لا يزال مصير الطلّاب اللبنانيّين في الخارج غير واضح مع استمرار جائحة كورونا وارتفاع الدولار مقابل الليرة، ومع استمرار وقف المصارف للتحويلات إلى الخارج. وفي ظلّ غياب إحصاء رسميّ لعدد الطلّاب المتضرّرين جرّاء هذه المشكلة، وفي ظلّ غياب أيّ حلّ واضح والحديث عن عدم توفّر الدولار في المصارف اللبنانيّة، خسر العديد من الطلّاب مقاعدهم الدراسيّة، ويعاني آخرون الأمرّين نتيجة الضائقة الماديّة التي نجمت عن عدم تحويل أهلهم للمال إليهم وهو ما أثّر على معيشتهم وسكنهم.
20 ألف طالب لبنانيّ في أوروبا هو الرقم الوحيد الذي ذكرته السفارة اللّبنانيّة في مراسلاتها مع أحد الطلّاب اللبنانيّين في فرنسا، ما يعني عدداً أكبر في باقي دول العالم، ومعظم هؤلاء يعانون نتيجة جائحة كورونا وأثرها على الاقتصاد اللبناني وأحوال أهاليهم المعيشية التي تزداد سوءاً مع استمرار الدولار في الارتفاع مقابل الليرة. وبحسب أحد أعضاء لجنة أهالي الطلاب اللبنانيين في الخارج فإنّ وزير التربية أحال الموضوع إلى وزير المالية الذي لم يقابل الأهالي حتّى الآن.
بدأت المشكلة في نهاية عام 2019 حين جمّدت المصارف اللبنانيّة تحويلات الدولار إلى الخارج، وأصبح على الأهل في ظلّ ارتفاع متزايد لسعر الصرف، تحويل الأموال من الليرة اللبنانيّة إلى الدولار ومن ثمّ تحويلها إلى الطلّاب في الخارج. وفي حين تقتصر مشكلة بعض الأهل على كيفية التحويل، أصبح تأمين قسط فصل واحد لأبناء أهالي آخرين يكلّفهم أربعة أضعاف رواتبهم.
ووصلت الضائقة ببعض الطلاب إلى بيع أغراض شخصية لتأمين قوتهم والاستدانة لشراء تذاكر سفر على متن طائرات الإجلاء للعودة إلى لبنان تاركين مقاعدهم الدراسيّة.
وضع الطلّاب المغتربين: ارتفاع قيمة الأقساط وانخفاض قيمة المنح
يقول جاد محي الدين، وهو طالب طبّ في روسيا وعضو في تكتلّ الطلّاب اللبنانيّين المغتربين، إنّ الحالة الأكثر انتشاراً وخطورة هي حالة الأهل الموظّفين في قطاعات الدولة أو يتقاضون رواتبهم بالليرة اللبنانيّة، الذين يضطرون إلى اقتطاع مبلغ كبير جداً من رواتبهم لشراء الدولار لتحويله إلى أبنائهم وبناتهم في الخارج عبر شركات تحويل، وليس عبر المصارف.
ويتوازى ذلك مع صعوبة عثور الطلاب على عمل يساعدهم على تأمين مصروفهم، كما الحال في أوكرانيا، حيث يتحدّث الطالب محمّد فيّاض أنّه بسبب عدم تمكّن أهله من تحويل الأموال له، بدأ البحث عن عمل ولكنه فشل في ذلك.
وغادر طلاب كثر أوكرانيا فيما لم يتمكّن آخرون من تأمين تذاكر العودة إلى لبنان. أما الذين عادوا إلى لبنان فيرجّحون ألّا يتمكّنوا من العودة لصعوبة أوضاعهم المادّية هم الذين قصدوا أوكرانيا بالدرجة الأولى لأنّ قيمة المعيشة فيها متدنّية. فبحسب ما قدّر الطلاب في أوكرانيا، فإنّ بطاقة السفر وقسط الجامعة إضافة إلى المصروف الشهريّ وكلفة السكن، تبلغ بحدود 40 مليون ليرة سنوياً، وهذا مبلغ كبير بالنسبة للوضع الاقتصادي الصعب الحالي الذي يعانيه الأهل في لبنان.
في أواخر سنة 2019 بدأت المشكلة مع عبّاس نحلة، طالب طبّ في بيلاروسيا، وكان حينها وضع سعر صرف الدولار أفضل من الآن. وبعد عودته من لبنان في أوائل 2020، تفاقمت المشكلة وتوقّف المصرف كليّاً عن السماح له بالسحب من البطاقة، رغم أنّ قيمة السحب كانت محدّدة بسقف 200 دولار شهرياً تقريباً. إذّاك، أصبح تأمين المال له أمراً صعباً على والدته بحيث لم يكن سهلاً تأمين الدولار لارتفاع سعره، فاستعانت بقريبتها في دولة أخرى لتحوّل الأموال له من هناك. يتحدّث عبّاس لـ”المفكّرة القانونيّة” عن أشخاص في بيلاروسيا، باعوا ملابسهم حتّى يدفعوا قيمة إيجار السكن، مع أنّ عقد الشقة يمهل الطلاب ثلاثة أشهر قبل توجيه إنذار قانوني، وأصحاب الشقق متفهّمون إلّا في حالات نادرة.
أمّا شهرزاد رحمة، وهي طالبة حاصلة على منحة من الجامعة اللبنانية لتحصيل شهادة الدكتوراه في كندا، فانخفضت قيمة منحتها التعليمية، التي يحوّلها أهلها لها عن طريق شيكات يحصلون عليها من الجامعة. اضطرت عائلتها إلى تحويل الدفعة الأولى من الليرة اللبنانيّة إلى الدولار لإرسالها إلى كندا. وقرّرت شهرزاد وعائلتها تجميد الدفعة الثانية لأنّ قيمتها ستنخفض بحوالي 4 مرات على الأقلّ مع الارتفاع المستمر للدولار. وبالتالي لن تستطيع العائلة تحويل سوى قيمة قسط فصل واحد بدون تأمين المعيشة والاحتياجات الأخرى. وتقول شهرزاد لـ”المفكّرة” إنّها ستطلب من الجامعة اللبنانيّة زيادة قيمة المنحة بسبب الانخفاض الحاد الذي شهدته قيمة الليرة اللبنانيّة مقابل الدولار.
الأزمة لا تنعكس فقط عجزاً عن تأمين الأقساط وكلفة المعيشة بل أيضاً عجزاً عن الحصول على الرعاية الصحية. فالناشطة إلهام مبارك تتحدث إلى “المفكرة” عن المعاناة التي مرّت بها حين أصيبت ابنتها يارا الحركة بفيروس كورونا خلال دراستها في إسبانيا. فقد استقبلت المستشفى يارا على أن تدفع تكاليف العلاج لاحقاً. ورغم تقديمها تقارير المستشفى إلى المصرف في لبنان وإثباتها حاجة يارا للمال في إسبانيا للحصول على العلاج، ماطل في إعطاء جواب واضح للوالدة ثمّ وعدها بأن يرفع سقف سحب البطاقة التي في حوزة ابنتها. استغرق طلب زيادة سقف السحوبات شهراً قبل أن يأتي جواب المصرف سلبيّاً، واقترح على الوالدة سحب الدولار من حسابها في لبنان على سعر صرف 3000 ليرة، ومن ثمّ تحويل المبلغ إلى دولار وإرساله عبر شركة التحويل.
ورغم أنّ يارا تلّقت إنذارين من المستشفى تطالبها فيهما بدفع المستحقّات وإلا تدفع غرامة إضافيّة، كان المصرف في لبنان يطالبها بترجمة أوراق المستشفى بعد ثلاثة أسابيع من تقديمها، ممّا دفع والدة يارا إلى اليأس من التعامل مع المصرف، فأعطتها رقم بطاقتها المصرفيّة الخاصّة التي يمكن استخدامها للسحب إلكترونياً، فاستعملتها يارا وسدّدت فاتورة المستشفى هناك، بدون المرور عبر وسيلة تحويل الأموال عبر المصرف.
حلول فرديّة في ظلّ أزمة عامّة
في ظل غياب الدولة عن حلّ أزمة الطلاب وتعنّت المصارف، عمد الأهل والطلّاب إلى إيجاد حلول بديلة ومؤقتة تخفف وطأة الوضع الذي يعيشون فيه في ظلّ استمرار أزمة التحويلات وارتفاع سعر صرف الدولار. إحدى الطرق التي اتبعها الطلاب بحسب ساره حرب وهي طالبة ماجستير في فرنسا، هو تبادل الأموال بين لبنانيين في الخارج يريدون تحويل مبالغ إلى أهلهم في لبنان، وبين أهل طلاب يعانون لتحويل الأموال إلى أبنائهم وبناتهم في فرنسا. فيتّفق أهل الطرفين على سعر صرف معيّن ويلتقيان في لبنان، وفي الوقت عينه يلتقي الطالب أو الطالبة في فرنسا بالشابّ أو الشابة الذي ينوي تحويل الأموال إلى أهله ويعطيه المال.
أما في أوكرانيا حيث أصبحت قيمة قسط الجامعة أربعة أضعاف قيمته السابقة بسبب ارتفاع قيمة الدولار، اتخذ بعض الطلاب بينهم محمد قراراً بالبقاء في أوكرانيا فترك مكان سكنه وانتقل للعيش مع أحد أقربائه، وبدأ يعمل سائق تاكسي. آخرون كذلك تركوا أماكن سكنهم وأصبحوا يعيشون 7 أشخاص في غرفة واحدة (25 متراً مربّعاً). وقام الطلاب بإنشاء صندوق لمساعدة بعضهم البعض، ولكن اليوم أصبح الوضع صعبا على الجميع، وبالتالي لم يعد الصندوق في أوكرانيا يفي الغرض.
في كندا، تتحدّث شهرزاد عن صعوبة إيجاد فرص عمل إلا في حرم الجامعة لا سيّما بسبب انتشار الكورونا والحظر الصحي المفروض على الجميع. ووفقاً لما قالته، فإنّ بعض الجامعات قدّمت مساعدات ماديّة للطلاب لتأمين إيجارات سكنهم، أمّا هي فتركت المكان الذي كانت تعيش فيه، وانتقلت لتعيش مع رفيقتها في الشقة نفسها.
بعض الدول قامت بدعم الطلاب الأجانب، ومن بينها ألمانيا. فبحسب الطالب شادي رشيد، أعفت الدولة الألمانية الطلاب المستأجرين من إيجار سنتين، وفتحت باب التقدّم للحصول على قروض صغيرة للطلّاب الأجانب (تصل إلى 1000 يورو). وفي فرنسا، قامت بعض الجمعيّات اللبنانيّة بتقديم مساعدات غذائيّة للطلاب هناك وإعانة ماليّة لدفع الإيجارات أيضاً. وطبعاً اضطر عدد من الطلّاب إلى التجمّع في شقق صغيرة لا تتعدّى مساحتها 20 متراً مربّعاً.
تكتلّ للطلاب المغتربين ودعاوى ضد المصارف
بعد شهر من انتشار فيروس كورونا في معظم الدول وإغلاق المصارف أبوابها وتفاقم أزمة الطلّاب، قام عدد من الطلاب اللبنانيّين في الخارج بإرسال فيديوهات إلى محطّات تلفزيونيّة لبنانيّة ومن بينهم طلّاب كانوا ينتمون إلى تكتلّ طلاب الجامعة اللبنانيّة الذي نشأ قبل سنة خلال إضرابات الطلاب والأساتذة في الجامعة اللبنانيّة. التقى الطلّاب عبر فيسبوك بهدف إعداد فيديو موحّد يشرح معاناة الطلّاب في كافة الدول، ومن الفيديو خرجت فكرة إنشاء تكتلّ الطلّاب اللبنانيّين المغتربين، وبعد اجتماعات وضع التكتلّ نظامه التعريفيّ وموقفه السياسيّ.
يضمّ التكتلّ حالياً طلّاباً لبنانيين في كلّ من فرنسا، وألمانيا، وليتوانيا، وإسبانيا، وإيطاليا، وبريطانيا، وروسيا، وبيلاروسيا، وجورجيا، وكندا. وفي كلّ بلد مندوب أنشأ مجموعة على “واتساب” تجمع عدداً من الطلّاب الموجودين في ذلك البلد. في التكتلّ، لجنة إعلاميّة ولجنة ثقافيّة وأخرى حقوقيّة. يشدّد جاد، أحد الأعضاء، أنّ عمل التكتلّ ليس مطلبيّاً فقط، بل هو عمل سياسيّ لأنّهم، كطلّاب، يعتبرون أنّهم تركوا لبنان لأسباب في جوهر النظام، ولغياب البحث العلميّ والتطوير وغياب دعم الجامعة اللبنانيّة. يقول جاد: “وجودنا هنا ليس عبثياً، بل نتيجة تراكمات لثلاثين سنة من سياسات البلد”. وتؤكّد مي طه، وهي إحدى أعضاء التكتلّ في فرنسا، على أنّ عمل الأخير ليس مؤقّتاً ولا ينتهي مع حلّ الأزمة المصرفيّة: “نحن ضدّ الفساد الحاصل في البلد، ونريد أن نكون مشاركين لناحية تحسين أوضاع الطلّاب الاقتصاديّة وناحية تحسين وضع الجامعة اللبنانيّة”.
يتحدّث جاد عن الحاجة إلى حلّ قانوني يستطيع الطلاب من خلاله الضغط على المصارف من أجل تسهيل التحويلات، خاصّة أنّه، ومع ارتفاع سعر صرف الدولار، أصبح تحويل مبلغ 500 دولار لأيّ طالب في الخارج يكلّف أهله راتبهم. ومعركة الطلّاب، بحسب شهرزاد، هي أن يكون سعر صرف الدولار المحوّل للطلاب في الخارج هو 1515، خاصّة أنّ الطلاب لا يريدون أن يخسروا مقاعدهم الدراسيّة هناك، ومعظم الجامعات الكنديّة ليست جامعات رسميّة وبالتالي تكلفتها عالية على الطلاب الأجانب تحديداً. هذا هو طلب الأهل أيضاً، بحيث تقول والدة إحدى الطالبات في الخارج إنّ ما يسعى إليه الأهل هو تحديد سعر صرف للطلاب بحيث لا يتكبّدون تكاليف إضافيّة لتحويل المال لأبنائهم في ظل ارتفاع الأسعار وتدهور الوضع المعيشي في لبنان.
وردّاً على ما يشاع عن نفاذ الدولار من المصارف، تقول مي طه إنّ للمصارف استثمارات وإيداعات في الخارج، يمكنها أن تستخدمها لتحويل الأموال إلى الطلاب، مؤكّدة أنّ تكتلّ الطلّاب سيضغط إعلاميّاً، وسيقوم بتحرّكات توازياً مع تحرّكات في لبنان، بالإضافة إلى التوجّه نحو الدعاوى القضائيّة ضدّ المصارف خصوصاً أنّ أيّاً من سفارات لبنان في الخارج، بحسب الطلاب الذين تحدثت إليهم “المفكرة”، لم تبدِ اهتماماً فعلياً في تقديم المساعدة لهم.
يشار إلى أنّه سبق أن رفعت دعاوى سابقة (خمس دعاوى قضائيّة حتّى الآن) بمبادرات فرديّة ضدّ المصارف التي رفضت تحويل الأموال، ونتج عن بعضها تحويل الأموال لشهر واحد فقط. وتشير المحامية مايا دغيدي لـ”المفكّرة” إلى أنّ دعاوى كهذه بحاجة إلى ضغط إعلاميّ لتتمكّن من الوصول إلى نتيجة ملموسة.
على جبهة أهالي الطلاب اللبنانيين في الخارج وقبيل انتشار أزمة كورونا في لبنان، اجتمع عدد منهم وأنشأوا لجنةً تضمّ حتى الآن أكثر من 300 عضو، مطلبها الأساسي توفير الدولار المدعوم أو “الطلابي” على سعر صرف 1515 ليرة لبنانية. قابلت اللجنة السفير الروسي في لبنان، وأطلعته على أوضاع الطلاب اللبنانيين المغتربين في روسيا، وقد ساعدهم الأخير بإبلاغ الجامعات هناك عن صعوبة التحويلات من لبنان. وبعد محاولات لمقابلة وزير التربية طارق المجذوب، أعلمهم أن الأمر متوقّف عند وزير المالية غازي وزني، إلا أن الأخير لم يجتمع بهم حتى اللحظة. وأشار عماد دبّوس، وهو عضو في لجنة الأهالي إلى أنّ انتشار الكورونا حدّ من عمل اللجنة، ومع ذلك قاموا بتحرّك أمام مصرف لبنان وأمام القصر الجمهوري خلال فترة الحجر، مطالبين بشكل أساسيّ بما أسموه “الدولار الطلابيّ”. وأشار إلى أنّ التحرّك المقبل سيكون طلب مقابلة رئيس مجلس الوزراء. وأضاف أنّه في حال ارتفاع سعر الدولار سيصبح صعباً على أبنائهم متابعة علمهم خارج لبنان، وربما داخله أيضاً لأنّ الجامعات هنا خصوصاً الجامعة اللبنانية لن تكون قادرة على استيعاب عدد الطلّاب في الخارج والذي يقارب 20 أو 25 ألف طالب.