بتاريخ 3 ففري 2019، أصدرت الجلسة العامة لنقابة القضاة التونسيين بيانا تناولت فيه مسائل إشكالية حول العدالة الانتقالية. بعد أقل من يومين، أصدر المكتب التنفيذي لجمعية القضاة التونسيين (5 ففري 2019) بيانا أسماه بيان العدالة الانتقالية، وقد تضمن مواقف متعارضة تماما لمواقف النقابة. قبل المضي في مناقشة مضمون البيانين، تجدر الإشارة إلى أن تصدّي كلا الهيكلين القضائيين لمسألة العدالة الانتقالية والمواجهة الحاصلة بينهما في هذا الإطار إنما يشكل دليلا فاقعا على تحوّل القضاء إلى الساحة المركزية للعدالة الانتقالية، وبخاصة بعدما أحالت هيئة الحقيقة والكرامة (المنتهية مدتها) عددا كبيرا من الملفات إلى الدوائر المتخصصة للعدالة الانتقالية.
ومن أبرز أوجه الخلاف التي تطالعنا، الآتية:
إحالة الملفات من دون بحث، خرق لمبادئ المحاكمة العادلة؟
أول نقاط الخلاف اتصلت بتقييم قيام الهيئة بإحالة ملفات إلى الدوائر المتخصصة من قبل هيئة الحقيقة والكرامة في الشهر الأخير. وفيما سلّم كلا الفريقين بأن هذه الإحالات حصلت من دون أي تحقيق وأحيانا كما جاء في بيان النقابة ضد مجهول، اختلف الهيكلان في مدى قانونية ذلك. ففي حين رأت النقابة أن إحالة ملفات من دون بحث يخرق القانون الإجرائي “باعتبار أن القانون المنظم للهيئة يسندها اختصاصا مطلقا للهيئة في التقصي والبحث”، رحبت الجمعية بهذه الإحالات التي عدتها “مؤشر ثقة في المؤسسات القضائية” على اعتبار أن تلك الاحالات ستحمي ملفات الضحايا من أي معالجات أو توظيفات غير سليمة بعد نهاية عهدة هيئة الحقيقة.
وكانت “المفكرة” سجلت أن إحالات مشابهة تشكل إخلالا بمبادئ المحاكمة العادلة التي تفترض تمايز جهتي الملاحقة والتحقيق عن جهة الحكم، ولا سيما أن صلاحية هيئة الحقيقة والكرامة هي صلاحية استثنائية من شأنها أن تنزع قوة القضية المقضية وأحكام مرور الزمن، وأن من شأن استخدامها من دون تحقيق وافٍ أن يضعف مسار العدالة الانتقالية أمام خصومها. كما تمسكت بكونها تعد خرقا إجرائيا لدليل لجنة التقصي والتحقيق الصادر عن هيئة الحقيقة والكرامة والذي يفرض ألا تحال ملفات من هيئة الحقيقة للدوائر القضائية المتخصصة إلا بعد استيفاء تحقيق خاص من درجتين بما سيفرض أن يكون منتهاها تكريس الإفلات من المحاسبة وتضييع حقوق الضحايا.
اجتماعات للتأثير في وجهة القضاء؟
موضوع الخلاف الثاني كما يخرج عن البيانين جاء على خلفية واقعة لافتة، قوامها دعوة أعضاء الدوائر المتخصصة لملتقى توجيهي بشأن المنحى الذي يجدر أن تتخذه الإحالات الحاصلة من دون بحث مسبق. وكانت جمعية القضاة التونسيين نظمت بتاريخ 27 و28 جانفي 2019 ملتقى دعت إليه قضاة الدوائر المتخصصة للعدالة الانتقالية تحت شعار “حقوق المحاكمة العادلة أمام الدوائر القضائية المتخصصة بالعدالة الانتقالية” وأشيع في الوسط القضائي كما يوحي بذلك بيان النقابة أن الهدف من تلك الندوة كان إقناع القضاة باقتبالها وابتداع طرق للقفز على ما أثير من علات في اجراءاتها.
وفي هذا الصدد، رأت النقابة أن ملتقيات كهذه تهدف في الواقع إلى توجيه القضاة “والتأثير عليهم بخصوص الإجراءات المتبعة في تناول الملفات المعروضة عليهم بما يمس من حيادهم واستقلاليتهم” ودعت تاليا المجلس الأعلى للقضاء للتدخل لمنع تلك الممارسات الماسة من حياد القضاة. على العكس من ذلك تماما، فاخرت الجمعية بالملتقى. وقد سجلت، فيما بدا جوابا منها على الاتهام، “بانفتاح قضاة الدوائر القضائية المتخصصة وقضاة النيابة العمومية بكامل الحرية على تطوير معارفهم وكفاءاتهم وتبادل وجهات النظر بخصوص المسائل القانونية الذين هم في حاجة إلى مناقشتها في إطار الندوات العلمية المتخصصة في نطاق جمعيتهم بما يمثل دليل ثقتهم في هيكلهم ومصداقية نشاطاته العلمية الداعمة لاستقلالهم والمعززة لمهاراتهم في مادة القانون الجنائي الدولي وغيرها من المواد باعتبار تطوير كفاءات القضاة من مقومات المحاكمة العادلة”. وقد انتهت الجمعية إلى التحذير “من أي مساس بحق القضاة في الحضور والمشاركة في الندوات العلمية بكامل الحرية ويعتبر مناقشة ذلك الحق انتقاصا من اعتبارهم ووصاية عليهم لا يمكن بأي حال قبولها”. ويأتي هذا التحذير بمثابة ردّ منها عما تردد من أخبار عن دعوات تواترت تطالب المجلس الأعلى للقضاء بإصدار موقف صريح من الأمر باعتبار أن من أدواره الدفاع عن استقلالية القضاء.
وترى “المفكرة” في هذا الاطار أنه وفيما تبقى مشاركة القضاة في منتديات علمية أمرا مطلوبا ومستحبا، فإن العبرة في تقييم موقفي النقابة والجمعية تبقى في كيفية إدارة الندوة وتفاصيلها. فهل تم التصدي لمبادئ المحاكمة العادلة والقواعد التي أرساها قانون العدالة الانتقالية بشكل محايد وعلمي في إطار من النقاش والتباحث، أم أن منظّمي الملتقى سعوا إلى فرض توجه معين من شأنه أن يعكس رأيا مسبقا في قانونية الإحالات الحاصلة من قبل هيئة الحقيقة والكرامة؟ في هذه الحالة الأخيرة التي يرجّحها بيان النقابة، يظهر كأنما القضاة دعيوا لتحديد وجهة قرارهم فيما بينهم، ومن دون الاستماع إلى الفرقاء المعنيين بالنزاعات المعروضة عليهم، خلافا لما تفرضه مبادئ المحاكمة العادلة. وتشكل حماسة الجمعية في الدفاع عن صحة الإحالات الحاصلة من دون بحث مسبق، بشكل مطلق، وعلى الرغم من تعارضها بداهة مع مجموعة من المبادئ الأساسية، مؤشرا مقلقا في هذا الخصوص.
مهما يكن من أمر، وإذ يظهر البيانان خطين متناقضين للهيكلين القضائيين في ما يتصل بتقييم أعمال هيئة الحقيقة والكرامة، يؤمل أن يُغلّب كلا الهيكلين في مواقفهما مبادئ التجرد في الحكم والمحاكمة العادلة، وذلك منعا لممارسات المظالم التي سادت في زمن الديكتاتورية وانتصارا للمبادئ السامية التي ناضل وعانى كثيرون من أجلها في ذلك الزمن.
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.