على الرغم من مناخ الاعتقالات العشوائية وسقوط العديد من القتلى في صفوف المتظاهرين السلميين، فقد لاقى مرسوم رفع حالة الطوارئ بتاريخ إصداره (21/4/2011) استحساناً من طرف بعض أطياف المعارضة التقليدية التي لم تكف عن المطالبة خلال العقود الماضية بوضع حدّ للانتهاكات المختلفة التي تكرّسها حالة الطوارئ المعلنة، منذ سيطر حزب البعث على السلطة، بموجب الأمر العسكري الرقم 2 الصادر عن المجلس الوطني لقيادة الثورة بتاريخ 8 آذار/مارس 1963. إلا أن الارتياح إزاء إصدار هذا المرسوم سرعان ما تبخر في ضوء الانتهاكات الواسعة ضد الحراك الحاصل في 2011 لينتهي الى خيبة كبيرة مع إصدار المرسوم 55 الخاص بمكافحة الإرهاب والذي آل عملياً الى نتائج مشابهة للحالة السائدة سابقاً في ظل حالة الطوارئ.
حالة الطوارئ: عقود من غياب الشرعية القانونية
أتاح القانون المؤسس لحالة الطوارئالرقم 51 الصادر بتاريخ كانون الأول/ديسمبر 1962، انتهاك الحريات والحقوق الأساسية للمواطنين انتهاكاً ممنهجاً، ما أدى إلى تعطيل أحكام الدستور لعقود من الزمن. فبموجب أحكامه، يُعطى الحاكم العرفي، الذي يعيّنه رئيس مجلس الوزراء، ونوابه صلاحيات واسعة جداً. فله ولنوابه أن يفرضوا قيوداً مهمة على الحرية الشخصية وحرية التنقل والاجتماع والإقامة ووسائل الإعلام والتعبير. كما تنصّ المادة الرابعة منه على”مراقبة الرسائل والمخابرات أياً كان نوعها، ومراقبة الصحف والنشرات والملفات والرسوم والمطبوعات والإذاعات وجميع وسائل التعبير والدعاية والإعلان قبل نشرها ….”. ويجوز أيضاً “الاستيلاء على أي منقول أو عقار وفرض الحراسة المؤقتة على الشركات والمؤسسات وتأجيل الديون والالتزامات المستحقة والتي تستحق على ما يجري الاستيلاء عليها”. وأخطر هذه الصلاحيات، ما يجوز للحاكم العرفي أو نائبه، من دون الرجوع إلى القضاء، بإصدار أوامر بتوقيف” المشتبه فيه أو الخطرين على الأمن والنظام العام توقيفاً احتياطياً، والإجازة في تحري الأشخاص والأماكن في أي وقت، وتكليف أي شخص بتأدية أي عمل من الأعمال“. وبذلك تعطّل القضاء العادي وأُعطي للحاكم العرفي صلاحية إحالة الأشخاص إلى القضاء الاستثنائي العسكري مهما كانت صفة الفاعلين، وذلك في حال مخالفة أوامره، أو في ما إذا قدّر بأن الجرائم واقعة على أمن الدولة أو السلامة العامة أو السلطة العامة أو المخلة بالثقة العامة أو التي تشكل خطراً شاملاً.
وقد صدرت، في غضون سنة واحدة من إعلان حالة الطوارئ، مجموعة من القوانين المكبلة للحريات والهادفة أساساً إلى تعزيز القوانين الاستثنائية، وبالتالي الوجود السياسي لحزب البعث. هذا واعتمد قانون حماية الثورة (1964) الذي نصّ على تجريم كل من يناهض أهداف الثورة ويقاوم النظام الاشتراكي بالقول أو الكتابة أو الفعل ومعاقبته بالسجن المؤبد أو حتى الإعدام في بعض الحالات. كماصدر قانون إحداث محاكم الأمن الاقتصادي بالمرسوم التشريعي الرقم /46/ تاريخ 8/8/1977 الذي تشكلت بموجبه محكمة استثنائية كان ضحاياها آلاف السوريين المتهمين بموجب بعض مواد قانون العقوبات الاقتصادي الفضفاضة، كالمادة 13 التي تخضع “مقاومة النظام الاشتراكي” لعقوبة تصل الى خمسة عشر عاماً. كما صدر القانون الخاص بأمن حزب البعث العربي الاشتراكي الرقم /52/ لعام 1979 والذي نصّت المادة /9/ منه على الاعتقال لمدة لا تقل عن خمس سنوات عن كل فعل يقصد منه منع حزب البعث من ممارسة مهامه المنصوص عليها بالدستور والقانون، وبالإعدام إذا اقترن الفعل بالعنف.
وكان لا بدّ من تعزيز وجود المحاكم الاستثنائية لإحكام سيطرة نظام البعث الجديد وضمان تبعية القضاء المطلقة للسلطة التنفيذية ممثلة برئيس الجمهورية أو من يمثله أي الحاكم العرفي. وفي هذا الإطار شُكّلت محكمة أمن الدولة العليا التي بُنيت أساساً على حالة الطوارئ في البلاد، وذلك بحسب المرسوم الرقم47 لعام 1968المنشئ لها والذي ينصّ بمادته الأولى على أنّ إحداث المحكمة يتم “بأمر من الحاكم العرفي” وأن تعيين أعضائها ومن يمثل الحق العام فيها يتم من طرف رئيس الجمهورية.واختصّت المحكمة بالنظر بجميع القضايا التي يُحيلها إليها الحاكم العرفي أو نائبه وكذلك في القضايا التي كانت من اختصاص المحكمة العسكرية الاستثنائية التي ألغيت لتحلّ محلها محكمة أمن الدولة هذه. وظهرت بشكل ملحوظ المحاكم العسكرية والميدانية التي عزّز وجودها المرسوم109 لسنة1967 ، ما أدّى إلى إحلال القضاء الاستثنائي ذي الصلاحيات الواسعة في محاكمة المدنيين، محل القضاء العادي.
نجم عن تطبيق حالة الطوارئ آثار سلبية شديدة، من تعزيز وجود التشريعات والقضاء الاستثنائي إلى رضوخ السلطة القضائية للسلطة التنفيذية وما تبع ذلك من استصدار الأحكام الجائرة بحق نشطاء المجتمع المدني وزج الآلاف من أصحاب الرأي والضمير في السجون في ظل محاكمات افتقرت لأدنى شروط المحاكمة العادلة، ما كرّسالاستبداد في البلاد. وتجدر الإشارة هنا الى أنّ التشريعات والقضاء السوري غير الاستثنائي شكّلا ولا يزالان حتى يومنا هذا، سنداً للنظام السوري لما اُستُصدر بمقتضى حالة الطوارئ. فقد حكمت المحاكم السورية العادية على العديد من السياسيين والناشطين الحقوقيين بموجب مواد قانون العقوبات السوري،كالمادة 287التي تجرّممن ينشر “أنباء كاذبة أو مبالغاً فيها من شأنها المس بهيبة الدولة ” والمادة 286 المجرمة لمن ينقل “أنباء كاذبة من شأنها أن توهن نفسية الأمة”.
ولا بدّ من التأكيد على عدم دستورية وبطلان حالة الطوارئ التي كانت مفروضة في البلاد، وذلك على عدّة أصعدة. فوفق المادة الثالثة من قانون حالة الطوارئ الرقم /51/، يقتضي أن تعلن حالة الطوارئ “بمرسوم يتخذ في مجلس الوزراء المنعقد برئاسة رئيس الجمهورية وبأكثرية ثلثي أعضائه، على أن يُعرض على مجلس النواب في أول اجتماع له”.ومع ذلك لم يتدخل مجلس النواب لاعتماد المرسوم في مخالفة صريحة لنصّ هذه المادة. كما أنّ أحكام قوانين الطوارئ متعارضة مع العديد من بنود دستور سوريا لعام 1973، ولا سيما منها المادة28 التي تّنص على أنّ “كل متهم بريء حتى يُدان بحكم قضائي مبرم” والمادة 32التي تكفل “سرية المراسلات البريدية والاتصالات السلكية” وكذلك المادة 33 المتعلقة بحق كل مواطن بالتنقل والمادة 38 التي تشير إلى حق كل مواطن في أن يعرب عن رأيه بحرية وعلنية بالقول والكتابة وكل وسائل التعبير الأخرى. ومع ذلك، ونظراً لعدم استقلالية القضاء ولتغييب دور المحكمة الدستورية، لم يتم استبعاد أي من تشريعات حالة الطوارئ من طرف الجهاز القضائي.
وما يعزز بطلان تشريعات الطوارئ، مخالفتها للعديد من الاتفاقيات الدولية الملتزمة بها الحكومة السورية، ومنها العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية. فإذ أجاز العهد المذكور، الذي صادقت عليه الحكومة السورية عام 1969، في مادته الرابعة للدولة الطرف في “حالات الطوارئ الاستثنائية التي تتهدد حياة الأمة، والمعلن قيامها رسمياً بأن تتخذ، في أضيق الحدود التي يتطلبها الوضع، تدابير لا تتقيد بالالتزامات المترتبة عليها بمقتضى هذا العهد، شريطة عدم منافاة هذه التدابير للالتزامات الأخرى المترتبة عليها بمقتضى القانون الدولي”. وتؤكد الفقرة الثانية من المادة نفسها ضرورة عدم مخالفة أي تشريع يُتخذ في حالة الطوارئ لأحكام بعض مواد العهد التي تنصّ على حقوق أساسية للإنسان[1]. وبذلك من الجلي أن تشريعات قانون الطوارئ الحالي تتعارض مع نصّ المادة الرابعة من هذا العهد لسببين رئيسين: أولهما استمرار تطبيق حالة الطوارئ لمدة 49 عاماً، وهو ما أفقدها الصفة الاستثنائية المؤقتة بعكس ما أجازه العهد، وثانيهماتعارض جلي لنصوصها مع بعض الحقوق الأساسية للإنسان التي أشارت إليها الفقرة الثانية من المادة الرابعة المذكورة أعلاه.
من حالة الطوارئ إلى مكافحة “الإرهاب”
وعلى الرغم من قرار رفع حالة الطوارئ، فقد أشارت جميع المعطيات على أرض الواقع الى استمرار تطبيق بنود قانون الطوارئ المقيدة للحريات، بما فيها مراقبة الاتصالات وتقييد الحركة وانتهاك حرمة المنازل والقيام بالاعتقالات التعسفية من دون مذكرات قضائيةووقف المعتقلين لمدد طويلة دون عرضهم على القضاء[2]. ومع ذلك، عولج تشريعياً الحدّ من صلاحية الأجهزة الأمنية بعد رفع حالة الطوارئ، وذلك من خلال استصدار المرسوم الرقم 55 الخاص بمكافحة الإرهاب. فقد أضاف هذا الأخير إلى المادة 17 من قانون أصول المحاكمات الجزائية فقرة قانونية بتخويل “الضابطة العدلية أو المفوضون بمهامها” أي الأجهزة الأمنية، إمكانية التحفظ على المشتبه فيهم لمدة قد تصل الى ستينيوماًيكون خلالها الموقوففي عزلة عن العالم الخارجي، وبالتالي معرضاً لانتهاك حقوقه الأساسية.
ويبدو أنّ هذا المرسوم لم يكن كافياً لمواءمة البنية الاستبدادية للنظام السوري الذي بدأ باعتماد ترسانة من المراسيم القمعية الأخرى للحفاظ على وجوده السياسي، وذلك تبعاً لاختلاف المعطيات الميدانية. فبعد قرار رفع حالة الطوارئ وإلغاء محكمة أمن الدولة، كان لا بدّ من إيجاد بديل تشريعي يمنح النظام أدوات مشابهة لضمان استمرار سيطرته على مقاليد الحكم وسحق المعارضة الشعبية في سوريا. وقد تمثّل هذا البديل باستصدار القانون الرقم /19/ لعام 2012الخاص بمكافحة الإرهاب الذي مهّد لاستصدار مرسوم لإنشاء محكمة تختص بالنظر في قضايا الإرهاب وهي عملياً المحكمة التي ورثت بامتياز الوظائف القمعية المناطة سابقاً بمحكمة أمن الدولة الملغاة. وقد كان النظام وحلفاؤه يعملون بجهد لتصوير المعركة بأنها موجّهة حصراً ضد “مجموعات إرهابية مسلحة“، ولا سيما بعد الحملة الشرسة لبعض وسائل الإعلام لشحذ الرأي العام، سواء داخل سوريا أو خارجها، وما رافق ذلك من حالة الانفلات الأمني التي أدت إلى انتشار عصابات مسلحة تقوم بعمليات خطف وسرقة، وأيضاً وصول العديد من الجهاديين المتطرفين إلى سوريا.
وتجدر الإشارة في هذا الإطار إلى الخلاف في الأوساط المحلية والدولية على تحديد تعريف واضح للإرهاب، وكذلك ضرورة تمييزه عن الكفاح المسلح للشعوب من أجل تقرير مصيرها أو تحقيق التحرير الوطني. فمثلاً وعلى خلاف توصيف النظام للأحداث، فقد أشار الصليب الأحمر الى أنّ ما يجري في سوريا نزاع مسلح، مؤكداً ضرورة التزام كل الأطراف بالقانون الإنساني الدولي (الموقع الرسمي للجنة الدولية للصليب الأحمر). وهذا الأمر يستحق الاهتمام، ولا سيما في ظلّ تعدد الجماعات المسلحة في سوريا واختلاف توجهاتها، وكذلك تأكيد ارتكاب النظام لجرائم ضد الإنسانية بحسب القرارات المختلفة الصادرة عن الهيئات الأممية، وخاصة مجلس حقوق الإنسان والجمعية العامة ولجان التحقيق الخاصة في سورية[3]، ما قد يبرر إلى حدّ ما حالة الدفاع الشرعي وبالتالي ينفي صفة الإرهاب عن عديد المقاتلين المنضوين تحت إطار المعارضة المسلحة.
ومن خلال الاطلاع على مضمون القانون الرقم /19/الخاص الذي أسماه النظام بقانون “مكافحة الإرهاب” بأنّ أحكامه موجهة، ليس فقط ضد من يقوم فعلاً بأعمال إرهابية في سوريا، إنما أيضاً ضد المعارضة السورية بكل أشكالها وفئاتها، سواء أكانت مسلحة أو سلمية. فيحوي هذا القانون، المؤلف من 15 مادة، مصطلحات سياسية ومفاهيم فضفاضة تطال حتى من يمارس حقوقه السياسية المشروعة. ويعرّف القانون في مادته الأولى العمل الإرهابي بأنه ”كل فعل يهدف إلى إيجاد حالة من الذعر بين الناس أو الإخلال بالأمن العام أو الإضرار بالبنى التحتية أو الأساسية للدولة ويرتكب باستخدام الأسلحة أو الذخائر أو المتفجرات أو المواد الملتهبة أو المنتجات السامة أو المحرقة أو العوامل الوبائية أو الجرثومية مهما كان نوع هذه الوسائل أو باستخدام أي أداة تؤدي الغرض ذاته“.وتبدو عبارة “مهما كان نوع هذه الوسائل” قابلة للتفسير بشكل ينسحب إلى ما يمكن أن يندرج تحت إطار حرية الرأي والتعبير في حال انتقاد النظام السوري. ويظهر تسييس القانون من خلال نصّ المادة الثانية التي أشارت إلى ما دأب النظام على ترويجه للنيل من الحراك الشعبي وتشويهه، أي مصطلح “المؤامرة”، دون تعريفها أو تفسير معناها في أي من بنود القانون. كما نصت الفقرة الثالثة من المادة الثالثة صراحة على تشديد العقوبة ”إذا كان القصد من إنشاء المنظمة الإرهابية تغيير نظام الحكم في الدولة أو كيان الدولة“.أمّا المادة الثامنة، فتمتد لتطال غير المشاركين بأي ركن مادي للجريمة حيث تعاقب ”بالأشغالالشاقة المؤقتة كل من قام بتوزيع المطبوعات أو المعلومات المخزنة مهما كان شكلها بقصد الترويج لوسائل الإرهاب أو الأعمال الإرهابية وتنزل العقوبة نفسها بكل من أدار أو استعمل موقعاً الكترونياً لهذ الغرض“.
وسرعان ما أُلحق قانون “مكافحة الإرهاب” بقوانين ومراسيم أخرى، نذكر منها خاصة القانون الرقم /20/ لعام 2012 الذي يقضي بمادته الأولى بأن “يُسرَح من الخدمة كل عامل أو موظف في الدولة مهما كان القانون الخاضع له ويحرم من الأجر والراتب ومن كل الحقوق التقاعدية من تثبت إدانته بحكم قضائي مكتسب الدرجة القطعية بالقيام بأي عمل إرهابي، سواء كان فاعلاً أو محرّضاً أو متدخلاً أو شريكاً أو انضمامه إلى المجموعات الإرهابية أو تقديم أي عون مادي أو معنوي لهم بأي شكل من الأشكال.”ويبدو جلياً أنّ عبارة “العون المعنوي” الواردة في هذه المادة مبهمة للغاية، على نحو قد يسمح باتهام أي معارض للنظام حتى بالقول أو بالكتابة. وقد أتاحت فعلاً بنود قوانين “مكافحة الإرهــاب”ملاحقة العديد من المتظاهرين السلميين ومن العاملين في المجال الطبي والإغاثي، وكذلك رموز المعارضة السياسية من الذين لم يحملوا السلاح على الإطلاق أمثال ميشيل كيلو ومازن درويش[4]. وكما سبق بيانه، كان لا بدّ من محكمة استثنائية مسيسة خاصة وذات إجراءات سريعة للتمكن من البت بآلاف القضايا، الأمر الذي تكفّل به المرسوم الرئاسي الرقم 22 الصادر في الشهر السابع من عام 2012 المؤسس لمحكمة قضايا الإرهاب.
نُشر في العدد الثاني عشر من مجلة المفكرة القانونية
[1]أنظرأحكام المواد 6 و 7 و 8 (الفقرتين 1 و 2) و 11 و 15 و 16 و 18
.