عَادَ موضوع الصّناديق الاجتماعيّة إلى الواجهة بعد أن تطرّق إليه رئيس الدولة في لقاءاته الأخيرة برئيس الحكومة. ذكَر البيان الذي نشرته رئاسة الجمهورية أنّ الرئيس “أسدى تعليماته بإيجاد سبل لتمويل الصناديق الاجتماعية”. يَستحضر هذا الأسلوب في أذهاننا صورة نمطيّة لتعامل الرئيس قيس سعيّد مع مجمل القضايا الاقتصاديّة والاجتماعيّة المتراكمة والمعقّدة؛ فهو لا يقدّم حلاّ أو خطّة بل يكتفي بلقاء وزرائه الذين ينتمون في جلّهم إلى جهاز الإدارة، ليَأمرهم بإيجاد الحلول. ويُعيد رئيس الجمهوريّة، من خلال اقتصاره على مسألة التّمويل، التصوّر البيروقراطي المحاسَباَتي الذي يَحصر أزمة الصّناديق في العجز المالي. إضافة إلى اتّضاح عدم إلمامه بملفّ الضّمان الاجتماعي رغم أنّه يرفع لواء الدّولة الاجتماعيّة.
تقوم منظومة الضّمان الاجتماعيّ في تونس على النّظام التوزيعي التّضامني، الذي يُمَوّلُ عن طريق المساهمات الاجتماعيّة للأجراء والمؤجّرين في القطاع العامّ والقطاع الخاصّ المهيكل. ويشمل الضّمان الاجتماعي عدة أنظمة محكومة بعدّة تشريعات معقّدة وعتيقة على غرار القانون عدد 30 لسنة 1960 المنظّم للضّمان الاجتماعي والذي لم يعد مواكبا للتغيّرات الهيكليّة لسوق الشّغل. يتكوّن القطاع العمومي من أربعة أنظمة تقاعد[1] يُشرف عليها الصّندوق الوطني للتقاعد والحيطة الاجتماعيّة، فيما يتكوّن القطاع الخاصّ من تسعة أنظمة تقاعد[2] يُشرف عليها الصّندوق الوطني للتّضامن الاجتماعي. أمّا بالنّسبة لخدمات التأمين الصحيّ فيُشرف عليها الصندوق الوطني للتأمين على المرض في إطار منظومة موّحدة بين القطاعين العام والخاصّ.
راكَمَت هذه المؤسّسات في السّنوات الأخيرة عجزا ماليّا لافتًا. إلاّ أنّ هذا العجز يظهر كنتاج -وليس كسبب- لنموذج اقتصاديّ أثبت محدوديّة قدراته الإنتاجيّة والتّشغيليّة واختلال توزيع ثِماره. وقد اقترن هذا النموذج بنهج حكم تسلّطي وبيروقراطي ساهم في مفاقمة الأزمة.
اختلال التّوازن المالي للصّناديق الاجتماعيّة
حسب التقرير حول المنشآت العموميّة المصاحب لقانون المالية لسنة 2025[3]، والذي يحتوي على المؤشّرات الماليّة للصّناديق بين الفترة الممتدّة من 2021 إلى 2023. من المنتظر أن يُسجّل الصّندوق الوطني للضّمان الاجتماعي سنة 2023، نتيجة صافية سلبيّة بـ 911.1 مليون دينار (م.د). ورغم تقلّص العجز مقارنة بالسّنتين الأخيرتين بحيث وصل ذروته في عام 2021 بتسجيل -1274.3 م.د بسب تأثير جائحة “كوفيد-19″، إلاّ أنّه لم يتراجع إلى مستواه السّابق للجائحة الذي بَلغَ سنة 2019 -667 م.د، وهذا مرتبط بعدم تعافي النّشاط الاقتصادي من مُخلّفات الوباء إلى حدّ الآن، وبدرجة أكبر مرتبط بالتهرّب من خَلاَص المساهمات الاجتماعيّة. وتَبلغ ديون القطاع الخاصّ المتراكمة تجاه الصّندوق 8200 مليون دينار، من بينها 3500 مليون دينار ديون متفحّمة، وهي الدّيون التي لم يَعد من الممكن استرجاعها وفق مداخلة نادر العجابي المدير العام للضّمان الاجتماعي في وزارة الشّؤون الاجتماعيّة[1] في اليوم الدّراسي الذي نظمته الأكاديميّة البرلمانيّة في شهر فيفري من العام المنقضي.
من الطّبيعي أن يكون للصّندوق ديون لدى حرفائه، فهناك دائما مؤسّسات اقتصاديّة تمرّ بصعوبات اقتصاديّة. إلا أنّ تراكم الدّيون بهذا الحجم مقارنة بحجم الاقتصاد التّونسي لا يبدو طبيعيّا، بالخصوص مع تواتر عدّة تصريحات تُشير إلى وجود عدّة مؤسّسات كبرى رابحة لديها ديون متكدّسة عند الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي؛ منها بعض البنوك. يدلّ ذلك على أنّ الخلل يشمل منظومة التصرّف العامّ في قطاع الضّمان الاجتماعي في الإدارة والمراقبة والاستخلاص. مع العلم وأنّ القانون عدد 30 لسنة 1960 المنظّم للضّمان الاجتماعي، ينصّ على استخلاص الاشتراكات بالتّوازي مع دفع الجرايات.
جدير بالذّكر أنّ الحكومة أقرّت منذ شهر أكتوبر الفائت عفوًا اجتماعيًّا[2] [3] لطرح خطايا التأخير وتصفية الدّيون المتخلّدة بالذمّة، ويتواصل هذا العفو إلى آخر شهر مارس من العام الحالي، وهو مخصّص للشّركات وأصحاب المهن الحرّة المتخلّفة عن دفع اشتراكاتها وعن التّصريح بالأجور (مساهمات العمّال المقتطعة من أجورهم). وفق تصريح نادية الهدروق مديرة الاستخلاص بالصّندوق الوطني للضّمان الاجتماعي لوكالة تونس إفريقيا للأنباء،[4] انخرط في العفو الاجتماعي منذ انطلاقه وإلى غاية 12 جانفي الجاري، 4 آلاف مؤسّسة اقتصاديّة و17 ألف عامل للحساب الخاصّ. تعكس هذه الأرقام حجم التهرّب الاجتماعي في القطاعات الاقتصاديّة المنظّمة.
تبدو آليّة العفو الاجتماعي مثل نظيرتها في المجال الجبائي؛ آليّة تصرّف غير ناجعة من منظور اقتصادي، وهو ما تؤكّده نتيجة العفو الاجتماعي الذي تمّ إقراره في سنة 2022، حين تمكّن الصّندوق من تعبئة موارد تناهز 700 مليون دينار، أي 15% من مجمل الدّيون غير المتفحّمة. ورغم أنّه وسيلة استثنائيّة، إلاّ أنّ تواتره أصبح بمثابة “الاستثنائي الذي يدوم” والذي عزّز ثقافة التهرّب وعدم احترام الآجال لمعرفة صاحب العمل بأنّ هناك دائما عفوًا قادمًا، مما ساهم في تذبذب إيرادات الصّندوق. فضلا عن ذلك، يُعدّ العفو آليّةً غير عادلة بين الأجراء الذي يخضعون للاقتطاع الآلي والإجباري مهما كانت وضعيّاتهم الماليّة وأرباب العمل الذين يوفّر لهم العفو طرقًا قانونيّة لتسوية وضعيّاتهم في عدم الانضباط للواجب الاجتماعي. مع الإشارة إلى أنّ مجمل جرايات التّقاعد التي صرفها الصّندوق في شهر جانفي بلغت 563 مليون دينار.
على خلاف الصندوق الوطني للضّمان الاجتماعي، أخذ العجز المالي للصّندوق الوطني للتّضامن والحيطة الاجتماعيّة منحًى تصاعديّا. ومن المتوقّع أن تَبلغ خسارة الصّندوق سنة 2023، 613.6 مليون دينار، بعد أن كانت في مستوى -598.1 مليون دينار سنة 2022، و -158 مليون دينار سنة 2021. يعود توسّع الخسارة إلى ارتفاع أعباء الصّندوق الوطني للتّضامن والحيطة الاجتماعيّة بنسق يَتجاوز ارتفاع إيراداته، أي ارتفاع عدد المنتفعين بجرايات التّقاعد مقابل انخفاض عدد المنخرطين النشيطين بالصّندوق. وفي هذا السياق، من المفترض أن ترتفع مداخيل استغلال الصّندوق الوطني للتّضامن والحيطة الاجتماعيّة بقيمة 702.4 مليون دينار، ولكن بنسق أقلّ من ارتفاع أعبائه التي بلغت 717.1 مليون دينار وذلك سنة 2023. استفحلت هذه الوضعيّة بعد تجميد الانتداب في الوظيفة العموميّة منذ سنة 2018 وعدم تعويض الشّغورات، ما أدّى إلى تحمّل الصّندوق جرايات تقاعد لا تُقابلها مساهمات جديدة، مما فاقَمَ اختلال النّظام التّوزيعي.
نظريّا، تُمثّل الدّولة الجهة الأكثر موثوقيّة في الإيفاء بالتزاماتها الاجتماعيّة واحترام القانون، غير أنّ التأخّر عن سداد مستحقّات الصّناديق ينسحب على القطاع العامّ أيضا. فقد ناهزت ديون المنشآت العموميّة المتراكمة لدى الصّندوق الوطني للتّضامن والحيطة الاجتماعيّة 1200 مليون دينار، نصف المبلغ تستحوذ عليه 3 شركات عموميّة للنّقل. يُضاف إلى ذلك عدم التزام الدّولة بصفتها كمشغّل، من خلال تحويل كامل مستحقّات الصّندوق بعنوان المساهمة التّضامنيّة الاجتماعيّة. يتأكد ذلك في التقرير حول المنشآت العموميّة المصاحب لقانون المالية لسنة 2024، حيث وَقعَ تحويل 460 مليون دينار سنة 2020، و500 م.د سنة 2021، و195 م.د سنة 2022 لفائدة الصّندوق،[4] في حين وأنّه قانونيّا وأخلاقيّا يتعيّن على الحكومة القيام بالتّحويل في وقته وبشكل آلي مثل ما هي الحال بالنّسبة لأجراء القطاع العام الذين يخضعون للاقتطاع الآلي والإجباري شهريّا.
أدّى اختلال التّوازن المالي لصُندوقَي الضّمان إلى عدم صرف حصة الصّندوق الوطني للتأمين على المرض من الاقتطاعات الاجتماعيّة بعنوان التأمين على المرض في القطاعين العام والخاصّ، وجَبر الأضرار (حوادث الشّغل والأمراض المهنيّة في القطاع الخاصّ) والتّأمينات الاجتماعيّة (منحة المرض ومنحة الوضع في القطاع الخاصّ).
يُمثّل الصّندوق الوطني للتأمين على المرض الحلقة الأخيرة في منظومة الحماية الاجتماعية التّونسيّة، أُحدِثَ هذا الصّندوق سنة 2004 بغرض توحيد هياكل التصرّف في نظام التأمين على المرض في القطاعين الخاصّ والعامّ. لا يَملك الصّندوق عجزا فنّيا هيكليّا على عكس صندوقي الضّمان، وقد حقّق سنة 2023 نتيجة صافية إيجابيّة قُدّرَت بـ 1258.5 مليون دينار، وبارتفاع بـ 18.9% مقارنة بسنة 2022، وذلك بسبب تطوّر نسق إيراداته أكثر من نسق تطوّر أعبائه.
غير أنّ الاضطراب على مستوى توازنات الصّندوق الوطني للتأمين على المرض متأتّي من اشتراكاته المقبوضة والغير مُحوّلة من قبل الصّندوق الوطني للضّمان الاجتماعي، والتي تبلغ 2980 مليون دينار سنة 2025، ومن قبل صندوق التّقاعد والحيطة الاجتماعيّة أيضا، حيث تبلغ 7021 مليون دينار في موفّى سنة 2023. أدّى ذلك إلى عدم قدرة صندوق التّأمين على المرض على الإيفاء بالتزاماته الماليّه تجاه مزوّديه من المؤسّسات الصحيّة في القطاعين العام والخاصّ والصّيدليّة المركزيّة، لتبلغ في موفّى 2023 حوالي 2700 مليون دينار. ومَثّل القرار الحكومي لسنة 2015، والذي دعا إلى تحويل حصة [5] [6] التّأمين على المرض لخلاص جرايات التّقاعد مصدر الأزمة الماليّة للصندوق. منذ ذلك الوقت تُركَت منظومة الصحّة العموميّة للانهيار الذي وصل حدّ عدم قدرة المستشفيات العموميّة على اقتناء أدوية أساسيّة بسبب غياب السّيولة.
جذور الأزمة
يذكر أن تونس لا تمثّل استثناءً في العجز الهيكلي لصندوقيْ الضّمان الاجتماعي على المستوى العالمي، وذلك بسبَب التحوّلات الهيكليّة التي فرضها النّظام الرّأسمالي على سوق الشّغل وأنماط الاستهلاك والإنتاج وعلى حركة السلع والرّساميل، وما أنتَجه من فقر وبطالة وهشاشة تبرز حدّتها في الدّول الفقيرة، على نحو يهدّد منظومة الحماية الاجتماعيّة القائمة على التّكافل والتّضامن، بينما تزدهر مؤسّسات التّأمين الخاصّة القائمة على الرّسملة (التّأمين الفردي). في السّياق المحلّي، وإن كانت العولمة مؤثّرة فإنّها ليست محدّدة في مستوى عجز الصّناديق. وتُبيّن المعطيات السّابقة سوء إدارة الملفّ وكيف أنّ الوضعيّة أصبحت شبيهة بكرة الثلج.
في كتابه “الحماية الاجتماعية في خضم التحوّلات الاقتصادية والدّيمغرافيّة (2023)”، يستعرض خالد السّديري المختصّ في مجال الضّمان الاجتماعي، أسباب اختلال التّوازن المالي لأنظمة الضّمان الاجتماعي. على المستوى الدّاخلي، يَذكر الكاتب غياب التّنسيق بين هياكل الحماية الاجتماعيّة التي تنشط بصفة منعزلة عن بعضها البعض، ما أدّى إلى استنزافها ماليّا وإداريّا. علاوة على غياب الحزم في استخلاص ديون الصّناديق المتخلّدة بذمّة الدّولة والأعراف بالتّوازي مع انتشار التهرّب من التّصريح بكافّة الأجراء أو من التّصريح بكامل الأجور، والتهرب من دفع المساهمات في القطاع الخاصّ. يُضاف إلى ذلك التصرّف غير الرشيد في الاحتياطات الماليّة للصّناديق ما أفضى إلى تآكلها، علما وأنّ معايير التصرّف التي أقرّتها منظّمة العمل الدّوليّة تُفِيد بضرورة حفاظ أنظمة الضّمان على احتياطي يكفي للإيفاء بالالتزامات تجاه المضمونين الاجتماعيّين لمدة 36 شهرا.
في السّياق ذاته، خَضعَت مؤسّسات الضّمان الاجتماعي لعدّة إجراءات سياسيّة واقتصادية أضرّت بتوازناتها الماليّة. على سبيل الذّكر لا الحصر، تمّ إحداث أربعة أنظمة تقاعد خصوصيّة للذين تقلّدوا مناصب سياسيّة في الدّولة (النوّاب، الوزراء، العمد، الولاة)[7] [8] تميّزت بالسّخاء على مستوى المنافع المسداة على حساب بقيّة المضمونين. اتّسمت هذه الأنظمة بالعجز تقريبا منذ إحداثها في ثمانينيات القرن الماضي، وناهز هذا العجز سنة 2021، -18.8 مليون دينار. هذا السّخاء في المنافع يشمل أعوان الصّناديق المعفيّين من دفع مساهماتهم الاجتماعيّة منذ 1990. ووفق قانون الاستثمار لسنة 2016، تتكفّل الدولة بدفع مساهمات الأعراف لمدّة ثلاث سنوات، تحت يافطة تشجيع الاستثمار وتحسين نسب التأطير في مناطق التّنمية الجهويّة وفي بعض القطاعات مثل التربية والتعليم العالي، أي أنّ باعثي مؤسّسات التّعليم الخاصّ يتمتّعون بعفو جبائي وعفو اجتماعي.
تُضاف إلى تلك العوامل الذّاتيّة عوامل أخرى موضوعيّة وَلّدت العجز الهيكلي لصناديق الضّمان. وفق الباحث خالد السّديري، سَجَّلَ الصّندوق الوطني للتّقاعد والحيطة الاجتماعيّة أوّل عجز فنّي سنة 1992 بـ4 مليون دينار. سيبدأ العجز في التمدّد منذ سنة 2005، بسبب تطوّر عدد المنتفعين بجرايات بنسق أعلى من تطوّر عدد النّشيطين. هذا النّسق سيُصبح عكسيّا منذ سنة 2018 إثر قرار تجميد الانتدابات، ليتراجع أعوان الوظيفة العموميّة بين 2018 و2023 بـ 106845 عونا، بينما ارتفع عدد متقاعدي القطاع العام المنتفعين بجرايات بـ63154 متقاعدا. أفرز ذلك نزولا متواصلا للمؤشّر الدّيمغرافي للصّندوق (عدد المنخرطين النشيطين الذين يموّلون جراية تقاعد واحدة) الذي انخفض من 8.4 سنة 1986، إلى 2.12 منخرط نشيط عن كلّ منتفع بجراية تقاعد سنة 2021.
يؤكّد خالد السديري أنّ مسار خوصصة القطاع العامّ الذي تبنّته الدّولة منذ برنامج الإصلاح الهيكلي لصندوق النّقد الدّولي سنة 1986، أثّرَ سلبا في المؤشّر الديمغرافي بسبب تسريح العمّال وتقليص الانتدابات وارتفاع عدد المحالين على التّقاعد المبكّر. وبخصوص الصّندوق الوطني للضّمان الاجتماعي، بيّن نفس المصدر أنّ نسبة المباشرين في القطاع الخاصّ تطوّرت بين 2010 و2020 بـ 1.2%، بينما تطوّرت نسبة المنتفعين بجراية على نفس الفترة بـ 5.8%، لينزل بذلك المؤشّر الديمغرافي من 4.69 منخرطا نشيطا يموّلون جراية تقاعد واحدة سنة 2010 إلى 2.91 سنة 2020. كما ساهم تحسّن معدل أمل الحياة عند الولادة البالغ 76.9 سنة (إحصائيّات 2022) في ترفيع مصاريف مؤسّسات الضّمان بسبب ارتفاع سنوات دفع الجرايات، مقابل تقلّص إيرادات هذه المؤسّسات.
تتزامن العوامل الدّيمغرافيّة المذكورة سابقا مع تردّي الوضعين الاقتصادي والاجتماعي، لتُساهم مجتمعة في تدهور وضع صندوق الضّمان الاجتماعي. إذ ارتفعت البطالة من 13 % سنة 2010 إلى 16% سنة 2023. وتوسّعت أنماط التّشغيل الهشّ في القطاع المنظّم، والتي تتّسم عموما بضعف الأجور وعدم الاستقرار في دفع المساهمات. كما أنّ الاقتصاد غير المنظّم حال دون توسيع قاعدة المنخرطين، ويبلغ التّونسيّون العاملون في القطاع الموازي 1.6 مليون عامل وهو ما يمثّل قرابة نصف اليد العاملة النّشيطة في تونس (3.6 مليون مشتغل) سنة 2019، وفق دراسة قام بها المعهد التونسي للدراسات الاستراتيجية التّابع لرئاسة الجمهوريّة. وقد بَلغَت خسائر الصندوق الوطني للضّمان الاجتماعي 1300 مليون دينار سنة 2020 جراء التهرّب الاجتماعي في القطاع غير المهيكل، ما يعادل 143% من العجز المسجّل سنة 2023[5] وفق دراسة أجراها البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة بتونس بالتعاون مع منظمة العمل الدولية.
ورغم الرّهان المجتمعي لمنظومة الضّمان الاجتماعي، إلاّ أنّها لم تكن أولويّة سياسيّة لمختلف الحكومات المتعاقبة التي لم تطرح برامج إنقاذ للصّناديق، ما عدا بعض الإجراءات الظرفية مثل إقرار المساهمة الاجتماعيّة التّضامنيّة سنة 2018 والتّرفيع في نسبة المساهمات بـ 3% والتّرفيع في سنّ تقاعد موظفي القطاع العام إلى 62 سنة في 2019. هذه التّدابير، إضافة إلى كونها حمّلت الأجراء وزر الأزمة فإنها لا تمثّل حلّا مستدامًا. وتمثّل الدّولة الجهة الضّامنة لاستدامة منظومات الضّمان القائمة على النّظام التّوزيعي التّكافلي، وفي هذا الإطار لا يمكن الحديث على نظام حماية اجتماعيّة ناجع وشامل من دون تنمية اقتصاديّة، مع العلم أنّ تونس لا تقدّم جميع المنافع الاجتماعيّة التي تنصّ عليها الاتّفاقيّة الدّوليّة بشأن المعايير الدنيا للضمان الاجتماعي، كما يوجد على أقلّ تقدير مليونان ونصف شخص (وهم العاملون في القطاع غير المنظّم والعاطلين على العمل) بدون أيّة تغطية إجتماعيّة أو صحيّة.
[1] نظام الجرايات المدنيّة والعسكريّة للتّقاعد والباقين على قيد الحياة في القطاع العمومي، نظام التّقاعد لفائدة أعضاء الحكومة، نظام تقاعد اعضاء مجلس نوّاب الشّعب، نظام التّقاعد لفائدة الولاة والعمد.
[2] نظام الجراء في القطاع الفلاحي، نظام الضّمان الاجتماعي للأجراء الفلاحيّين، نظام العملة غير الأجراء في القطاعين الفلاحي وغير الفلاحي، نظام الضمان الاجتماعي الفلاحي المحسّن، نظام الضّمان الاجتماعي لفائدة صغار البحارة والمجهزين، الضمان الاجتماعي لفائدة مجدودي الدّخل، نظام العملة التونسيين بالخارج، نظام الضمان الاجتماعي للطّلبة والمتربّصين، نظام الفنانون والمبدعون والمثقّفون.
[3] لم تنشر وزارة الماليّة جميع الملاحق المصاحبة لقانون الماليّة الماليّة لسنة 2025.
[4] تغاضى التقرير حول المنشآت العموميّة المصاحب لقانون المالية لسنة 2025 عن ذكر مستوى المبالغ المحوّلة من الدّولة لفائدة الصّندوق الوطني للتّقاعد والحيطة الاجتماعيّة في إطار المساهمة الاجتماعيّة التّضامنيّة بالنّسبة لسنتي 2023 و2024.
[5]“أسس استراتيجيّة انتقال نحو اقتصاد مهيكل بتونس”، البرنامج الانمائي لأمم المتحدة بتونس بالتّعاون مع منظّمة العمل الدوليّة، 2023.