“بس توصلي ع راس الحرف ع الحدّ المشترك بين جرود الضنّية- عكار- الهرمل احكيني ومنتّفق وين منتلاقى”، يقول الطافر “الرقم 1″، كما هو متعارف على تسميته في منطقة قضاء الهرمل. لاحقاً نعرف أنّ الرجل الخمسيني لا يمكن أن يكشف مكانه لأيّ كان “فكيف إذا للصحافة” كما يوضح. ليس بعيداً عن رأس الحرف وتحت لزّابة معمّرة، جلس الطافر (الذي سنشير إليه في هذا التحقيق بـ”رجل اللزّابة”) على تلّة تكشف المنطقة من جوانبها الأربعة “لازم تكون المنطقة مكشوفة وتحت نظري لإرتاح”، يبرّر.
بالقرب منه، يوجد غطاء صوفي ووسادة مع فرشة اسفنج: “مبارح صار في مداهمات بمنطقة قريبة فنمت هون تحت الشجرة”. هو واحد من آلاف الطفّار والمطلوبين بموجب 48 ألف مذكّرة توقيف وبلاغ بحث وتحرٍّ ووثيقة اتصال يتقاسمها قضاءا بعلبك والهرمل مناصفة تقريباً. هذا ما يؤكّده مصدر أمني لـ”المفكرة”: “ليس لدينا إحصاء مؤكّد، ولكنّ العدد متقارب بين منطقتي بعلبك والهرمل”، وفق ما يقول. لا توزيع دقيق للأرقام في المديرية العامّة لقوى الأمن الداخلي ولا في النيابة العامّة التمييزية، كما أتتنا الأجوبة من الجهتين “ما في داعي تقدّموا كتاب رسمي، ما في جواب”، قالوا لنا.
“المفكرة القانونية” قصدت بعض هؤلاء الطفّار في محاولة لفهم مقاربتهم لوضعهم وطرق حياتهم ويوميّاتهم.
ظاهرة “طفّار” الهرمل
نجد في كتب المعلومات (الأمنية) التي كتبها ضبّاط الجيش الفرنسي لصالح “القيادة العسكرية في سلسلة جبال لبنان الشرقية”، ومنها برقية الملازم مامية بتاريخ 23 تشرين الثاني 1924 قصصاً كثيرة وأسماء لطفّار من العشائر. كتب الملازم مامية في البرقية ما يأتي: “بالقرب من قرية الهرمل، في أودية لبنان، يعيش عدد من العائلات أكثر استقلالية من قرويي الهرمل الذين يقيمون معهم علاقات جيدة جداً. من بين هذه العائلات عدد من الأفراد المطلوبين من قبل العدالة بتهم سلب ونهب ويُطلق عليهم اسم طفّار الهرمل”. وفي البرقية عينها، يتحدّث الملازم مامية عن مطلوبين كثر “من أيام الأتراك”.
وعليه، تتناقل أجيال المنطقة وخصوصاً من العشائر قصص الطفّار أباً عن جد منذ الاستعمار التركي مروراً بالفرنسي ومن ثمّ دولة الاستقلال، وصولاً إلى اليوم. فالرّجال ساكنو الجبال قبل أن يبدأوا منذ نحو سبعين عاماً نزوحهم المستمر من جرود الهرمل في السلسلة الشرقية التي استقرّوا فيها منذ أواخر القرن الثامن عشر، نحو الهرمل وسهلها لغاية اليوم، طالما كانوا على خلاف مع السلطات بحكم نمط حياتهم وعدائهم لكلّ غريب ومحتلّ. وقد شكّلت ثورة فيسان (1926) التي خاضتها عشيرة جعفر بمساندة أبناء عدد من العشائر وانهزم فيها الفرنسيون، مفصلاً أساسياً في زيادة عدد الطفّار من جهة، وتعميم منظومة حياة متكاملة للخارجين على القانون الذين وصفهم وزير العمل الأسبق والكاتب طراد حمادة بأولئك الذين “منازلهم على ظهور خيولهم”، في إشارة إلى أنّهم كانوا فرسان زمانهم، وتوثيقاً لانعدام الاستقرار الذي طبع نمط عيشهم. وهو نمط ساعدت طبيعة الجرود الوعرة في تثبيته حيث لم تعرف الطرقات قبل الخمسينيات، وبقيت طرقاتها ترابية عسكرية لا تصلح إلّا للسيارات الرباعية الدفع لغاية نهاية التسعينيّات، وبعيدة عن أعين الدولة. ومع الوقت والتطوّر استُبدلت الخيول بالسيارات وآليات البيك آب الرباعية الدفع التي تتحوّل إلى منازل للطفّار خلال الحملات الأمنية والمداهمات.
حتى العام 1990، تاريخ قرار الدولة اللبنانية التشدّد في منع زراعة الحشيشة، انحصرتْ تهم الطفّار بتهم الثأر والقتل المرتبطة به وفق ما يؤكّد د. فؤاد خليل (الاختصاصي في علم الاجتماع والأستاذ المتقاعد من الجامعة اللبنانية) لـ”المفكرة”. توسّعت هذه التهم لتشمل تهم زراعة الحشيشة ابتداء من التسعينيّات. وهو ما رفع عدد الطفّار منذ 1990 ولغاية اليوم بالآلاف، ليصل رقم مذكّرات التوقيف وبلاغات البحث والتحرّي ووثائق الاتّصال إلى 48 ألفاً. ولم تعد التهمة محصورة بزراعة المخدّرات بل تعدّتها إلى الترويج والإتجار طبعاً، وهي تهم “تحتكرها” المنطقة بشكل عام إلى درجة شكّل معها طفّارها فئة وازنة بين الفئات الثلاث المعنيّة باستصدار قانون عفو عامّ.
من هم الطفّار؟
في حديثه معنا، يميّز د. فؤاد خليل بين الطافر والمطلوب: “الطافر هو من يهرب من السلطات العامّة بحماية السلطة العشائرية”، وهو ما يميّزه عن “الإنسان العادي الذي يفرّ من وجه القانون وتعود الدولة لتقبض عليه”. وفي شرحه لأسباب تمييزه بين الطافر بتهم المخدّرات والثأر وبين المطلوبين بتهم النهب والسلب والسرقة وغيرها، يعتبر خليل أنّ “الأخذ بالثأر عند العشائر هو آليّة تعيد إنتاج اللُحمة داخل العشيرة التي تنكسر وتنخفض لدى مقتل أحد أبنائها، فيأتي الأخذ بالثأر ليعيد إنتاج اللحمة العشائرية، ولحم الكسر”. أمّا المخدّرات فهي “اقتصاد عنفي محمي من العشيرة”، ولكنّ السرقة على أنواعها “دخيلة على العرف العشائري، ويبقى المتّهمون فيها مطلوبين خارج توصيف الطفّار”، حسب ما يقول. ويرى أنّ الطفّار في أيّام الأتراك ومن ثمّ الفرنسيين هم أنفسهم الطفّار من الدولة اللبنانية “كانوا يطفرون من الأتراك والفرنسيين ويحتمون في الجرود ومن ثمّ يعتدون عليهم (على العثمانيين والفرنسيين)، وكذلك مع الدولة اللبنانية”. ولكن عندما تنجز العشيرة تسوية مع الدولة تسلّم طفّارها ليخضعوا لمحاكمة صورية، وهي أمور كانت تحصل مع الأتراك والفرنسيين”. فالسلطة المركزية “بتعمل حساباتها بدقّة لدى الاصطدام مع السلطة العشائرية، وهي تحاول استيعابها، ولنا في المرحلة الشهابية أكبر مثال” على ذلك.
وتنسجم نظرة الطفّار لأنفسهم مع تحليل د. خليل وتوصيفه. فتهم الثأر والمخدرات وخصوصاً زراعة الحشيشة لا تدخل في مفهوم العيب لدى أبناء المنطقة وتحديداً العشائر: “الأخذ بالثأر بتعتبره الأكثرية واجب وخصوصاً عندما تتقاعس السلطات عن إحقاق العدالة، وهذا ما يحصل غالباً، إذ يبقى القاتل حرّاً طليقاً” يوضح أحد كبار الطفّار (من حيث عدد مذكّرات التوقيف بحقّه وسنوات الطفر) منذ أكثر من 20 عاماً. أمّا المخدّرات فتقع في باب “مرغم أخاك لا بطل، نحن الدولة بتدفعنا دفع ع هيدا الشغل أو منموت من الجوع، أو بدنا نسرق وننهب وهيدا شي ما بيناسب أخلاقياتنا”، وفق الطافر نفسه. ولذا لا تضمّ مجموعات الطفّار بتهم الثأر وزراعة الحشيشة والمخدّرات “حراميي وقطّاع طرق أو خاطفين، هودي منبوذين من قبلنا، ولا ندخلهم ضمن مجموعاتنا كطفّار، وهم غالباً يهربون إلى سوريا وليس إلى الجرود مثلنا”.
قصص طفّار والعدالة من منظورهم
عدا عن أنّ الطفّار يعدّون أنفسهم ضحايا ظروف المنطقة وحرمانها المزمن، فإنّهم يعبّرون أيضاً عن عدم ثقتهم في نظام العدالة ككل والذي يكثرون الأحاديث عن فساده.
يحمل “رجل اللزّابة” رتبة “الرقم 1” لأنّه مطلوب بتهم ثلاث: “القتل والإتجار بالمخدّرات والفرار من السجن”. و”لكلّ تهمة حيثياتها وأسبابها”، يقول وهو ينفث دخان سيجارته مع تنهيدة عميقة.
كان في العشرين من عمره عندما حصل اشتباك مسلّح بين عائلته وعائلة أخرى: “قُتل ابن عمي وأصبتُ أنا ولكنني تمكّنت من قتل المهاجم”. وتحمّلاً لمسؤوليّته في القتل “دفاعاً عن النفس”، كما يقول، سلّم “رجل اللزّابة” نفسه للقوى الأمنية “قلت بيجيني حكم مخفّف نظراً لظروف الجريمة وبطلع بكمّل حياتي”. بقي في السجن سنة كاملة من دون أن يساق إلى أي جلسة محاكمة: “اكتشفت أنّ خصومي يتمتّعون بنفوذ كبير، وأرادوا إبقائي في السجن قدر الإمكان”. وعليه، استعملت عائلته بدورها نفوذها وأخرجته من السجن بكفالة مالية “عملنا واسطة كتير كبيرة”.
بعد خروجه من السجن، قرر أنّه لن يعود إليه. فلم يستجب لاستدعائه إلى جلسة محاكمة: “عرفت رح يوقفوني ويرجعوا يزتّوني لتختخ بالحبس”. هذا ما توعّده به أحد الضباط السوريين (وكان الجيش السوري ما يزال متواجداً في لبنان): “كانت واسطة عائلة القتيل قوية مع الضابط السوري (ذكر اسمه ولكن آثرنا عدم نشره)، وكان يقول قدّام كلّ الناس بده يزتّني بالحبس كل عمري”. وعليه صار الرجل مطلوباً وبالتالي انضمّ إلى الطفّار.
بعد أشهر من تواريه عن الأنظار، جاءته الأخبار السيّئة: “اتّصل بي رجل أمن صديقي وأخبرني بأنّ اسمي موجود في مكتب مكافحة المخدّرات كتاجر”. يقسم الرجل أنّه لم يكن قد عمل في هذا المجال أبداً: “بعدين عرفت إنّه في ناس بتحطّ أسماء مطلوبين، وأوقات محقّقين بيحطّوا أسماء طفّار حتى يغطّوا ع ناس محميين. يعني طالما مطلوب فجلدك بيحمل اتهامات”. طبعاً لم يكن وارداً بالنسبة إليه أن يسلّم نفسه لكي يبرّئ ساحته “بيفتحوا لي ملف جريمة القتل، وهيك صرت مطلوب كقاتل وتاجر مخدّرات”.
وبعد أن أنفق كلّ ما لديه من مال وانعدام فرص العمل أمامه كونه مطلوب وبما أنّ الدولة أعلنته تاجر مخدّرات وأصدرت بحقّه أكثر من مذكرة توقيف بهذه التهمة، استدان مالاً وبدأ بالإتجار بالمخدرات. “شو بعمل؟ بشحد؟ عندي مصاريف، بدي آكل، وبدي مكان عيش فيه”، يقول، إذ لا يسعه العيش في البراري كلّ الوقت، ولا أن يتنقّل “من بيت لبيت، بعدين أنا بالنسبة لهم تاجر مخدرات أصلاً”.
يعترف أنّ الإتجار بالمخدرات خفّف من مأساته كطافر: “صار فيي إحصل ع كتير أشياء بالمصاري، عمّرت بيت بمنطقة قلّما تقصدها القوى الأمنية وصار عندي سقف نام تحته ملكي أنا”. وظّف أشخاصاً للحراسة “يتناوبون ليلاً نهاراً ليراقبوا المنطقة” تجنّباً لوقوع مداهمة مفاجئة. لكن بعض الاستقرار الذي نعم به لم يدُم كثيراً، إذ وقع في أيدي القوى الأمنية خلال دورية كانت تلاحق متّهماً بالسرقة، وتمّ سوقه إلى سجن رومية.
في السجن، تعرّف إلى “أبواب الفساد” كما يسمّيها. “معك واسطة ومصاري بيمشي الحال، غير هيك بتموتي بالحبس”. دفع 10 آلاف دولار ليكون لديه غرفة له وحده “ما فيي سكنت مع ستّين شخص لنام راس وكعب”. اقتنى تلفازاً وبرّاداً وثلاجة “وكنت إدفع لأحد الضباط 3 آلاف دولار بالشهر لكي أتمتّع بهذه الامتيازات”.
عندما رأى الضابط أنّه يعيش بمستوى جيّد وتصله كلّ احتياجاته إلى السجن، رفع البدل الشهري من 3 آلاف دولار إلى 30 ألفاً: “بدي منك 30 ألف دولار بالشهر، إنت معك مصاري كتير” قال له. رفض رجل اللزّابة دفع 30 ألف دولار لأنه غير قادر على ذلك، “ففُتحت عليّ نار جهنّم”، يقول. سلّط الضابط عليه شاويش السجن ليتحكّم به: “يسكّروا عليي باب الغرفة ويحبسوني جوّاتها، يضايقوني بكل شي ويحاولوا يعتدوا عليي”. هذا الوضع حوّل حياته إلى جحيم فقرّر الفرار من السجن ووضع خطّته لتنفيذ قراره: “صار معي سكّري وتدهورت صحّتي كتير، حسّيت رح موت جوا”. كلّفه تنفيذ الخطّة المبلغ المرقوم “ما بدّي قول قدّيش، بس المبلغ كتير كبير، بين رشاوى ولوجستيّات”، وفعلاً نجح في الفرار والعودة إلى حياة الطفّار. لاحقاً علم أنّ هذا الضابط (ذكر اسمه ولكن آثرنا عدم نشره) حوكم بتهم الفساد “بس ما بعرف إذا حبسوه أم لا”.
لا يعرف اليوم عدد مذكّرات التوقيف الصادرة بحقه “يمكن شي مية مذكرة”. ولكنّه يعرف أنّ قوّة أمنية كبيرة داهمت منزله قبل ثلاث سنوات “شفتهن من بعيد وهربت”، فقاموا بتكسير بيته وتخريبه “حتى البرّاد كسروه وما تركوا باب أو زجاج، أو تخت أو كنباية، حولّوه إلى خراب”.
يقول طافر ثانٍ قابلته “المفكرة”، وهو مطلوب بنحو ثلاثين مذكرة توقيف “أو أكتر ما بعرف”، إنّه يتمنّى أن يكون “حرّاً” فقط ليرفع دعوى على الدولة بتهمة إفساد حياته “وحياة كلّ شبّان المنطقة”.
كان هذا الطافر حزبياً قاتل مع حزبه خلال الحرب اللبنانية وأصيب في أكثر من معركة. انتهت الحرب وعاد إلى منطقته محاولاً استئناف حياته “ما في شغل ومتطلّبات الحياة كثيرة”. زرع أرض عائلته حشيشة “كل الناس عم تزرع لتعيش، والتاجر هو الغني وواصل بالوسايط ومش مطلوب”، فصار مطلوباً. يقول إنّ معظم أبناء المنطقة لا يحظون بفرصة للحياة الكريمة والسليمة إلّا إذا غادروها “أنا ما قدرت تعلّمت، كان أبي مزارعاً فقيراً”. وعندما صار مطلوباً بدأت تأتيه الدعاوى بتهم الإتجار بالمخدرات “المزارع ما بيزرع حشيشة حتى ياكلها، بيزرعها ليبيعها”، يبرّر.
عندما بدأ مسيرته مع الحشيشة، لم يفكّر إلاّ في تعليم أبنائه “قلت بدي إعمل لهم مستقبل، وعلمت أخي كمان”. قرر أن يكون “كبش المحرقة”، ولولا ما عملت هيك ولا ولد من أولادي شاف بيروت والجامعة”. يعزّ عليه أنه لم يتمكن من حضور تخرج أي من أولاده في الجامعة”، وأيضاً أن يشعر أبناؤه بالحرج كون والدهم طافراً “بقلي إبني أنه بيحمر وجه وبيرتبك بس يسألوه رفقاته شو بيشتغل أبوك”.
طافر ثالث يحدّثنا عن أوضاع السجون “أسهل مكان للحصول على المخدّرات هو داخل السجن. كان أحد الضبّاط (ضبط لاحقاً بالفساد) يفوّت شنط مخدرات وتنباع جوا”.
أين يعيش الطفّار؟
فرضت ظاهرة الطفّار أماكنها وأساليب حياة ونوعية سيارات وآليات ومعها أنماط للعلاقات الاجتماعية، وحكمت حياة عائلاتهم أيضاً. ونجد في بعض مناطق العشائر أحياء يسمّى بعضها بـ”حي الطفّار”. وسيارات الطفّار وآليات البيك آب الخاصّة بهم مميّزة: رباعية الدفع لتصلح للسير في الأماكن الوعرة، غالباً ما يتمّ تعديل محرّكاتها لتصبح صالحة لتسير على الثلج وفي أماكن لا يوجد فيها طرقات وتسمح بالفرار من القوى الأمنية عند الضرورة.
وتتركّز الأحياء التي يسكّنها الطفّار على أطراف المدينة وبعيداً عن سكن بقيّة العشيرة وتصلها بالجرود طرقات فرعية من دون أن تمرّ بالطرقات العامّة التي يسلكها عامّة الناس. ويمتلك بعض الطفّار وخصوصاً من ميسوري الحال، وعادة يكون هؤلاء من تجّار المخدرات، أكثر من منزل: واحد في “كانتون” العشيرة في الهرمل تعيش فيه عائلة الطافر حيث يسهل إرسال أطفاله إلى المدارس ويقضون الشتاء فيه هرباً من صقيع الجرود، ومنزل آخر في منطقة وسطى بين الجرد والهرمل يكون بعيداً عن متناول القوى الأمنية التي لا تقصد الجرود إلّا بقرار رسمي، وثالث في أعالي الجرود من ارتفاع 2000 متر وما فوق. ويكون هذا الأخير للسكن الصيفي. ولكن قد يضطرّ الطفّار لقضاء الشتاء فيه في حال لم يرتاحوا للأوضاع الأمنية أو خشيوا من مداهمات فجائية. وعادة، لا يسكن الطفّار بشكل دائم مع أسرهم بل يزورونها فجأة وفي أوقات غير محدّدة قبلاً، وغالباً ما تكون هذه الزيارات خاطفة وقلقة. ولا يتجمّع الطفار في مكان واحد: “لوجستياً نعيش في أمكنة لا تصلها القوى الأمنية بسهولة، أي في الجرود البعيدة صيفاً وأحياناً خلال الشتاء”، ولا ينزل إلى المدينة إلّا “لبيزبّط وضعه، يعني يدفع مصاري مقابل حمايته وإعلامه بموعد المداهمات”، يؤكد أحد الطفّار ليضيف “في طافر عنده علاقات مهمّة مع الأجهزة الأمنية، بس ينزل ع المدينة منرتاح كلّنا، منعرف إنّه ما في مداهمات فمننزل نقعد مع عيلنا شوي”.
ولكلّ عشيرة طفّارها، لذلك لا نجد طفّاراً من هذه العشيرة يسكنون في منطقة سكن طفّار عشيرة أخرى، فهم رغم أنّ صفة الطفّار تجمعهم إلّا أنّهم محكومون بعلاقة عشائرهم ببعضها البعض. ففي حال وجود مشاكل بين عشيرتين، يكون طفّارهما في صلب الخصومة ولا ينتصرون لمشكلتهم على حساب انتمائهم للعشيرة.
ولكن ينسّق الطفّار من العشائر في حال عدم وجود مشاكل بين عشائرهم. ففي حال حصلت مداهمة عسكرية لطفّار عشيرة ما وفي جردها، يتّصل الطفّار من عشائر أخرى بهؤلاء ويستفسرون عن سبب المداهمة: “هل هي نتيجة حادثة أمنية حصلت داخل العشيرة التي استهدفتها المداهمة؟ أم أنّها جرت بنيّة القبض على الطفّار؟”. في الحالة الأولى، يعتبر كلّ الطفّار أنّ الأمر خاص بالعشيرة التي تمّت مداهمتها. أمّا في الثانية فيأخذ الجميع حذرهم ويغيّرون أماكن سكنهم ويمعنون الصعود نحو أعالي الجرود تحسّباً لأيّ قرار رسمي بالقبض عليهم، أو لخطّة أمنية تقصد محاصرتهم، وفق ما يؤكد أكثر من طافر لـ”المفكرة”. وفي هذا الإطار، روى لنا أحد الطفّار عن مداهمة حصلت في إحدى ليالي الشتاء دفعتهم للهروب إلى الجرود. يومها وصلت سيارته وكان معه صديقه الطافر أيضاً إلى تلّة لم يكن من الممكن تجاوزها بسبب كثافة الثلوج وتحوّلها إلى جليد مع تدنّي درجات الحرارة: “تركنا السيارة وحاولنا نطلع مشي، صاروا إجرينا يلزقوا بالأرض ونوقع ونقوم بأرضنا والتلج يسفق فينا وع وجوهنا”. زحفاً على بطونهم، عادا إلى السيارة “شلنا أغصان من الأشجار وغطّيناها حتى ما تكشفها المروحية”، وناموا في السيارة وكانت درجة الحرارة تقارب 12 تحت الصفر “فكّرنا إنّه ممكن نجلّد ونموت بس ما كان عنّا خيار”.
ويكوّن الطفار عادة مجموعات، بما يسمح لهم خلال وجودهم في الجرود قضاء الليالي في سهرات جماعية أو يتوزّعون مجموعات صغيرة للعب ورق الشدّة والتسامر وتناول العشاء. ويعود كلّ منهم للمبيت في منزله بشكل عام. ويتبادلون العزائم والدعوات إلى الغداء كما الواجبات الاجتماعية، ولكنّهم يتجنّبون التجمّع في حال وصلتهم معلومات عن إمكانية حصول مداهمات “لكي لا يقبضوا علينا مجتمعين”. ويحصل أن ينتصر الطفّار لبعضهم البعض في حال حصول اشتباكات مع القوى الأمنية فيحولون دون القبض على أحدهم عبر مساندته. ولا يختلط الطفّار المطلوبون بتهم المخدرات والثأر بالمطلوبين بتهم السرقة والسلب والنهب والخطف لسببين رئيسيين: يتعلّق الأول بنبذهم لسلوكيات من يسمّونهم “الحرامية”، كما يقول أحد كبار الطفّار، كما لأنّ الدولة لا تتساهل مع السرقات وقطّاع الطرق “المخدّرات هي حق عام واعتداء على المجتمع، أمّا السرقات فهي حق شخصي واعتداء على أفراد معيّنين ضمن المجتمع”، كما يوضح الطافر نفسه. وبالتالي لا يسمحون لهم بالاقتراب منهم والانخراط في مجتمعهم. حتى المجتمع نفسه يميّز بين الطفّار والمطلوبين بتهم السرقة وقطع الطرقات: “نحن مقبولين من المجتمع ومحترمين، وبينما تنبذ العشيرة الحرامية وقطّاع الطرق، نشارك نحن في قرارات مجلس العشيرة ونساهم في دفع المال في الأفراح والأتراح ويؤخذ برأينا في القرارات المصيرية للعشيرة، وبيننا من هم وجهاء في عشائرهم ولهم كلمة الفصل في مسائل كثيرة”، يضيف.
القلق أو سجن الحرية
ماذا يعني أن تكون طافراً؟ نسأل أحد الطفّار. “الطافر ما بينام ليل بالكامل، القلق هو رفيق حياته، التنقّل المستمرّ حتمي، ما في خطط للمستقبل، ما في استقرار، ما في حياة”. يحصل أن يضطرّ للنوم شهراً كاملاً في البراري “ياما إيام نمت بالتلال وع الصخور وبالكهوف، بينما بيتي بعيد عني 500 متر ومش قادر نام فيه”. والأهم بالنسبة له هي الثقة “أنا ما بزور مين ما كان، ما باكل من إيد حدا، ولا بشرب قهوة بكلّ المحلات”. وطبعاً لا يمكن أن يعرف كثيرون بمكانه “في ناس ممكن تقبض مصاري للوشاية بي ويسهّلون القبض عليّ”، ولذا يتجنّب قدر الإمكان مخالطة الناس “يعني سجين بمعنى من المعاني، بس طبعاً أرحم بكتير من سجون الدولة لي بيصير فيها العجايب ويمكن يتورّط فيها الإنسان بإشيا كتير”.
طافر آخر، يبتسم ابتسامة ساخرة فيها الكثير من المرارة قبل أن يردّ على السؤال: “السجين عنده حقوق أكتر من الطّافر”، بالنسبة له. إذا احتاج السجين إلى عملية جراحية يمكنه أن يجريها وأن يبقى في المستشفى حتى يتعافى ويعود إلى السجن “بينما نحن لا يمكننا حتى زيارة الطبيب وإجراء فحوصات دم، وقد نموت من دون أن نؤمّن علاجنا”. يحكي الرجل عن إحدى المرات عندما أصيب بعارض صحّي “عملنا وسايط الدني حتى أمنّا طريق على المستشفى”. هناك قرّر الطبيب إجراء تمييل لقلبه (قسطرة) “وطلع لازم ركب راسّورين”. بعد ساعة من تركيب الراسّورين، طلب إخراجه من المستشفى ولم يقبل الطبيب بذلك إلّا بعد أن وقّع ورقة تفيد بخروجه على مسؤوليته الخاصّة: “كان ممكن يصير معي أي شي، بس خفت تقبض عليي الدولة ويكلبجوني بالمستشفى، متل ما صار مع صديقي”. كان صديقه يشعر بأنّ قلبه ليس على ما يرام، ولكنّه “لم يتدبّر واسطة لكي يجري فحوصات تكشف حالته الصحية، وفجأة أصيب بنوبة قلبية نقلته عائلته على إثرها إلى المستشفى فوصلها فاقداً للوعي. وأثناء وجوده في الكوما، قبضت عليه القوى الأمنية ووضعت الأصفاد في يديه. ستّة أشهر قضاها الرجل في الكوما ويداه مكبّلتان فيما يحرس غرفته رجلا أمن، ولم يخرج من سريره إلّا إلى القبر.
والسجين، بالنسبة إلى الطّافر ينام ملء جفونه “ما بينام قلق وخايف من مداهمة بأي لحظة”. وعائلة السجين تحزن لسجنه وتتأثر به ولكنّها “لا تعيش مرعوبة كما عائلاتنا”. يقول إنّ أمّه وأباه وزوجته وأبناءه وأخوته يعيشون في حالة خوف دائم: “أنا ما بسترجي إجي ع بيتي ليس لأننّي أخاف أن يقبضوا عليّ فقط، بل لأنني لا أريد أن يداهموا المنزل وأولادي بداخله، يمكن يقتلوهن في ظلّ تنفيذ الإعدامات الميدانية”. نسأله ماذا يقصد بالإعدامات الميدانية: “كتير أوقات بيجوا القوى الأمنية ليقبضوا ع متّهم، فيقومون فوراً بإطلاق النار عليه، أليست هذه محاكمة ميدانية وتنفيذاً لحكم بالإعدام؟”، يسأل ويجيب نفسه، ليؤكّد أنّ الأمثلة لا تعدّ ولا تحصى.
عائلات الطفّار
هذه “الإعدامات الميدانية” هي مصدر قلق أساسي لدى عائلات الطفّار: “دايماً بفكّر إذا قتلوا زوجي خلال القبض عليه، كيف ممكن ربّي وعيّش أولادي الأربعة، غير إنّه بدّي إخسره”، تقول زوجة أحد الطفّار التي يتركّز همها الأساسي على بناء بيت يحميها وأطفالها من التشرّد في “حال حصول مكروه لزوجي”. لا يعيش الطفّار في قلق فقط بل عائلاتهم أيضاً “نحن منقلق عليهم ومنقلق ع أولادنا وع حالنا”، تقول الزوجة. ومع ذلك تحرص نساء الطفّار على عدم إشعار أزواجهنّ بهذا القلق “منقول لي فيهم مكفّيهم ومنخبّي الرعب لي عايشين فيه”. تقول هذه المرأة إنّها تخاف لدى سماعها أيّ صوت بالقرب من منزلها “بفكّر إجا الجيش يداهم البيت وبخاف ع الأولاد إذا كان زوجي هربان، بخاف شي نهار يفوتو علينا ويبلشو يقوّصو”. لا تعرف كيف تشرح لصغارها غياب أبيهم المتكرّر والطويل أحياناً عن المنزل، ولماذا لا يقلّهم بسيارته إلى المدرسة ولا يحضر الاجتماعات ولا النشاطات التي يشاركون فيها، وخصوصاً لماذا لا يصطحبهم في مشاوير خارج الهرمل كما بقيّة الأطفال الذين يخرجون بصحبة أهلهم..
زوجة طافر آخر مصاب بمرض مزمن تضطرّ لترك أولادها وحدهم والبقاء معه لفترات طويلة يكون وضعه الصحّي فيها دقيقاً: “كنت أتركهم مع أختهم وعمرها 13 سنة”. حصل في إحدى المرّات أن فاجأتهم مداهمة عسكرية وكان زوجها ينام بقربها وكان يتنقّل بهويّة شقيقه التوأم غير الطافر: “ركعت قدّام الضابط وقلت له أستر عليي الله يستر ع عيلتك وما تفضحني”، فترك المنزل من دون القبض عليه “ما فلّوا إلّا كانت طلعت روحي”.
تروي ابنة أحد الطفّار كيف أثّرت حياة والدها على حياتها الشخصية: “تعرّفت بالجامعة ع شاب من بيروت وحبّينا بعضنا”. لم تتجرّأ أن تخبره أنّ والدها طافر وأنّ لديها شقيقاً في السجن “حلمت كتير بحياة مختلفة خالية من الخوف والقلق، تخيّلت كتير كيف ممكن عيش معه ببيت ما خاف فيه من مداهمة مفاجأة أو من إطلاق نار، وكنت حسّ بسعادة حتى أنا وعارفة إنّي عم إتخيّل”، تقول وهي تسرح بنظرها بعيداً. لكن زمن هذه الأحلام كان قصيراً. إذ وبعد مماطلتها بتعريف الشاب إلى عائلتها، فوجئت يوماً بوصوله إلى منزل أبيها في الجرد: “كان أبي موجوداً ولديه ثلاثة طفّار بكامل سلاحهم”. خرجت إلى مصطبة الدار لتجد حبيبها يتحدّث مع والدها. رآها من بعيد قبل أن تعود أدراجها هاربة إلى الداخل، ثم غادر بعد دقائق قليلة. عندما عادت إلى الهرمل، اتّصلت به فبادرها قبل أن تنبس ببنت شفة بالقول: “إنسي كل شي قلتلّك إياه، أنا ما بينسابني إرتبط ببنت طافر وأخت سجين”. كان الشاب قد تقصّى عن عائلتها وقام شاب من عشيرة ثانية بمساعدته لإيصاله إلى منزل أهلها حيث رأى بأمّ عينه كلّ شيء، وبالتالي قطع علاقته بها “ممنوع حتى الحلم بالاستقرار، نحن محكومين بوضع أهلنا وليس بما نحن عليه”، تقول بحزن شديد.
شقيقة أحد الطفّار ترغب في الحديث عن الوضع المادي لأسرتها “توفّي أبي قبل 20 عاماً واضطرّ أخي لزراعة الحشيشة ومن ثم صار مطلوباً بالمخدرات ليعيل أسرة مؤلّفة من ست بنات”. خلال غيابه المتكرّر والطويل عن البيت، تساعد هذه الصبية زوجة أخيها برعاية أطفاله، خصوصاً أنّ وضعهم المادي سيّئ: “مرّة غاب كتير وما كان معنا مصاري”، وطلب أولاده أن يأكلوا لحماً “كان صرلنا 4 أشهر ما فوّتنا اللحمة ع البيت”. قصدت ملحمة الحي وطلبت من صاحبها “عندك لحمة للكلب؟”. يبدو أنّ اللحام عرف أنّها لا تريد لحماً للكلب وإنّما لهم: “فأعطاني شي كيلو لحمة”. عادت إلى البيت وشمّت قطعة اللحمة لتجدها غير فاسدة “كتير انبسطت وطبخت عليها للأولاد وأكلنا كلّنا”.
ولدى الصبية نفسها مغامرات كثيرة مع المداهمات الأمنية “بضطرّ خبّي الفرد (المسدس) بعبّي، وأوقات بهرب بالبارودة إذا ما كانت مخبّاية بمكان آمن”. وأحياناً تواجه العناصر الأمنية وهم يوجّهون سلاحهم إلى صدور من هم داخل البيت “بيفكروا إنّه أخي بالبيت ومتخبّي عليهم”. كلّ هذا جعلها تعيش حالة عصبية مستمرّة “شوفي إيديي كيف بيرجفوا كلّ الوقت وعندّي دقات قلب سريعة وبضلّ مريضة”.
نُشر هذا المقال في العدد 1 من “ملف” المفكرة القانونية | الهرمل