يسير لبنان عكس مفاهيم التطوّر التقني فبعدما تمكّن في العام 1910 من إنتاج الكهرباء وإضاءة أول مصباح في بيروت عبر الشركة العثمانية، يغرق اليوم، في القرن الواحد والعشرين في العتمة الشاملة إذ لم ير الناس إلّا نادراً كهرباء “الدولة” منذ أشهرٍ عديدة. وفي ظلّ عجز شركة كهرباء لبنان عن تأمين التغذية بالطاقة الكهربائية والسماح للمولّدات الرديفة بتوليد الكهرباء في ساعات التقنين الطويلة، أصبح المواطن اللبناني أسير هذا “الكارتيل” المحمي من أحزاب سياسية وجهات نافذة، وأحياناً عائلات في بعض المناطق. وقد أدرك أصحاب المولّدات “حاجة” الناس إليهم ففرضوا شروطهم سواء بالتسعيرات العشوائية التي يحددونها ويرفعونها إلى درجة باتت خارج متناول الكثيرين، أو بساعات التغذية التي يتحكّمون عبرها بأنماط عيش المواطنين وسلامتهم الصحية والغذائية، وبمواعيد سهرهم ونومهم، وحتى معايير النظافة بعدما فقدت وحدات سكنية عدة، مع انقطاع التيار الكهربائي، قدرتها على التزوّد بمياه الإستخدام. وقد عمدت الحكومات السابقة إلى إضفاء نوع من الشرعية للحالة الشاذّة التي يشكّلها وجود المولّدات الخاصة، أولاً: عبر آلية تصريح لدى وزارة الاقتصاد صدرت عام 2017 تم تعديلها عام 2018 عبر فرض تركيب عدّادات على أصحاب المولّدات والتقيّد بالسعر التوجيهي الشهري لسعر الكيلوواط/ ساعة الصادر عن وزارة الطاقة بناء على قرار مجلس الوزراء رقم 2 الصادر في تاريخ 14/12/2. وكلّف مجلس الوزراء حينها “وزارات الطاقة والمياه والاقتصاد والتجارة والداخلية والبلديات اتخاذ التدابير والإجراءات اللازمة لضبط تعريفات المولدات الكهربائية الخاصة وإلزام أصحابها باعتماد الأسعار التوجيهية الصادرة عن وزارة الطاقة والمياه وتكليف وزارة الاقتصاد والتجارة – مصلحة حماية المستهلك السهر على منع الغش في بيع أنواع المحروقات كافة واتخاذ التدابير القانونية بحق المخالفين”. كان يفترض أن تحمي هذه القرارات مصالح المواطنين وتضبط جشع أصحاب المولدات لكنها من جهة حمّلت المستهلك كلفة تركيب العدادات والتمديدات وفرضت عليه تأميناً مسبقاً، ومن جهة أخرى التزم عدد قليل من أصحاب المولّدات بها سواء لجهة رفض تركيب عدادات أو لجهة عدم الالتزام بتعرفة الوزارة التي يعتبرونها “جائرة” بحقهم وتكبّدهم الخسائر بدل أن تدرّ عليهم الأرباح، ولا تواكب المتغيّرات الطارئة على البلاد من ارتفاع أسعار المحروقات وتغيّر سعر صرف الدولار، على حد قولهم. حجج يدحضها مستشار وزير الطاقة والمياه، خالد نخلة، الذي يفسّر في اتصالٍ مع “الفكرة” أنّ احتساب سعر الكيلوواط في الشهر يواكب جميع المتغيّرات”. اليوم باتت “فاتورة الموتير” تأخذ من درب الحاجات الأخرى للناس ومن بينها الرعاية الصحية فيما خفّض البعض عدد الأمبيرات التي يشتركون فيها إلى الحد الأدنى أي أمبيرين وبالتالي إلغاء الكثير من الآلات الكهربائية مثل البراد أو إيقاف الاشتراك نهائياً والبقاء حرفياً على العتمة. وإضافة إلى الضريبة المادية، يرتفع التلوّث في المناطق التي تتركّز فيها المولّدات أي في المدن ولا سيّما بيروت حيث 40% من الملوثات الخطيرة تصدر عن المولّدات وهي مواد مسببة للسرطان والتشوهات. وبالتالي فإنّ “فاتورة الموتير” يدفعها الناس من جيوبهم ومن صحّتهم.
في المقابل، لجأ من هو قادر، إلى تركيب ألواح طاقة شمسية. وقد تجاوز عدد الوحدات السكنية والإنتاجية التي تقوم بإنتاج الطاقة البديلة، بحسب رئيس المركز اللبناني لحفظ الطاقة بيار خوري، 35 ألف وحدة لغاية العام 2022. وقد أطلقت مؤسسة القرض الحسن قرض الطاقة الشمسية، فقدّمت التسهيلات بالدفع مع إطالة مدة التسديد، وقد بلغ عدد المستفيدين من قرض الطاقة في المؤسسة 11500 بقيمة إجمالية بلغت 45 مليون دولار. كذلك أطلق مصرف الإسكان قرض الطاقة الشمسية عبر الموقع الإلكتروني الذي زاره أكثر من 180 شخصاً، وتقدّم أكثر من 120 ألفاً بطلبات للحصول على الموافقة. نستعرض في الجزء الأول من هذا التحقيق شهادات الناس الرازحين تحت سيف انقطاع التيار الكهربائي من جهة وارتفاع فاتورة الموتير من جهة أخرى كما نعرض شهادات لمواطنين يعيشون حرفياً في العتمة بعدما عجزوا عن دفع فواتير الموتير. كما نقف عند الضريبة البيئية للمولّدات التي تسبب الانبعاثات الخارجة منها الأمراض ومنها أمراض الجهاز التنفّسي والحساسية وصولاً إلى السرطان. وفي الجزء الثاني نستعيد محاولات التنظيم التي قامت بها الوزارات المعنية وفشلها في حماية المستهلك وضبط الأسعار في ظلّ استقواء أصحاب المولّدات والزبائنية التي جعلتهم أسياداً على الدولة والناس يفرضون شروطهم وأسعارهم وبالتالي يفرضون على الناس نمط عيش معيّناً.
كلّن يسعّر على ليلاه
يتقاسم أصحاب المولدات الكهربائية “الرديفة”، الأحياء والشوارع في ما بينهم، ويجبر سكان كل حيّز جغرافي على التعامل مع صاحب المولّد “المشغّل” لحيّهم، وغالباً ما يكون هؤلاء من أصحاب النفوذ في المنطقة أو تابعين لأحزاب أو جهات نافذة، أو عائلات كبيرة. ولا يمكن للسكان مد اشتراكات من صاحب مولّد خارج حيّهم في حال اعتراضهم على طريقة إدارة المولّد، فالبديل عنه هو العتمة. من هنا، وبعد أن سلب المواطن من حقه في الكهرباء العامة، سلب صاحب المولّد إرادته وحقّه في اختيار صاحب المولّد الذي يريد التعامل معه.
ويخالف معظم أصحاب المولدات، منذ عقود، جميع القرارات الصادرة عن الوزارات المعنية، فبعضهم يرفض الالتزام بتركيب عدادات ويفضلون اشتراكاً “مقطوعاً”، ومنهم من يجبر المشتركين على دفع فواتيرهم بالدولار وليس بالليرة اللبنانية، خلافاً لقرار وزارة المالية الذي يحظر على أصحاب المهن التجارية إصدار فواتير بغير الليرة اللبنانية، ومنهم من ارتأى فرض “مقطوعة” حتى على المشتركين بالعداد الذين قاموا بتركيب ألواح طاقة شمسية.
وعلى الرغم من وجود تسعيرة توجيهية للمولّدات ورغم القرارات والتعميمات التنظيمية، إّلا أنّ معظم أصحاب المولّدات يسعّرون على هواهم ولا يلتزمون بتسعيرة وزارة الطاقة، فتختلف التسعيرة بحسب مدى أخلاقية صاحب المولد. فعلى الرغم من أنّ ثمن المحروقات واحد وعلى الجميع، إلّا أنّ لكلّ واحد منهم تسعيرته وطريقته في احتساب قيمة الكيلوواط.
حاولت “المفكرة” رصد الاختلاف بالتسعيرات بين المناطق اللبنانية، لتجد أنّ سعر الـ 5 أمبير يتراوح بين 150 دولاراً في منطقة بشامون بساعات تغذية لا تتجاوز خمس ساعات خلال 24 ساعة، و125 دولاراً في الحمراء لـ 10 ساعات تغذية، و120 دولاراً في دوحة الحص مقابل 7 ساعات تغذية، وفي جبيل 8 ملايين ليرة مقابل 7 ساعات تغذية، وفي بعلبك بلغت تسعيرة الـ 5 أمبير ثلاثة ملايين ليرة لبنانية مقابل 7 ساعات تغذية. أما في صور فالتسعيرة تحدّدها لجنة خاصة كلّفتها البلدية لمتابعة ملف المولدات، وبلغت 9700 ليرة لبنانية للكيلوواط الواحد عن شهر أيلول. بعض أصحاب المولدات قرّر التخلّي كلياً عن هذه المهنة بسبب ارتفاع أسعار المحروقات فقطع الاشتراك عن السكان الذين أضحوا فجأة بلا كهرباء، ويتولّى عدد من بلديات القرى الجنوبية تشغيل المولّد الكهربائي الذي حصلت عليه كهبة من دولة إيران، ولا يحتسب هامش الربح من فاتورة المشتركين، بل تكتفي البلدية بتحصيل ثمن المحروقات التي صرفت.
مواطنون يقلّصون استهلاكهم
تقول الحاجة وداد من سكان الرمل العالي في ضاحية بيروت الجنوبية إنّها مع اشتداد وطأة الأزمة الاقتصادية وارتفاع أسعار اشتراك المولّد، خفّضت اشتراكها من خمسة أمبير إلى أمبير واحد، مع اعتماد العدّاد “أنا مركبة عداد بدي بس ضوي لمبة بالليل، قلتلو مدلّي واحد امبير”، إلّا أن صاحب المولد الذي وجد فاتورتها منخفضة لا تتجاوز 300 ألف ليرة، أجبرها على الاستهلاك بقيمة مليون ليرة، “قال بدك تصرفي أكثر مش بس تضوّي لمبة، وقال لأن رح ادفع المليون ليرة صرفت أو ما صرفت”. التزمت وداد بالتسعيرة وباتت تشغّل المروحة قليلاً، إلاّ أنها تغسل ملابس عائلتها بيديها، وتستحم بمياه باردة، فهي حتى لا تستطيع تسخين المياه على الغاز لغلاء القارورة أيضاً. أما زينب التي تسكن في منطقة طريق الجديدة، فتقول إنّ صاحب المولّد يعمد إلى تشغيله من الساعة السابعة عصراً إلى منتصف الليل، وأنّها طيلة فصل الصيف لم تذق طعم المياه الباردة كونها لم تتمكّن من تشغيل البراد، وأنّ جميع الأعمال المنزلية التي تحتاج إلى كهرباء كالغسيل والكوي، باتت تقوم بها في الليل، بعد انتهاء دوام عملها، فتغيّر نمط حياتها إذ بدل أن ترتاح وتمضي وقتها مساء مع عائلتها، زادت مشقّتها في العمل المنزلي الليلي. ويقول عماد إنّ أطفاله عانوا صعوبة في النوم بسبب الحرّ الشديد فكانوا يستيقظون في الليل حين ينقطع الاشتراك عند الساعة الثانية عشر ليلاً، ولا يتمكنون من النوم إلاّ عند ساعات الفجر، وقد لجأ عماد إلى طرق بدائية وغريبة منها النوم على البلاط، أو النوم بملابس مبللة فيما جيرانهم كانوا ينامون على سطح البناية “يطلعوا يفرشوا عالسطح تحت السما والنجوم”. كذلك أثر ارتفاع كلفة الاشتراك وساعات التغذية الكهربائية على إنتاجية العمل لدى أصحاب المؤسسات الصغيرة والحرة، فيقول عيسى الذي يملك محل بقالة، ويشترك بالعداد، إنّ قيمة فواتيره فاقت عشرة ملايين ليرة في الشهر، ما اضطرّه إلى الإبقاء على برادٍ واحدٍ، فتخلّى عن بيع جميع المنتجات الغذائية التي تحتاج للتبريد منها الألبان والأجبان والمثلجات وغيرها، ما قلّص من عدد زبائنه و قيمة مبيعاته. إلاّ أنّ الأخطر كان تأثير الكهرباء على الوضع الصحي، فتقول ميسا إنّ زوجها يحتاج ليحيا، إلى الأوكسيجين طيلة الليل والنهار، إلّا أنّ المولد زاد من التقنين، ما اضطرّها إلى استئجار قارورة أوكسجين لا تحتاج إلى كهرباء بكلفة تتجاوز 100 دولار أميركي شهرياً عدا عن فاتورة تعبئتها. رقية التي تحتاج أيضاً إلى ماكينة اوكسيجن خلال النوم، تعيش في بلدة برجا، حيث يتقاسم أحياءها اثنان من أصحاب المولدات، الأول يمدّ مشتركيه بساعات تغذية تصل حد السبع ساعات، أما الثاني والذي تشترك رقية معه، فقرر تشغيل المولّد لمدة ساعتين خلال 24 ساعة، وهو وقت لا يكفي لشحن بطارية ماكينة الأوكسيجين، فبقيت لأكثر من شهر تلجأ إلى أصحاب المطاعم والمقاهي والمحطات كي تشحن بطاريتها، ولم “يأذن” لها صاحب المولّد “المسؤول” عن حيّها مد اشتراك من الحي الثاني، رغم تقديمها الأعذار، إلى أن فرضت عليه البلدية ذلك بعد تدخلات عدة من وجهاء البلدة.
شهادات ناس في العتمة
من جهة ثانية قرر عدد كبير من أصحاب المولدات إطفاءها نتيجة ارتفاع أسعار المحروقات، وتدنّي القدرة الشرائية عند المواطنين وتخلّيهم عن الاشتراكات، ما قلّص من نسبة أرباح أصحاب المولدات وفي بعض الأحيان تسبّب لهم بالخسارة كما أفاد صاحب أحد المولدات. وهذا ما حدث في مدينة الهرمل التي قرر جميع أصحاب المولدات فيها إطفاء مولّداتهم وترك الناس تواجه العتمة. تقول أنصار وهي من سكان الهرمل إنّها لم تتمكن من تركيب نظام لتوليد الطاقة أسوة بعدد كبير من سكان المنطقة، فهي اليوم “تتدبّر” حياتها بلا كهرباء، “لا براد لا قازان ولا حتى غسيل”، وتضيف أنها في الليل تستعين بالشمع، وغالباً ما تخلد إلى النوم عند الساعة الثامنة مساءً، أو تجلس على الشرفة تسهر على ضوء كهرباء جيرانها الذين يمتلكون نظاماً للطاقة الشمسية. وهو حال كثر من الأهالي الذين لا يملكون مصادر طاقة فيأوون إلى فراشهم مع حلول المغيب. يفسر ربيع صاحب أحد المولدات في منطقة الهرمل أنّه اضطر قبل تسعة أشهر إلى إطفاء مولّده بعدما تراجعت نسبة أرباحه من أربعة آلاف دولار في الشهر قبل الأزمة إلى خسارة قدرها 82 مليون ليرة في غضون شهرين. يقول ربيع لـ “المفكرة” أنّه من أصحاب المولدات الذي يلتزم بجميع قرارات الدولة، إلّا أنّ حتى هذه الفاتورة “القانونية” باتت مرتفعة على الأهالي الذين تخلّى كثر منهم عن الاشتراكات، ما قلّص هامش الربح. ويضيف أنّه فضّل إطفاء مولّده على الاستمرار في تكبّد الخسارة. ويروي أنّ السكان يتعاونون مع بعضهم البعض فعمدت العائلات العاجزة عن تركيب طاقة شمسية، إلى شراء “لمبة” توفير تقوم بشحنها عند جيرانها الذين يعتمدون على الطاقة الشمسية. ويعتبر ربيع أن الخوف الأساسي هو خلال الأشهر المقبلة مع حلول فصل الشتاء حين تحلّ العتمة باكراً. فاطمة التي تسكن في صيدا، اضطرّت إلى إلغاء اشتراك المولّد، وتقول لـ”المفكرة” إنّ انقطاع التيار الكهربائي واستغناءها عن المولّد حرما أطفالها من الأكل الصحي. فنتيجة عدم قدرتها على حفظ الأطعمة بشكل سليم تخلّت عن تلك التي تحتاج إلى برّاد ومنها الألبان والأجبان واتجهت نحو المأكولات المحفوظة. وقد تسبّب لهم ذلك بوعكات صحية عدّة، “صراحة كنا عم نقضيها عند الدكاترة عم ناكل معلبات أو طبخة ما بتضلّ لثاني يوم”. أما علياء فتقول إنّ “الدولة” أعادت السكان 100 سنة إلى الوراء، فهي اليوم تلجأ للغسيل اليدوي، كذلك تضع غالونات المياه في الشمس كي يستحم أولادها بمياه فاترة بدلاً من الباردة. وهي تطبخ بشكل يومي وبكميات صغيرة جداً. كما ولّدت أزمة الكهرباء لهم أزمة مياه، بعدما عجزوا عن ضخ المياه من البئر الارتوازي إلى الخزانات، فعادت كأيام الحرب الأهلية تعبّئ المياه بغالونات من “سبيل ماء” شيّده أحدهم عن روح والدته. وتعيد استعمال المياه مرات عدة ، فتعيد استخدام مياه غسل الخضار لري المزروعات.
ضريبة بيئية وصحية مرتفعة
منذ نزلت من بلدتها في البقاع قبل سنة للعيش في بيروت بهدف العمل، تشعر ليلى بضيق في التنفّس. حين زارت الطبيب لاحظ تضخّم جيوبها الأنفية، فطرح أسئلة عليها من بينها “ماذا تغيّر في حياتك” في الآونة الأخيرة وهل غيّرتِ مكان سكنك وحين أجابته بأنها انتقلت إلى بيروت، طلب منها أن تصف الحي الذي تعيش فيه قبل أن يسألها عمّا إذا كان هناك مولّدات قريبة من منزلها، فبدأت العد: مولّد الجيش، مولّد البناية المجاورة، مولّد في المبنى المقابل، مولّد رئيسي في الحي الملاصق.. قاطعها الطبيب وسجّل اسم بخّاخ للأنف وطلب منها أن تستعمله بشكل دائم طيلة حياتها أو إلى حين عودتها إلى القرية. لحسن حظ ليلى أنّ الأثر الصحي عليها اقتصر على تضخّم الجيوب الأنفية، فالملوّثات التي تصدر عن المولّدات نتيجة احتراق الفيول تسبب أمراضاً أصعب في الجهاز التنفّسي تصل إلى السرطان. تقول ليلى لـ “المفكرة” إنّ الأمر لا يقتصر على ضيق التنفّس، فصوت المولّد القريب مرتفع إلى درجة أنّها تغلق النوافذ من الجهة المقابلة له ولا تصدّق أن يأتي يوم العطلة لتهرع إلى منزلها في الريف كي تنعم بنوم هانئ. ومؤخراً ونتيجة ازدياد ساعات التغذية من المولدات نتيجة غياب كهرباء “الدولة” زادت كمية الملوّثات والغازات المنبعثة. ويفيد الخبير البيئي، ناجي قديح، في اتصالٍ مع “المفكرة” أنّ تشغيل المولّدات ينتج عنه نوعان من التلوث، الأول هو “تلوث صوتي” وله تأثيره السلبي على الجهاز العصبي إذا كان ضجيجاً معتدلاً على فترة طويلة، أما الضجيج المرتفع فله أثره السلبي على طبلة الأذن. أما نوع التلوّث الثاني فيكمن في الانبعاثات والجزئيات الناتجة عن احتراق الفيول، “عم نحرق مازوت في بقايا أملاح ومعادن وترسّبات، كل ما كان المازوت رديئاً تكون الترسبات أعلى”، وهذه الانبعاثات بحسب قديح هي نوعان: الأولى ناتجة عن الاحتراق (ثاني أوكسيد الكربون وثاني أوكسيد النيتروجين وثاني أوكسيد الكبريت) ولها تأثير سلبي على الصحة. والثانية هي بالجزئيات الكبيرة والصغيرة الناتجة عن عملية الاحتراق غير الكامل (كربون وفحم غير محترق). وغالباً ما يتكفّل الجهاز التنفسي العلوي (الأنف) بطرد الجزيئات الكبيرة، أما الجزئيات الصغيرة فيتم تنشّقها بسهولة، ما يؤثر على الرئتين ويضعف الجهاز التنفسي.
وقد أظهرت دراسة صادرة في العام 2021 عن الجامعة الأميركية بإشراف أستاذة مادة الكيمياء المتخصصة بالتلوث الهوائي والنائبة د. نجاة صليبا، بعنوان “تحديد النقاط الساخنة لتلوث الهواء في المناطق الحضرية من خلال نمذجة التشتت عندما تكون البيانات ناقصة: التطبيق على مولدات الديزل في بيروت، لبنان”، أنّ الملوّثات الرئيسية للغلاف الجوي في لبنان هي: خارجية: عواصف الغبار التي تهبّ من الصحراء العربية، وداخلية: زحمة السير والمولّدات العاملة على الديزل. وتشير الدراسة إلى أنّ بيروت تعاني من مستوى عالٍ لتركّز الجزيئات الدقيقة PM2.5 يتجاوز بـ 150% المعدّل الذي وضعته منظمة الصحة العالمية. وتقول صليبا في اتصالٍ مع “المفكرة” إنّ لبنان يشهد تلوّثاً حاداً في الهواء زاد بمعدل 8 أضعاف عمّا كان عليه سابقاً وذلك نتيجة انقطاع الكهرباء وتشغيل المولّدات لمدة أطول. ولفتت إلى أنّ 30% من ملوّثات الهواء في بيروت سببها المولدات وهي تتسبب بأمراض خطيرة مثل سرطان الرئة والجهاز التنفسي وأمراض القلب والأوعية الدموية. وتضيف صليبا أنها تقدمت باقتراح إلى وزير البيئة ناصر ياسين يوصي باستبدال الفلتر الواجب على أصحاب المولدات تركيبه والذي يخفّف انبعاثات الجزيئات الكبيرة، بآخر يسمّى soot filter يعالج الجزيئات الكبيرة والدقيقة وهي الأخطر على الصحة، بحسب قولها. وبحسب دراسة سابقة للجامعة الأميركية، نشرت في العام 2012 حول نوعية الهواء في منطقة الحمراء، في بيروت، تبيّن أن حوالي 40% من ملوثات الهيدروكربونات العطرية في الغلاف الجوي لمنطقة الحمراء تصدر عن المولّدات وهي مواد مسببة للسرطان والتشوهات، وأن أكثر من 96% من سكان العاصمة معرضون لتنشق أكثر من 40 ميكروغراماً في المتر المكعب الواحد من الغازات الملوثة على مدار السنة، وهو يتخطى بأشواط الحد الآمن للتلوث الذي وضعته وكالة حماية البيئة الأميركية، البالغ 12 ميكروغراماً لكل متر مكعب. وتعتبر صليبا أنّ هذه النسبة قد زادت كثيراً اليوم، وأنهم في الجامعة الأميركية اليوم يعملون على إجراء مسحٍ جديد لتحديث النتائج. ويعتبر قديح أنّ هناك إجراءات تخفّف من حدة التلوث منها: تركيب كاتم للصوت وفلتر للغازات المنبعثة، إضافة إلى رفع الدواخين، إلاّ أنّ الأجدى من كل هذا هو عودة كهرباء “الدولة” والتخلي عن المولدات. يعني عم تحطي فلتر والموتور تحت شباكنا شو بدنا نخفف لنخفف”.
وزارة البيئة تصدر التعاميم والبلديات أيضاً عاجزة
وكانت وزارة البيئة في العام 2011 قد أصدرت، بعد شكاوى عديدة من التلوث والضوضاء اللذين تسببهما المولّدات، تعميماً إلى أصحاب المولّدات بـ “الالتزام بالشروط الفنية المطلوبة في تشغيل واستثمار المولدات الكهربائية” وإلى البلديات والإدارات المحلية “لفرض التدابير المحلية لمنع التلوث الناتج عن تشغيل واستثمار المولدات الكهربائية، وفي حال تعذر على البلدية القيام بذلك لأسباب تقنية فقط، تكلّف خبراء/استشاريين متخصصين للقيام بهذه المهمة، على نفقة مشغل و/أو مستثمر المولد الكهربائي”. وبحسب رئيس بلدية الغبيري، معن خليل، لـ”المفكرة” تتحرّك البلدية عند ورود شكوى من المواطنين حيث تحاول رفع الضرر في البداية وصولاً إلى توجيه إنذار وتسطير محاضر بحق المخالفين. ولكنه لفت إلى أنّ بلديّته تعاني من نقص الموارد البشرية المتخصصة لمراقبة وقياس التلوث الناتج عن المولّدات. لذلك تمّ إرسال كتاب إلى وزارة البيئة لإرسال أخصائيين يكشفون على المولدات والتزامها بالمعايير البيئية وقياس نسبة تلوث المازوت وغيرها. بدوره مدير مصلحة المؤسسات المصنّفة في بلدية بيروت، المهندس باسم العويني، يشير إلى أنّه ورد إلى قسم الشكاوى البالغ عدد موظفيه ثمانية، منذ بداية العام 2022 حوالي 260 شكوى جلّها حول الالتزام بتركيب العدادات، والمعايير البيئية وغيرها. وكان محافظ بيروت أصدر تعاميم عدّة لضرورة الالتزام بتركيب العدادات، وكذلك الفلاتر البيئية، وهو يقوم باستقدام عروض من الشركات للاطّلاع على أسعار الفلاتر بهدف إلزام أصحاب المولدات بها تحت طائلة الحبس. ويشير العويني في اتصال مع “المفكرة” إلى أنّ البلدية تراقب كيفية تصريف الزيوت المستهلكة الملوّثة الناتجة عن تشغيل المولد، عبر الاطلاع على محاضر تسليمها إلى شركات مرخصة من وزارة البيئة والصناعة.
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.