نجحت هيئة الحقيقة والكرامة خلال الفترة الفاصلة بين 17-11-2016 و17-12-2016 في تنظيم أربع جلسات استماع علنية لضحايا الحقبة الاستبدادية. حظيت حينها جلسات الاستماع باهتمام تجاوز المجال المحلي التونسي، وبينت ردود الأفعال أن جانبا هاما من الرأي العام يساند عمل الهيئة. وعليه، كان يؤمل أن تكون سنة 2017 سنة نجاحات مسار العدالة الانتقالية وهياكله. ولكن المأمول لم يتحقق رغم عقد الهيئة ثماني جلسات في هذه السنة: بل حصل العكس من ذلك، بحيث شهد الفصل الأخير منها انتعاش المسارات الموازية لمسارات العدالة الانتقالية، بعدما استفحلت خلالها أزمات الهيئة.
المصالحة من خارج مسارات العدالة الانتقالية
طيلة سنتي 2015 و2016، لم يتوصل رئيس الجمهورية باجي قايد السبسي لتحقيق ما وعد به في بداية عهدته من إنجاز سريع لمصالحة مع رجال الأعمال والموظفين الذين اتهموا بالتورط في قضايا فساد قبل الثورة. فقد اصطدم مشروع القانون الذي تقدم السبسي به لهذه الغاية بمعارضة من قوى اجتماعية عدّته انقلابا على مبدأ المحاسبة، ولم يحظَ المشروع بالأغلبية الضرورية، لاختلاف الأحزاب السياسية حول شروط المصالحة وتمسك كل منها بتصوره الخاص فيما يتعلق بها.
لم تخرج بداية سنة 2017 عن هذا الإطار بعدما كشفت عن تحول المصالحة إلى موضوع صراع سياسي بين مكوني الأغلبية النيابية أي حزب حركة نداء تونس الذي تمسك بالتصور الرئاسي لها وحزب حركة النهضة الذي طرح فكرة مصالحة شاملة تضيف لذاك التصور بندا يضمن رد الاعتبار للضحايا والتعويض لهم عما لحقهم من ضرر. كما كانت ذات المصالحة موضوع صراع بين المعارضة التي اختارت المجاهرة برفضها لها بدعوى التصدي لمحاولات تبييض الفساد والأغلبية التي تمسكت بها وعدتها استحقاقا سياسيا آن أوانه. وقد فرض هذا الواقع السياسي على رئاسة الجمهورية إعلان التضحية بالجانب الأكبر من مشروعها لتكتفي بالبند المتعلق بالعفو عن موظفي الدولة وإطاراتها الذين يواجهون تتبعات عدلية بتهم فساد مالي ولم يثبت في جانبهم استفادة مالية من ذلك. وعليه، بتاريخ 13-09-2017، تمت المصادقة على المشروع المعدل على الرغم من معارضة أحزاب المعارضة وقوى اجتماعية عدة. وقد ختمه رئيس الجمهورية في إثر الطعن بعدم دستوريته، وهو طعن سقط لعجز الهيئة الدستورية عن النظر فيه ضمن الأجل المحدد لها.
لم يكن قانون المصالحة فعليا إلا انعكاسا لتنازل الفاعل السياسي عن ربط المصالحة بالعدالة الانتقالية. فقد كشف المشهد الحزبيّ ومن قبله التعيينات في المناصب الحكومية عن عودة قوية لشخصيات النظام السياسي لما قبل الثورة، الذين بات يصطلح على تسميتهم بالكفاءات في مقارنة ضمنية بينهم وبين من خلفهم من مسؤولين يوصفون بغير الأكفاء. بفعل هذا المزاج، فقدت مسارات العدالة الانتقالية دورها المحوري في تحقيق الانتقال الديموقراطي، بحيث بات إسقاط مشروع قانون العزل السياسي ومشاركة من عملوا مع النظام قبل الثورة هي عناوين نجاحه.
مسار العدالة الانتقالية: اتفاق على فشل وبحث عن خاتمة تغطي الخيبة
عقدت الهيئة خلال سنة 2017 ثماني جلسات.
إلا أن هذه الجلسات لم تنجح في الحفاظ على المكتسبات التي تحققت لها منها في سنة 2016 ولا سيما بعدما تحوّلت آخر هذه الجلسات المتصلة بأحداث الرش بسليانة لعنوان أزمة.
أزمة جلسة استماع أحداث الرش بسليانة
قسم الإعلان عن تحديد موعد جلسة استماع علنية لضحايا أحداث الرش بسليانة مجلس هيئتها إلى شقين متناحرين. ضم الشق الأول أربعة من أعضائها اتهموا رئيستها سهام بن سدرين والمقربين منها بالتفرد بالقرار وسوء الإدارة. ردّت بن سدرين اتهام هؤلاء باتهامهم بموالاة لحركة النهضة والسعي لخدمة مصالحها من داخل الهيئة. انتهت المنازلة فجأة بمصالحة بين الشقين قامت بنودها على نسيان الاتهامات المتبادلة والتي كانت تعجل إنهاء مسار العدالة الانتقالية. وكان من أثر تلك المصالحة أن عقدت جلسة الاستماع المتنازع في شأنها بعدما أكدت رئيسة الهيئة في مستهلها براءة القيادات السياسية من الأحداث موضوعها. فكان أن أثارت الجلسة طيفاً من المجتمع السياسيّ الذي عدّها تحرّكا سياسيّا لفائدة النهضة، مما أشّر إلى قرب نهاية الهيئة.
تسعة أعضاء يعجزون عن تمديد ولايتها
في نهاية سنة 2016، صدر عن مجلس هيئة الحقيقة قراران في فصل إثنين من أعضائها. قبل ذلك بسنة كان ذات المجلس قد رفض عضوا آخر. وإذ استحصل المتضررون من قرارات الطرد على أحكام استعجالية من المحكمة الإدارية تقضي بايقاف تنفيذ قرارات طردهم، إلا أن رئيسة الهيئة رفضت تطبيق تلك الأحكام. فضلا عن ذلك، كان مجلس الهيئة عرف خلال فترة 2014-2015 ثلاث استقالات منه. وبالنتيجة، انخفض عدد هؤلاء إلى تسعة.
أوحت بداية سنة 2017 أن المؤاخذات التي باتت تلاحق إدارة الهيئة وتسببت في انقسام مجلسها لا يمكن لها أن تعيق عملها في ظل تماسك الغطاء السياسي الذي تتمتع به والمكون أساسا من نواب حركة النهضة. وكانت رئيسة الهيئة ومن خلفها أنصار مسار العدالة الانتقالية يقدرون أن المجلس التشريعي سيضطر قبل نهاية مدة ولاية الهيئة لانتخاب أعضاء جدد بمجلسها يسدّون الشغور الحاصل في مجلسها، ويسمح لها بالنتيجة باتخاذ قرار بتمديد ولاية مجلسها التي تنتهي منتصف سنة 2018 بسنة جديدة. ومن المعلوم أن قرار التمديد يتطلب قانونا توفر غالبية ثلثي أعضاء الهيئة أي على الأقل عشرة منهم.
بدت كتلة حركة النهضة بمجلس نواب الشعب ملتزمة بهذا الاستحقاق وكذلك أحزاب المعارضة بدعوى وجوب ضمان استمرارية مسار العدالة الانتقالية، فيما كشفت الأحزاب ذات الخلفية الدستورية عن عزمها على منع صدوره بحجة أن على الهيئة أن تلتزم بالقرارات القضائية بردّ أعضائها المطرودين، قبل المطالبة بسدّ الشغور الحاصل في هيكليتها. وقد انتهى التصويت داخل مكتب المجلس إلى استصدار قرار بتاريخ 25-1-2018 يقضي برفض إحالة مسألة سد الشغور على الجلسة العامة قبل انتهاء المنازعة القضائية، فيما تعلق بقضايا الرفض. وقد أنهى هذا القرار عمليا كل إمكانية لتمديد عمل الهيئة لعدم توفر النصاب الضروري لذلك.
أي خاتمة لعمل الهيئة؟
تفعيل الدوائر القضائية المتخصصة في الربع ساعة الأخير
أصدرت الحكومة التونسية بتاريخ 08-08-2014 الأمر المحدث للدوائر القضائية المتخصصة في العدالة الانتقالية. وقد تولّت الهيئة الوقتية للإشراف العدلي تعيين قضاتها لأول مرة بتاريخ 13-11-2015. إلا أن هيئة الحقيقة والكرامة أحجمت عن إحالة أي ملف قضائي إلى هذه الدوائر، رغم الضغوط المكثفة التي مارستها الضحايا عليها في هذا الإطار. وكادت تلك الهيئات تدخل نطاق الإهمال لولا تدخل المجلس الأعلى للقضاء لسد الشغورات الحاصلة فيها بتاريخ 08-12-2017 بناء على طلب وجه له لهذه الغاية من الهيئة. ويؤشر هذا الأمر إلى أن مجلس الهيئة يستعد استباقا لنهاية ولايته لإحالة ملفات قضائية لتلك الهيئات بما يعد من منظورها نجاحا ومخرجا لها. وفي موازاة ذلك، سعت الهيئة لأن يسبق إعلان نهاية ولايتها إحداث صندوق الكرامة ورد الاعتبار لضحايا الحقبة الاستبدادية والذي سيحقق تركيزه جانبا من انتظارات أكثر من عشرة آلاف ضحية يطالبون باستحقاقاتهم. وقد جاءت كلمة الرئيس السبسي بمناسبة الذكرى السابعة للثورة لتؤكد عدد من هذه التوجهات بحيث صرح أن صندوق الكرامة سيصدر قريبا وأنه سيتم الإعلان عن قائمة شهداء وجرحى الثورة قبل نهاية الشهر الثالث من سنة 2018.
وعليه، يرجح أن تنطلق أهم محركات العدالة الانتقالية بعد نهاية ولاية هيئة الحقيقة والكرامة وكمخرج لها.
للاطلاع على النسخة الانجليزية للمقال، انقر/ي هنا
نشر في العدد 10 من مجلة المفكرة القانونية في تونس
محمد العفيف الجعيدي -من العدالة الانتقالية إلى المصالحة الوطنية في تونس: قوة المال تفرض قواعد المصالحة -24-07-2015
عرف رئيس مجلس شورى حزب حركة النهضة عبد الكريم الهاروني المصالحة الشاملة بكونها ” إزالة كل عوامل التفرقة بين التونسيين أو اعتداء على حقوق المظلومين وإعطاء فرصة لمن يرغبون في الانخراط في مسار تونس الجديدة للاستفادة من كفاءاتهم ” تصريح لوكالة تونس إفريقيا للأنباء بتاريخ 23-09-2017 بمناسبة الدورة 15 لمجلس شورى الحركة
في تصريح أدلى به رئيس حركة النهضة لوكالة الأنباء التركية الأناضول قال ” في ليبيا سنوا قانون العزل السياسي، كل من اشتغل مع (الرئيس الليبي السابق معمر) القذافي، أحيل للمعاش، وفي العراق استنوا قانون اجتثاث(حزب) البعث، ونحن تجنبنا هذا، وقلنا لا بد من توحيد الشعب، قديم وحديث، إسلامي وعلماني، هذا هو حكم التوافق“. – موقع الأناضول 20-10-2017
في كلمته بمناسبة افتتاح الندوة السنوية لحركة النهضة لسنة 2017 قال راشد الغنوشي «من كان فاعلا قبل الثورة والتحق بها وبنظامها.. ،هؤلاء باتوا اليوم من أبناء الثورة كغيرهم يجب العمل معهم لتحقيق أهدافها.” – حسان العيادي – راشد الغنوشي رئيس حركة النهضة: التمسك بالتوافق وتسويقه داخل الحركة على أنه خط الثورة – صحيفة المغرب 25-12-2017
المفكرة القانونية – التفرد بالقرار يعصف بهيئة الحقيقة والكرامة: ونظرية المؤامرة تؤخر الإصلاح – 21-08-2017
المفكرة القانونية هيئة الحقيقة والكرامة: قراءة في بيان المصالحة – نشر بالعدد التاسع من نشرية المفكرة القانونية تونس شهر 11 -2017
بعد جلسة الاستماع في ملف أحداث الرش:اتّهامات عديدة لبن سدرين على الفيسبوك – الشروق التونسية -26-11-2017
زهير مخلوف ومصطفى بعزاوي وزهرة بوقيرة
المفكرة القانونية -إنتصار هام لهيئة الحقيقة والكرامة، ماذا بشأن العدالة الإنتقالية؟ -19-01-2017
الدوائر القضائية المتخصصة للعدالة الإنتقالية: الصمت التوافقي يغطي أزمتها القاتلة نشر بالعدد الثامن من نشرية المفكرة القانونية تونس – 30-06-2017-