنشر الإلكتروني للقضايا. وأوضحت أنها -أي ا المنصة الرقمية – ستكون خاصة بالمهن القضائية، إذ يتم الترسيم بقائمة الحضور عن بعد قبل موعد انعقاد الجلسة بـ24 ساعة، ويتولى كاتب الدائرة تنزيل قائمة المرسمين بالجلسة المعنية لتوجيه دعوات عبر التطبيقة، ويجب على المشاركين في الجلسة الولوج إليها قبل عشرين دقيقة من موعد الجلسة مع اشتراط المشاركة بالزي الخاص للمحامين وممثلي المكلف بنزاعات الدولة. وهنا من الواضح أن المشاركة في الجلسات تنحصر في المحامين شخصيًا دون كتبتهم، وهو ما قد يؤدي لصعوبات تطبيقية للمحامين لضمان مشاركتهم في صورة الجلسات المتزامنة أو في صورة تعذر المشاركة لالتزامات شخصية أو مهنية أخرى، وهو ما لا يمكن تجاوزه مبدئيًا إلا بالتنسيق المسبق مع زملائهم لنيابتهم في الجلسة التفاعلية.

ويحمّل  منشور، وزارة العدل  في الجانب اللوجيستي، المشارك  في الجلسة التفاعلية مسؤولية ربط الجهاز بشبكة الأنترنت وحسن إدارته بالصوت والصورة، كضمان استقرار الاتصال طيلة الجلسة. وباعتبار فرضية انقطاع الأنترنت خلال الجلسة، يفصّل المنشور أن رئيس الجلسة يقلب الملف لتتم إعادة مناداة ثانية وأخيرة إلى انتهاء الطور المقرر له، وفي صورة استمرار العطب التقني، تقرر المحكمة الإجراء المناسب. وهو تفويض يفتح الباب مبدئيًا لإمكانية تأخير الجلسة لتاريخ لاحق.

وأكد المنشور أن وزارة العدل لا تتحمل مسؤولية نجاعة التجهيزات المعتمدة من المشاركين ولا عدم استقرار الربط بالأنترنت، والحال عدا أن ذلك يكيّف من قبيل القوة القاهرة الخارجة عن مسؤولية أي طرف في الواقع، فإن المشاركين من القضاة والكتبة سيستعملون مبدئيًا تجهيزات توفّرها الوزارة نفسها وشبكة أنترنت المحاكم، وبالتالي مدى جودتها ونجاعتها موقوفة على إمكانيات الوزارة نفسها.  وهكذا فإن عدم تحمّل الوزارة المسؤولية، في هذا الجانب، ليس في موضعه، خاصة وأن ذلك قد يفتح الباب للتعسّف.

منصة رقمية مرهونة بانخراط المحامين

يقتضي إنجاح المنصة الإلكترونية انخراطًا كليًا من المحامين في تركيزها، خاصة وأن سير الجلسات في المادة المدنية لدى المحاكم الابتدائية ينحصر بين الجهاز القضائي والإداري للمحكمة من جهة والمحامين من جهة أخرى. وسبق أن أعلنت الوزارة في بلاغ لها  تعويلها على “تعاون السادة المحامين الإيجابي”.

إذ يقتضي الولوج إلى المنصة تمكين المحامين من بريد إلكتروني مهني  توفره هيئة المحامين لمنظوريها، ثم إحداث حساب خاص لكل محام بمنظومة التبادل الإلكتروني. لكن يظهر، بحسب المتابعة، أن الإقبال على الحصول على البريد ضعيف جدًا، وهو ما يعود لضعف الإعلام بذلك في أوساط المحامين، أو تقدير عدم الحاجة إليه على الأقل راهنًا في ظل انحصار الاستغلال التجريبي للمنصة في دائرة مدنية وحيدة في ابتدائية بن عروس فقط. لكن قد يكون ذلك غير منفصل عن واقع العلاقة المرتبكة بين المحامين ووزارة العدل، خاصة بعد محنة ماي، بما أنتج حالة برود في التعاطي مع أي مشروع قادم من الوزارة.

هيئة المحامين من جهتها تعدّ طرفًا مباشرًا في مسار إرساء المنصة، وذلك باعتباره يتنزّل ضمن برنامج تحسين النفاذ إلى العدالة الذي يشرف على تنفيذه مجلس أوروبا بتمويل من الاتحاد الأوروبي. ولاحظت الهيئة، بمناسبة استقبال عميدها للوفد الأوروبي المشرف على مشروع المنصة في ماي 2023،  ضرورة توفير ضمانات إشرافها  على الجانب المتعلق بالمحامين في المنصة الإلكترونية[2]. ولم يتبيّن بعد إن كانت الهيئة موافقة بذلك على المنصة في شكلها الأخير المعتمد أم لا.

إجمالًا، لا تبدو العلاقة بين الهيئة والوزارة ميسّرة على الأقل فيما يتعلق بالمطالب المهنية الصرفة، وذلك  رغم استمرار انتظار العميد المزيو وعود الوزيرة لتنقيح أمرين حكوميين يتعلقان بتامبر المحاماة وصندوق الحيطة والتقاعد الذي يعاني عجزًا ماليًا كبيرًا، وكلّ ذلك قبل انتهاء عهدته التي لم تحقق فيها المحاماة أي مكاسب، بل على العكس واجهت انتكاسات متلاحقة.

هل نظّم المنشور ما يدخل في نطاق التشريع؟

في الأثناء أكد المنشور الوزاري بخصوص الجلسات التفاعلية أن إدارة الجلسات وتسييرها يتم وفق قواعد مجلة المرافعات المدنية والتجارية والتراتيب الجاري بها العمل، غير أن متابعين نبّهوا من أن النصوص المتعلقة بتنظيم العدالة والقضاء يجب تنظيمها في شكل قوانين أساسية، معتبرين أن مسائل أوردها المنشور خاضعة لدائرة التشريع. ويظهر بالاطلاع على وثيقة مهمة العدل في برنامج التصرف في ميزانية 2025 حسب الأهداف التنصيص على لزوم إعداد نص تشريعي يتعلق بالجلسات المدنية، بما يؤكد الحاجة للتدخل التشريعي دون إمكانية تغطية المجال الترتيبي للجلسات التفاعلية.

  ويُذكَر أن إقحام المحاكمات الجزائية عن بعد خلال جائحة كورونا استلزم تدخلًا تشريعيًا عبر مرسوم معدّل لمجلة الإجراءات الجزائية[3]. كما تم تنظيم إجراءات التقاضي الإلكتروني أمام المحكمة الإدارية في مشروع مجلة القضاء الإداري التي لازالت لم تر النور بعد. وفي المغرب تم إدماج التقاضي الإلكتروني ورقمنة الإجراءات المدنية، بما يشمل إحداث منصة إلكترونية خاصة للغرض والتبادل الإلكتروني للمعطيات واعتماد الحساب الإلكتروني المهني، ضمن مشروع المسطرة المدنية، أي ضمن تعديل قانون أساسي.

ورشات مجمدة لتنقيح المجلات القانونية

يلفت المنشور  الانتباه إلى غياب ورشات تنقيح المجلات القانونية عن أولويات الوزارة، سواء في المادة المدنية أو الجزائية، ، رغم راهنيتها المتزايدة سواء بحكم التطور التكنولوجي وما يفرضه من متابعة تشريعية ، و أيضًا  عدم تلاءم النصوص الجارية مع التطورات القانونية والفقهية في عديد المجالات، الأمر الذي تم التنبّه له منذ الثورة على الأقل بإعلان الوزارة ورشات لتعديل كل من المجلة الجزائية ومجلة الإجراءات الجزائية.

ولكن لازال مشروع مجلة الإجراءات الجزائية الذي أعدته لجنة أكاديمية تحت إشراف وزارة العدل، والجاهز منذ عام 2019، على رفوف الوزارة، وهو المشروع الذي أعده محامون وقضاة ومتخصصون على مدى 5 سنوات. ويتضمن 631 فصلًا موزعًا على 7 كتب مقارنة بـ377 فصلًا في المجلة الحالية، بما يعكس حجم التجديد استنادًا على الدستور والمعاهدات الدولية واستئناسًا بالقانون المقارن عدا ما تضمنته الاجتهادات الفقهية والتوجهات المستقرة لفقه القضاء. وقد أدرج آليات وهياكل جديدة تكفل حسن الموائمة بين حماية حقوق الأفراد من جهة وحماية حق المجتمع من جهة أخرى، على نحو يجعل المضي في تبنيه وفق المسار التشريعي أولويًا. غير أن الوزارة لم تعره أي اهتمام، فيما يبدو أن السلطة تتعامل مع المشروع بأنه من مخلّفات “العشرية الفارطة” المفضّل تجاوزها، وكلّ ذلك مقابل غياب أي مشروع معلن  لتنقيح المنظومة الإجرائية في المادة الجزائية.

بدوره، لا يبدو مشروع تعديل المجلة الجزائية على رادار وزارة العدل، والحال أنه سبق وأعدت لجنة مختصة تحت إشراف الوزارة  مشروع تنقيح الكتاب الأوّل منها ضمن مشروع تعديل شامل للمجلة التي تعود لعام 1913، وباتت الحاجة ملحة لمراجعتها وفق التوجهات الحديثة في علم الإجرام والعقاب وعلى ضوء التطورات المجتمعية والدستور والاتفاقيات الدولية أيضًا.

وبذلك على أهمية رقمنة العدالة، يبقى السؤال مطروحًا بخصوص موقع مراجعة التشريعات الأساسية. هو ترتيب أولويات أو أقلّه لزوم عدم إهمال المسائل الأوليّة المرتبطة بكنه العدالة في حدّ ذاتها قبل شكل تفعيلها.

خدمات عن بعد تنتظر التحسين

إحدى عناوين برنامج رقمنة العدالة هو توفير الوزارة خدمات عن بُعد عبر موقعها الإلكتروني، بلغت إلى حد الآن 7 خدمات منها الاسترشاد عن بعد لمآل القضايا والاطلاع على فقه القضاء وأخرى متعلقة بالتسجيل في المناظرات والمشاركة فيها والاطلاع على النتائج. وأعلنت الوزارة في المشروع السنوي للأداء للتصرف في الميزانية حسب الأهداف سعيها لبلوغ 30 خدمة عن بعد في موفى عام 2030.

ولكن الملاحظ أن خدمة الاسترشاد عن بعد للقضايا سواء للمتقاضين أو المحامين لا تعمل بالشكل المطلوب بسبب عدم تحيين المعطيات في عديد الدوائر بعدد من المحاكم على نحو يفترض التوجه على عين المكان للتثبت من المآل، فضلا عن أن خدمة الاسترشاد لا تشمل القضايا التحقيقية أو الجنائية. فيما لم يبدأ الاسترشاد في القضايا التجارية في المحكمة الابتدائية بتونس إلا بعد بداية العام القضائي 2024-2025.

وبخصوص خدمة فقه القضاء يُلاحظ نشر قرارات تعقيبية قديمة دون المستجدّ منها، إذ أن آخر عام للقرارات المنشورة هو 2013، وذلك على خلاف موقع محكمة التعقيب الذي يقدّم خدمة الاطلاع على القرارات التعقيبية بشكل محيّن، مع توفير خدمة البحث بدقّة حسب المادة القانونية.

في الأثناء، لم توفر الوزارة إلى حد الآن منصة للاطلاع على مختلف القوانين النافذة في البلاد للعموم، مع عرض تواريخ تعديلها أو نسخها، وذلك على غرار منصة légifrance الفرنسية التي تعدّ مثالًا نموذجيًا لمرجع حكومي رسمي لكافة النصوص القانونية والترتيبية المفتوحة للعموم.

تحديات “العدالة الذكية”

أحد الأهداف المصممة أيضا في برنامج الانتقال الرقمي هو التلخيص الآلي لماديات الأحكام القضائية لاختصار الزمن، ما يعني تعويض القاضي بالآلة، وإن  بدا هذا مشروعًا في القضايا البسيطة والتي تتضمن حيثيات مكررة مثلًا، فإن ذلك يطرح مخاوف  بخصوص الاستغناء عن العنصر البشري، حتى وإن تعلق الأمر بتلخيص ماديات الأحكام، خصوصا في ظل محدودية قدرة الآلة على تقدير أهمية الماديات وترتيبها في التلخيص الذي يظل خاضعًا للسلطة التقديرية للقاضي. إذ تظل الخشية من مَكنَنَة المجهود القضائي في ذاته وليس تيسيره، ليظلّ السؤال  مطروحا إن كان سيظلّ العنصر البشري يشرف على تأمين رقابة لاحقة للتلخيص الآلي المبرمَج على الأقل.

ولكن الارتياب في توظيف الذكاء الاصطناعي يتبيّن أكثر حقيقة في إعداد تطبيقة جديدة ضمن برنامج J Eyes التي تتضمن جردًا لجميع النصوص القانونية النافذة في المادة الجزائية، و تبعا لذلك إحصاء جميع الجرائم وتصنيفها حسب مقاييس مرجعية يُسنَد بموجبها لكل جريمة رمز موحّد. والغاية هي مساعدة النيابة العمومية والقضاء الجزائي عمومًا في تحديد النصوص القانونية المنطبقة والتكييف القانوني للأفعال الإجرامية[4]. ويُعاد في هذا السياق طرح السؤال حول غياب مراجعة النصوص الجزائية التي تعود لقرن ويزيد بدل الاكتفاء بجردها لتيسير تطبيقها.

ولكن أيضًا تطرح هذه التطبيقة تحديات حول مفهوم العدالة باعتبارها، خاصة في المادة الجزائية،  عمل إنساني خاضع لاجتهاد القاضي المحض بحسب تفاصيل وقائع الملف وسياق الفعل الإجرامي وظروف المشتبه به، على نحو  يجعل العنصر التفريدي جوهريا في التكييف في عديد الحالات، ولا يمكن لخوارزميات الذكاء الاصطناعي استيعابه.  فعلى أهمية الاستعانة بالإمكانات التي يطرحها الذكاء الاصطناعي، خاصة لتقليص الحاجة للعنصر البشري في بعض القضايا التي لا تحتاج لمجهود بشري خصوصي في التكييف للإحالة مثلًا، فإنه يجب التنبّه على ضرورة إسناد الذكاء الاصطناعي للقضاة الجزائيين في عملهم ولكن دون تعويضهم، لأن العدالة الجزائية لا يمكن تأمينها إلا من القاضي الإنسان لا الآلة في كل الأحوال.

المحاكمات الجزائية عن بعد.. نسق دون المأمول

في الأثناء، كان تبني المحاكمات الجزائية عن بُعد التي فرضتها جائحة كوفيد 19، ضمن مشروع تيسير النفاذ إلى العدالة، دون المأمول. مع الإشارة إلى أن برنامج الوزارة للانتقال الرقمي وبالخصوص منصة التبادل الإلكتروني يجد سنده التشريعي في مرسوم[5] يعود إلى زمن الجائحة عام 2020،  تم من خلاله تنظيم التبادل الإلكتروني للمعطيات بين الهياكل والمتعاملين معها.

وقد بلغ عدد المحاكمات عن بعد، عام 2021، 380 محاكمة بحسب مهمّة العدل وفق برنامج التصرف في الميزانية حسب الأهداف لعام 2023، وتعود محدودية عدد المحاكمات، بحسب ذات الوثيقة، إلى عدم تجهيز السجون بالوسائل اللازمة، وذلك في انتظار استكمال أعمال التجهيز في المحاكم والسجون، مع الإبقاء على عقد المحاكمات حسب قرار تتخذه الأطراف المعنية، إضافة إلى مواصلة إعداد منشور وزاري يحدد مجال استعمال تقنية المحاكمة عن بعد. سجلت عدد المحاكمات ارتفاعًا طفيفًا عام 2022، لتبلغ 531 محاكمة. ولكن الملاحظ أن الرقم المنشود لازال غير مضبوط في برنامج الوزارة، إذ وضعت وثيقة مهمة العدل في ميزانية 2023 سقف 2000 محاكمة عام 2025، ولكن قلّصت وثيقة ميزانية 2024 العدد المأمول إلى 1995 مع زيادة عام لتحقيقه أي 2026.

ويتأكد واقع ضعف عدد المحاكمات عن بعد في تونس بمقارنتها بالتجربة المغربية التي انطلقت بدورها في تنظيم مثل هذه المحاكمات إثر جائحة كوفيد، تحديدًا منذ أفريل 2020. وقد انتظمت في ظرف سنتين فقط أزيد من 38534 جلسة عن بعد، أدرجت خلالها 753328 قضية جناحية وجنائية، استفاد منها 852083 متهمًا، وبلغ عدد الأحكام الصادرة فيها 265096 حكمًا. وهي أرقام هامّة تبيّن حجم التعويل على تنظيم المحاكمات عن بُعد، مما ييسّر التقاضي،  فضلا عمّا يوفره من اختصار للوقت والمصاريف كنقل الموقوفين من السجون إلى المحاكم.

عدالة صفر ورقية في نهاية 2025: مهمة مستحيلة؟

 أكدت وزارة العدل، في بلاغ بتاريخ 25 ماي 2023 بمناسبة إطلاق منصة Jshare للتبادل الإلكتروني للوثائق القضائية للمادة المدنية، أن مخططها الاستراتيجي حدد هدفًا؛ وهو بلوغ عدالة رقمية صفر ورقية تتلاءم مع حاجيات العمل القضائي في موفى سنة 2025، والحال أنه بمعاينة وضع تنفيذ برنامج الانتقال الرقمي على أرض الواقع، في نهاية عام 2024، تتبيّن الصعوبة المطلقة لتحقيق الهدف المنشود في السقف الزمني المحدّد في كامل محاكم البلاد. إذ لم يبدأ الاستغلال التجريبي الفعلي لمنصة التبادل الإلكتروني إلا في شهر نوفمبر 2024، إذ تمّ على نطاق محدود جدًا على مستوى دائرة مدنية وحيدة.  ولازال تعميم المنصة في النزاعات المدنية والتجارية وطنيًا موقوف على إتمام عدة شروط،  انطلاقًا من استكمال الاستعدادات اللوجستية، وأيضًا تأمين تكوين شامل للقضاة والمحامين في استعمال المنصة، بما يستلزمه هذا التكوين من زمن ومجهود.

في المقابل، يبيّن واقع العمل القضائي إلى اليوم مواصلة طغيان التعامل الورقي، خاصة في المعاملات الأساسية كالطعون والحصول على نسخ الأحكام، إذ لازالت الطوابير طويلة يوميًا أمام مصلحة الأحكام بابتدائية تونس واستئناف تونس، كما لازالت الدوائر الاستئنافية تؤخر القضايا لإضافة الملف الأصلي، أي إضافة النسخة الورقية للملف الابتدائي، وكلّ ذلك مع الانتقادات الدائمة لأداء المرفق القضائي؛ من ضمن ذلك واقع تنظيم العمل الداخلي في بعض المحاكم، والذي يفرض تقديم بعض الخدمات في الجلسة الصباحية فقط. وعلى سبيل المثال، دفع الاضطراب في التمكين من الاطلاع وتصوير الملفات قبل عام بسبب تحديد كتابات دوائر أيام محدودة للغرض، إلى تدخّل رئاسة المحكمة الابتدائية بتونس[6]. ويترافق كل ذلك مع تردي البنية التحتية لعدد من المحاكم في بعض الجهات مما دفع إلى تصاعد التحركات الاحتجاجية لعديد الفروع الجهوية للمحامين خلال العام القضائي الحالي.

وفي خضمّ ذلك، وفي أصل الممارسة القضائية بذاتها، انطلقت السنة القضائية الحالية دون إصدار الحركة السنوية مقابل استفحال لجوء وزيرة العدل لإصدار مذكرات العمل.  وقد أمعن هذا الواقع في إضعاف ضمانات استقلالية القضاة بمنأى عن السلطة التنفيذية، مما أدى إلى اضطراب في المرفق القضائي، كمعاينة شغورات في عدة محاكم.

من البيّن أن الانتقال الرقمي للعدالة لازال يواجه صعوبات؛ منها محدودية البنية التحتية وعدم تكوين مختلف المتداخلين في العملية القضائية، وهو ما يُعسّر الوصول إلى عدالة لا ورقية في ظرف عام آخر فقط، كما حدّدَت ذلك الوزارة. ولكن على أهمية هذا الانتقال الموعود، في زمن التطورات التكنولوجية المتلاحقة، وفي تصاعد الحاجة الملحة لتيسير التقاضي واختصار الزمن القضائي، فإنه يبقى السؤال الأولوي مطروحًا بشأن أصل العدالة لا كيفية تفعيلها: أي قضاء نريد؟ إذ يبقى نسف ضمانات استقلالية القضاء ووضع السلطة التنفيذية يدها على المسارات المهنية للقضاة، مع استمرار تعطّل المجلس الأعلى المؤقت للقضاء وانعدام أي مؤشرات لإرساء المجالس القطاعية طبق الدستور، هو الواقع المريض الذي يفرض نفسه على مناخ العدالة في تونس اليوم.


[1] منشور عدد 194 مؤرخ في 9 ديسمبر 2024.

[2] بلاغ لهيئة المحامين بتاريخ 5 ماي 2023.

[3] مرسوم من رئيس الحكومة عدد 12 لسنة 2020 مؤرخ في 27 أفريل 2020 يتعلق بإتمام مجلة الإجراءات الجزائية.

[4]  بلاغ لوزارة العدل بتاريخ 3 جويلية 2023.

[5] مرسوم رئيس الحكومة عدد 31 لسنة 2020 المؤرخ في 10 جوان 2020 المتعلق بالتبادل الإلكتروني للمعطيات بين الهياكل والمتعاملين معها وفيما بين الهياكل. والملحق أمر حكومي عدد 777 لسنة 2020 مؤرخ في 5 أكتوبر 2020 يتعلق بضبط شروط وصيغ وإجراءات تطبيق هذا المرسوم.

[6] تم إصدار إعلام تضمّن التمكين من تصوير الملفات خلال جميع أيام الأسبوع ما عدا يوم الجلسة واليوم الذي يليها، مع تحديد عدد ساعات التمكين من الاطلاع والتصوير في الحصة الصباحية والمسائية على حد السواء.

انشر المقال

متوفر من خلال:

قرارات قضائية ، مقالات ، تونس



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني